ما لا يبوح به الآخرون … المتغيرات و الثوابت و جبروت الواقع ! ( الجزء الثاني ) / د. لبيب قمحاوي

422

 د. لبيب قمحاوي ( الأردن ) الأربعاء 11/1017 م …

الخيار الرسمي العربي باسترضاء إسرائيل وكف شَرَّها انتهاءاً بالتحالف معها بالاضافة الى الخيار الرسمي الفلسطيني بوقف المقاومة و الكفاح المسلح أمران ساهما في حصر خيارات الفلسطينيين تحت الاحتلال و أرغَمَهُم على التعامل مع واقعهم بواقعية حتى و إن كان ذلك عن مضض . فإستسلام القيادة الفلسطينية والغاء نهج المقاومة و الاستسلام العربي الرسمي التدريجي لاسرائيل و تنامي قوة اليمين الاسرائيلي كلها أمور ساهمت بالنتيجة في إعادة تشكيل أولويات الفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال .

يتم العمل الآن بشكل حثيث ومن قِبَلْ عدة أطراف على تطويع الفلسطينيين تحت الاحتلال الذين ساهم الإحتلال في توحيد واقعهم السيء وبالتالي في توحيد مطالبهم الوطنية و رؤيتهم للمستقبل تحت وطأة ضغوط و قسوة ذلك الاحتلال و بمعزل عن ما قد يريده باقي الفلسطينيين في الشتات . وهكذا فإن دور الاحتلال كقوة تشتيت و تمزيق للشعب الفلسطيني عام 1948 قد تغير بعد احتلال كامل فلسطين و بعد استمراره لعقود طويلة وتفشي المستوطنات وتَفَاقُمْ التمييز ضد الفلسطينيين ليصبح قوة جامعة لبؤسهم ، و مُوَحِدّة لمشاعرهم ومعاناتهم المشتركة و أهدافهم تحت وطأة ذلك الاحتلال و ظلمه و جبروته و إضطهاده ، مما أدى بالنتيجة إلى إعادة صَهْرَهُم و صَهْرِ مطالبهم على شكل أهداف جديدة ضمن مرحلية أقرب في واقعيتها للتحقيق من أي وقت أو شيء مضى .

إن احتلال باقي فلسطين عام 1967 واستمراره لما يزيد عن نصف قرن قد أدَّى إلى الاختفاءالتدريجي للخط الأخضر بين فلسطينيي مناطق 1948 ومناطق 1967 و الى اعادة تعريف الاحتلال و تحويله من إحتلال مباشر الى واقع يستند الى منظومة متكاملة من التمييز ضد الفلسطينيين غير المعترف بهم كمواطنين ومعاملتهم بإعتبارهم من درجة دنيا في كل الأحوال . فالفلسطينيون هم المشكلة بالنسبة لإسرائيل وهم العنصر غير المرحب به في علاقة الأرض بالبشر ، و إزالتهم و التخلص منهم أصبح أمراً مطلوباً بشكل متزايد و العمل على تحقيقه قضية وقت و أمراً مفروغاً منه ومتفقاً عليه بين الاسرائيليين سواء علناً أو بصمت . وهذا قد جعل من امكانية خلق مواقف أكثر واقعية ضمن  أوساط الفلسطينيين تحت الاحتلال أمراً أكثر صعوبة و إن كان محتوماً في غياب الخيارات الأخرى بما فيها المقاومة  .

لقد ساهم تعامل الفلسطينيين تحت الاحتلال مع واقع الاحتلال بواقعية في تبسيط أهدافهم ووضعها على شكل مراحل بهدف الحد من قدرة الاحتلال الاسرائيلي على تفريغ الأرض الفلسطينية من الفلسطينيين ، الأمر الذي ساهم في خلق أرضية مشتركة بين تجمعات الفلسطينيين تحت الاحتلال و أعاد بالنتيجة توحيد الشعب الفلسطيني المبعثر في فلسطين على أسس جديدة قد يكون أهمها النضال من أجل إزالة التمييز العنصري ضدهم ، وجَعْلَ ذلك جزاً من نضالهم و مرحلة مقبولة و هامة على طريق حرية الفلسطينيين . ويبقى السؤال ، هل من المسموح للعرب أن يتقاربوا مع اسرائيل تحت شعار الواقعية السياسية و المصالح الاستراتيجية ويُمْنع ذلك على الفلسطينيين القابعين تحت إحتلال لا خيار أو يد لهم فيه وفي ظل قرار قيادتهم بوقف خيار المقاومة ؟ ولكن من يدري ؛ فعندما تصبح الظروف جاهزة لحل القضية بالطرق التقليدية فإن مفهوم الدولة الوطنية بشكل عام قد يصبح جزءاً من الماضي ولا أهمية له ، و يصبح النضال من أجل التحريرعباره عن نضال من أجل إلغاء التمييز العنصري و تكريس الحقوق الانسانية بشكل متساوي ضمن مجتمع مدني ديموقراطي . إن العالم يسير الآن في إتجاه الدولة الأقل مركزية ، و حقوق الانسان أصبحت مفهوماً إنسانياً يتمتع بقدسية و احتراماً أكثر من مفهوم السيادة الوطنية التي تعطي الدولة الحق و القدرة على إنتهاك حقوق مواطنيها و منظومة حقوق الانسان  .

ان التمدد السكاني الاسرائيلي ونمو الاستيطان في الضفة  الفلسطينية وغزة بشكل وحشي سرطاني ، و النمو السكاني المضطرد للفلسطينيين جعل من الوضع داخل فلسطين المحتلة قنبلة ديموغرافية و أزمة حقيقية تمسُّ حقوق الانسان الفلسطيني بشكل متواصل الأمر الذي قد يفوق في أهميته بالنتيجة البعد السياسي للمشكلة . فالبعد السياسي يتم تجريفه يومياً من قِبَلْ اسرائيل و يتم اضعافه بإستمرار بواسطة التنازلات الفلسطينية و العربية ، في حين أن الأزمة السكانية و التمييز العنصري ضد الفلسطينين تتفاقم يوماً بعد يوم و الموقف العدائي لمعظم دول العالم من المطالب السياسية للفلسطينيين و أهمها مطلبي التحرير وحق العودة قد جعل من امكانية تحقيق أي من هذين المطلبين أمراً خارجاً عن نطاق الممكن خصوصاً في ظل التفوق العسكري الاسرائيلي مما يجعل من اعادة النظر في المطالب و الأهداف الفلسطينية المرحلية أمراً هاماً ومصيرياً ، وبحيث يتم إعادة تغليفها دون المساس بالجوهر وبشكل يجعل قبولها من باقي العالم أمراً ممكناً . فالتشبث بالشعارات و العناوين أثبت عدم جدواه في ظل موازين القوى الداخلية والعربية و الاقليمية و الدولية السائدة حالياً والتي تصب بشكل عام في مصلحة اسرائيل .

يعاني المجتمع الاسرائيلي من نزعة واضحة نحو اليمين ممزوجة بالرغبة بالتمتع بمباهج الحياة و الإبتعاد ما أمكن عن تقديم التضحيات ، و خصوصاً مع تنامي إحساس الفرد الاسرائيلي بالقوة و الثقة و الأمان و بأن دولته لم تعد في مهب الريح تُجابه خطر الابادة على يد جيرانها العرب . وانحصر احساس الفرد الاسرائيلي بالخطر بذلك التهديد القادم من الأفراد الفلسطينيين بعد أن تم وقف الكفاح المسلح المنظم على يد السلطة الفلسطينية عقب اتفاقات أوسلو . وقد جَسَّدَ هذا الوضع نمطاً جديداً من العداء الاسرائيلي للفلسطينيين الذين أصبح وجودهم حتى الفردي يشكل خطراً في نظر قوى اليمين الأسرئيلي يستدعي مزيداً من التمييز و الفصل العنصري ضدهم . لقد ساهم هذا الوضع في تطويع التشريعات الإسرائيلية باتجاه خلق منظومة من القوانين تعكس تبلور عقلية التمييز العنصري حيث يتم استعمال سطوة القانون و اجهزة الدولة وجبروتها للتمييز ضد شعب كامل على أسس عرقية ، مما أثار حفيظة الأجيال الشابة في عدد من الشعوب الغربية تأييدا للفلسطينيين واحتجاجاً على مايجري ضدهم من جرائم .

ان تطور الأمور داخل المجتمع الاسرائيلي في اتجاه ممارسة مزيد من التمييز العنصري يؤكد أن ذلك المجتمع ابتدأ يفقد روحه ، و أن إنسانيته وضميره في تراجع وتقهقر نتيجة العبث بقوانينه و سلوكه و تراجع إحترامه لمنظومة القيم الانسانية وحقوق الانسان و تعامله اللاإنساني مع الفلسطينيين كمواطنين درجة أدنى . ان هيمنة اليمين و اليمين الديني على قيادة الواجهة السياسية الاسرائيلية في المدى المنظور وجنوح المجتمع الاسرائيلي بشكل عام نحو التمييز العنصري أو الديني أمراً لم يعد خافياً على الفلسطينيين تحت الاحتلال ، و أصبح يحدد خياراتهم بشكل كبير .

وفي ظل كل تلك الحقائق و المتغيرات ، هل ما زال الفلسطينيون تحت الاحتلال يريدون إنسحاباً اسرائيلياً شكلياً و دولة فلسطينية مسخة تعيش في ظلال الدولة الإسرائيلية ، أم يريدون العيش في وطنهم التاريخي متمتعين بحقوق متساوية و مواطنة ناجزة ؟ بحديث آخر هل يفضل الفلسطينيون تحت الاحتلال النضال من أجل دولة واحدة ديموقراطية على كامل أرض فلسطين التاريخية يتمتع فيها جميع مواطنيها بحقوق سياسيه وعامة متساوية ؟ أم يريدون إنسحاباً من مناطق مبعثرة في فلسطين التاريخية يفصلها عن بعضها البعض عشرات المستوطنات المبعثرة أيضاً هنا و هناك و يتم تسميتها بدولة فلسطينية تدور في ظل وَفَلَكْ إسرائيل وتحت نفوذها الدائم ؟

من الصعب الإجابة على هذه التساؤلات بشكل حاسم وقطعي خصوصاً و أن القضية الفلسطينية غير محصورة بالفلسطينيين تحت الاحتلال ، فحق العودة هو جزء أساسي من مكونات القضية الفلسطينية و عدم التمكن من ممارسته هو ظاهرة أخرى من ظواهر التمييز العنصري الاسرائيلي ضد الفلسطينيين كشعب . فإسرائيل التي تسمح قوانينها ليهود العالم بممارسة حق عودة مزعوم الى أرض فلسطين تمنع ذلك الحق عن الفلسطينيين مع أن الحق الفلسطيني يستند الى الشرعية الدولية و قرارات الأمم المتحدة والى أولوية الحق . ولكن إذا كان هذا هو واقع الحال فأين تكمن أولوية الحق فيما بين الفلسطينيين أنفسهم ؟ هل هي للفلسطينيين تحت الاحتلال أم للفلسطينيين في الشتات ؟ هل هنالك في الحقيقة قضية فلسطينية واحدة أم قضيتان أم أكثر ؟ هل نتكلم عن قضية فلسطينية للفلسطينيين في الشتات بمتطلبات ترتكز أصلاً على حق العودة و التحرير ؟ أم نتكلم عن قضية فلسطينية للفلسطينيين تحت الاحتلال ترتكز على مفاهيم مثل القدرة على الصمود على الأرض و المواطنة الناجزة المتكافئة او الدولة من خلال المفاوضات إن كان ذلك ممكنا ؟ هل أصبح  التحرير من خلال الكفاح المسلح و المقاومة حلماً أقرب الى الخيال أم برنامج عمل قابل للتحقيق في المدى البعيد إذا بقي يحظى بتأييد كافة الفلسطينيين حوله كهدف سامي  ؟

هذه التساؤلات لا تعني غياب القدرة على استشراف ماهو ممكن في الزمن المنظور . إنَّ غياب القدرة على الحسم العسكري وبما يؤدي الى تحرير فلسطين لا يعني الاستسلام لواقع الاحتلال بقدر ما قد يعني تطوير القدرة على التعامل مع ذلك الواقع إلى أن تتغير الظروف ويصبح في الامكان تحديد مسار يستند الى القدرة على التحرير من خلال الحسم العسكري ، و دون أن يؤثر ذلك على إصرار بعض الفلسطينيين على رفض الاحتلال و ممارساته حتى لو كان ذلك من خلال عمليات استشهادية فردية ؟

في غياب خيار المقاومة ، فإن المسار الأكثر واقعية في المدى المنظور بالنسبة للفلسطينيين تحت الاحتلال  يستند الى الحل السياسي و ليس الى الحل العسكري . وفي هذا السياق فإن الخيارات تبدو محصورة جداً خصوصاً في ظل غياب أي نوايا اسرائيلية حقيقية لاعطاء الفلسطينيين أي تنازلات تسمح بتحقيق الحد الأدنى من طموحاتهم . وهذا يعني في الحقيقة تَحَوُّل مسار الاحتلال من وضع مؤقت الى واقع دائم جعل من موضوع الحقوق المتساوية لجميع المواطنين أمراً حيوياً ومصيرياً بالنسبة للفلسطينيين تحت الاحتلال ، خصوصاً و أن الاحتلال قد تحول أيضاً الى نظام تمييز عنصري يستند الى أولوية القوة و ليس إلى  أولوية الحق ، وهذا الأمر يتطلب من الفلسطينيين تحت الاحتلال عام 1967 و الذين تعلموا الدروس من الفلسطينيين تحت الاحتلال منذ عام 1948 ، أن يخرجوا جميعاً بأفكار جديدة خلاَّقة لكيفية التعامل مع هذا الواقع المأزق خصوصاً في ظل غياب أي أوراق ضغط عربية أو فلسطينية ذات قيمة ، بإستثناء ربما حقيقة أن الوجود الفلسطيني يشكل بحد ذاته  نقضاً للمزاعم الاسرائيلية في فلسطين و جرسا ً يدق على أبواب العقل الباطن الاسرائيلي بأن أصحاب الأرض الحقيقيين هم الفلسطينيون ، مما يتطلب جهداً اسرائيلياً متواصلاً لإخراجهم من وطنهم إلى أوطان أخرى بهدف إيقاف ذلك الجرس الفلسطيني وتمكين الضمير الاسرائيلي من التصالح مع نفسه ولو من خلال الإلغاء القسري و القهري عوضاً عن إحقاق الحق . إن شفاء الضمير الاسرائيلي من كل عقد الذنب التي قد يحملها بعض الاسرائيليين لا يمكن أن يتم إلا بإحقاق الحق باعتباره المسار الإنساني الصحيح أو بإراقة الدم الفلسطيني الى آخر قطرة باعتباره خيار اليمين الاسرائيلي الوحيد …… يتبع

التعليقات مغلقة.