ابو هادي على الأكتاف: كما لو أنهم خُلقوا ليفدوه / غفران مصطفى

0 188

شهيد فلسطين الأسـمــــــــــى...

لكنّ حرارة في الصدور ووعياً في اختيار بيعته كانا مُتقدّمين على الموت، لم أرَ مقتولاً في حياتي يُلبّى بهذا التحرق كله.

لقد مشى الناس على الماء خلف النعش من دمع المُقل. لا أحد سيقدم لك إجابة شافية عن انصهار أمة برجل، يحتاج الشاب والسيدة والطفل والكهل ليصفنوا قليلاً حين تسألهم عن سبب الحب، “يعني ماذا فعل السيد؟ طب وجّهله رسالة إذا عم يسمعك. ارتقى القائد ماذا بعد؟”. كلها أسئلة عادية، وعلى بداهة الإجابات وتكرارها، لكنني شاهدت الخفاء الجلي الفردي في كل عين دامعة وسارحة وفارغة ومنطفئة، رأيت إجابات في البداهة، وفي الأيدي المرتجفة التي تحمل الصور.

زخم هذه الأمة يستوجب ألّا تُسمع على نحو ما تقوله على لسانها فقط، هذه الأمة تدرك كيف تحب، لقد والت سيداً لم تلتق به يوماً، سمعته وآمنت به وقدمت أولادها وبيوتها وتفاصيل من عمرها كرمى لعيونه وما يمثله. هذه أمة لا تُقابل بفهم سطحي بل انظروا إلى أفعالهم. هل يتشابه الدم؟ هل نرجع إلى الله سوى أفراداً؟ إذاً، كل فرد حكاية في سيرة السيد وسيرة شعب السيد وذاكرة أمة السيد.

تقدم رجل على كرسي متحرك، خلفه من يدفعها حتى لا يفقده بين الجموع، هو جريح ووالد شهيد وشهيدة، قال والشمس مرمية على جبينه: “بعد في هالروح يا سيد، مش كنت قدمتها حتى تبقى؟”. اجتمع الناس على رأي واحد، وهو إن حدث فيعني استجرار أسطورة، شعب يُقتل ليبقى قائده، كما لو أنهم خُلقوا ليفدوه. كان السيد فكرتنا الجميلة عن الفداء، قدم ابنه ومشى خلف جنازات الأحبة، بالفعل والمواساة، ثم عرّف الناس بربهم. كل قوته كانت في ردّ الأثر والجزاء إلى الله. آمنوا به حين أحبوا الله على لسانه. فصبروا وتحملوا وقدموا وجاهدوا حتى غدت أرواحهم وقّادة لا تهدأ حتى تذوب وتفنى بما ومن تحب.

العلاقة مع السيد نصر الله ليست مجرد جمهور وخطابات، نزل مليون ونصف إنسان أمس، في أوجع حدث في تاريخهم الحديث، عزاؤهم أن الشهيد حي، فحدثوه وعاتبوه وانتظروه وبكوا على كتفيه. لكنهم في الوقت نفسه حوّلوا الدمع إلى حدث سياسي وحزن ثوري، حين اجتمعوا على موقف واحد، أن هذا الجمع ليس إلا استفتاء على خيار المقاومة: “فلتهنأ في عليائك، حفظنا وصاياك”.

رُفع أبا هادي على الأكتاف، حملت قلوب الناس جثمانه، كأنّ الموت لم يقع. رجل تشوّقوا إلى لقياه طوال عمرهم، حلموا بأن يلمحوا طيفه ولو لمرّة، فجاءهم في نعش دفعة واحدة. كان وقع التشييع موجعاً على مُحبّيه، يقولون لهم: ودّعوا سيّدكم، ها هو اليوم بينكم ومعكم، فلا يصنعون سوى الاستسلام إلى البكاء. هكذا هبط الحبّ كله عليهم مثل الرحمة، بلا يَدَين، فلم يعرفوا كيف يمسكون به.

موج الناس تحت الشمس كان متشابهاً في التماع الأعين الدامعة وانكسار الرجال، لكنه كان شامخاً متقدماً على فكرة الفناء، حوّلوا موت السيد إلى ذكرى توقد في أرواحهم شعلة الثأر والمقاومة أكثر وأكثر، فكيف يوفون لمن أمضى حياته يبسط الأرض تحتهم أماناً على أيدي رجاله الأشدّاء، فلا يحيّن الناس فرصة من أجل ذلك إلا يعبّرون فيها عن امتنانهم لرجال المقاومة الذين صنعوا الأساطير في الحرب الأخيرة، لكن أن يصل الأمر إلى سيد المقاومة وشهيد الأمة وقائد المسيرة الخالدة فإنه عجز محض، ولا سبيل سوى مواصلة الطريق.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ثلاثة عشر + سبعة عشر =