عن وسائل الإعلام العربية والتطبيع البصري: هل كلّ ما يُصوَّر يُنشَر؟! / كمال ميرزا

232
عن وسائل الإعلام العربية والتطبيع البصري: هل كلّ ما يُصوَّر يُنشَر؟!
كمال ميرزا ( الأردن ) – السبت 23/3/2024 م …

 

على مدار اليومين الماضيين انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعية مقطع فيديو بثتّه “قناة الجزيرة” لقيام طائرة مسيّرة صهيونية باغتيال أربعة شباب فلسطينيين عُزّل يسيرون في العراء في منطقة السكّة بخان يونس.
بحسب “الجزيرة” فإنّ هذا “المقطع الحصري” يعود لأكثر من شهر ونصف مضى، ومصدره الطائرة المسيّرة نفسها بعد أن تم إسقاطها بدايات شباط/ فبراير الماضي.
في حال لم يكن لهذه الطائرات ذاكرة، فإنّ مصدر المقطع المبثوث سيكون قطعا تسريبات من قبل الجانب الصهيوني نفسه.
أيّا كان مصدر هذا المقطع، السؤال هو: لماذا تمّ بثّه؟
بكلمات أخرى: على أي أسس ومبادئ يستند المعنيّون في قناة الجزيرة عند حسم قرارهم ببثّ مقاطع معينة وصلتْ إليهم من عدمه؟ وهل كلّ ما يُصوَّر أو تقع عليه اليد صالح لأن يُبَثّ؟
هل الهدف هو توثيق جرائم العدو الصهيوني؟
هل ما تزال جرائم الكيان الصهيوني بعد حوالي (170) يوما من الإبادة والتدمير المُمنهجين، وبعد ما يقارب (32) ألف شهيد ارتقوا إلى السماء.. تحتاج إلى توثيق؟
وهل ما يمنع دول العالم من التحرّك، ومجلس الأمن من اتخاذ قرارات مُلزمة ضد الكيان الصهيوني، والأنظمة والجيوش العربية من الانتفاض وإعلان الحرب على “إسرائيل”.. هو أنّ جرائم الكيان غير مُوثّقة وغير مُثبتة بما يكفي للآن؟
أم أنّ المسألة هي مجرد رغبة أحدهم بتحقيق “سبق صحفي” دون التفات لأي اعتبارات أخرى؟
جديّا، ما هي الفائدة المرجوّة من نشر وتداول مثل هذا المقطع؟ وهل الفائدة من نشره توازي “المضار” المترتبة على ذلك؟ وهل تتمّ مناقشة مثل هذه الأمور داخل أروقة التحرير وصناعة القرار في قناة الجزيرة وغيرها من وسائل الإعلام العربية؟
مرّة أخرى، مثل هذه المقاطع لن تضيف جديدا فيما يتعلّق بإجرام ودمويّة الكيان الصهيوني، وفي المقابل فإنّ بثّها وتداولها يترتب عليه السلبيات والمضار التالية:
1- المزيد من تعويد و”تطبيع” الناس على رؤية مثل هذه المناظر، وبالتالي التقليل من وقعها ووقع الجرائم التي تُظهرها في وجدان الناس؛ أي بدلا من “فضح” جرائم الاحتلال، التهوين من هذه الجرائم وفداحتها ومقدار الاستثارة والاستفزاز التي تُحدثه لدى المتلقّي!
2- تعميق إحساس الناس بالعجز وقلّة الحيلة إزاء ما يُقترف بحق أشقّائهم في فلسطين، وإزاء تخاذل وتقاعس الأنظمة العربية؛ فمشاهد القتل والدمار يمكن التعويل عليها في استفزاز واستنهاض و”تثوير” الناس فقط خلال أول أسبوع أو أسبوعين أو حتى شهر من مثل هذه الأحداث، ولكن بعد انقضاء هذه المدّة دون تحقيق الأثر المطلوب يصبح أثر مشاهد القتل والدمار عكسيا ومثبّطاً ومدعاةً لليأس والقنوط، ويغدو الأسلوب الوحيد لاستنهاض الناس وشحذ هممهم هو الإكثار من مشاهد البطولة والصمود وإرادة الحياة والبقاء وليس مشاهد الموت والدمار والمعاناة!
3- تكريس “الثيمة”” التي حرصت عصابة حرب الكيان الصهيوني على إرسائها منذ اليوم الأول، وهي أنّه يحق للكيان القيام بكلّ ما يحلو له دون رقيب أو حسيب، والآخرون لا يملكون سوى الشجب والإدانة، أو الندب والتباكي، أو مناشدته بأن يُبدي شيئا من العطف والتنازل!
4- تكريس “ثيمة” أنّ يد الكيان الصهيوني “طايلة”، وأنّه لا مفرّ في قطاع غزّة من الكيان إلاّ إليه.. وفي المقابل تعزيز إحساس الخوف والرعب لدى أهالي غزّة المُروَّعين أساسا، من الموت الذي يمكن أن يأتيهم من فوق في أي لحظة، ويقتنصهم في غمضة عين، على يد “الزنانات” التي لا يتوقّف أزيزها ساعة من نهار أو ليل!
5- خلق حالة لا واعية من “التقمّص الوجداني”، وبالتالي التعاطف الوجداني، مع القاتل/ الجاني بدلا من المقتول/ الضحية! فزاوية التصوير العلوية التي يُظهرها مقطع الفيديو تُسمّى “عين الطائر” أو “عين النسر” الذي ينظر من أعلى إلى فريسته الضئيلة الضعيفة المذعورة في الأسفل، والتي لا تجد لنفسها مهربا أو ملاذا. ولقطة التصوير المستخدمة تُسمّى “وجهة النظر” (pov)، أي أنّ الكاميرا تحلّ محل عينيّ المشاهد، وتمنحه إحساسا بأنّه هو الذي يتحرّك ويقوم بالفعل بطريقة تحاكي “ألعاب الفيديو”، وبالتالي هو الذي يرصد الهدف، وهو الذي يطلق النار، وهو الذي ينجح في إنجاز مهمته/ قطع هذه المرحلة من اللعبة!
مجدّدا، لا أدري ما إذا كانت مثل هذه الاعتبارات ومثل هذه النقاشات تدور في كواليس وأروقة وغرف تحرير وسائل الإعلام العربية، ولكن ظنّي أنّ قناة احترافية بحجم الجزيرة، وقناة سبق لها استبعاد “الدويري” و”الدحدوح” عن الشاشة والأضواء “بالعقل”.. لا تغيب عنها مثل هذه الاعتبارات!
“الجزيرة” وغيرها من وسائل الإعلام العربية تحاول أن تُظهر نفسها بمظهر المُنحاز إلى جانب “المقاومة” وأهالي غزّة وعموم الشعب الفلسطيني، وجزءا من “المجهود الحربي” في مقابل ماكينة الحرب الإعلامية والدعائية الطاغية للكيان الصهيوني ورعاته الغربيين وأعوانه العرب.
ولعب مثل هذا الدور يستدعي من وسيلة الإعلام الالتزام بأبسط مبادئ الحرب الدعائية والحرب النفسية التي يعرفها طالب سنة أولى صحافة وإعلام: التقليل من شأن خسائري والتهوين منها، والتركيز على خسائر الخصم وتهويلها.. والظهور دائما بمظهر القوي والواثق والصامد، وإظهار الخصم بمظهر الضعيف والمذلول والمستكين والمهزوم والمنسحق وعديم الحيلة!
حتى ثيمة التباكي على الوضع الإنساني الكارثي لأهالي غزّة، وطريقة التعاطي التي تصرّ عليها وسائل الإعلام العربية مع هذه المسألة.. يمكن قراءتها هي الأخرى في ضوء المبادئ والاعتبارات أعلاه.
في المقابل، فإنّ الكيان الصهيوني يلتزم منذ اليوم الأول بمبادئ الحرب النفسية بحذافيرها، ويُلزِم وسائل الإعلام التابعة له والسابحة في فلكه بها.. وهنا تستطيع كمتلقّي أن تسأل نفسك:
هل سبق وأن رأيتَ أشلاء جندي صهيوني مقتول (باستثناء ما بثته المقاومة نفسها عند انطلاق طوفان الأقصى)، أو أن سمح الكيان الصهيوني بالتقاط وبثّ مثل هذه الصور؟
هل سبق وأن رأيت صورة أو مقطعا لخيم النازحين الصهاينة الهاربين من مغتصبات غلاف غزّة والشمال؟
هل سبق وأن رأيت صورا أو مقاطع لآثار الدمار الذي تتسبب به صواريخ المقاومة، خاصة شمال فلسطين المحتلة، أو للمغتصبات الصهيونية وهي خاوية على عروشها كمدن الأشباح بعد أن فرّ منها سكّانها؟
هل سبق وأن رأيت صورا ومقاطع لمظاهر الخوف والهلع والفوضى والارتباك والصدامات التي تعتري المجتمع الصهيوني؟
حتى النذر اليسير من الصور والمقاطع التي تفلت وتتسرب بهذا الخصوص، وتُظهر الكيان وجبهته الداخلية بصورة مهزوزة تتعارض مع صورة القوة واللامبالاة والغطرسة المراد تكريسها والحفاظ عليها.. سرعان ما يتم احتواؤها، والتضييق عليها، وإعاقة تداولها على نطاق واسع عبر الشبكة ومحرّكات البحث وخوارزميات مواقع التواصل.
لا يُعقل أنّ القائمين على الجزيرة وغير الجزيرة لا يعرفون هذا ولا يعونه، ولكن من قبيل افتراض حسن النيّة سنقول أنّهم لا يعرفون، لذا سنقترح عليهم الاقتراح التالي:
في المرّة القادمة التي تحصل فيها الجزيرة على مقاطع حصرية مثل المقطع أعلاه، فلتمتنع عن بثّه، ولتبثّ بدلا من ذلك خبرا “شفهيا” يقرؤه مذيع الأخبار حول هذا المقطع دون بثّ المقطع نفسه.. شيء من قبيل:
“حصلت الجزيرة على مقاطع حصرية لجريمة جديدة من جرائم التطهير العرقي التي يقترفها الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني في غزّة.
وتُظهر المقاطع التي تمتنع الجزيرة عن بثّها نظرا لفداحة المشاهد الظاهرة فيها، قيام طائرة مسيّرة صهيونية باستهداف أربعة شباب فلسطينيين عُزّل… إلى آخر الخبر”!
هلاّ جرّبت الجزيرة ذلك ولو لمرّة واحدة فقط، واختبرت نتائج “التحفيز الشفاهي” المشفوع بالوصف التفصيلي وآثاره ومدى فاعليته.. وذلك في مقابل “التطبيع البصري” الذي تقوم به هي ومختلف وسائل الإعلام العربية ليل نهار!
ليس كلّ ما يُصوَّر يُنشَر، هكذا ببساطة.. وكلّ شيء زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه!