مدرسة فرانكفورت واليسار الأوروبي الجديد / الطاهر المعز

305

الطاهر المعز ( تونس ) – السبت 2/3/2024 م …

لما انطلق العُدْوان على العراق (الشعب والوطن والدّولة )، أثناء احتضار الإتحاد السوفييتي، سنة 1991، حصل شبه إجماع أمريكي وأوروبي، بين الأنظمة الحاكمة والأحزاب البرلمانية ووسائل الإعلام، حول “مَشْرُوعية ” الحرب بذريعة احتلال الجيش العراقي بلدًا عضوا بالأمم المتحدة، ثم انتقدت المنظمات الدّاعية إلى السلام نتائج الحصار الذي دام 12 سنة، حتى احتلال سنة 2003، وكان اليسار في الدّول الرأسمالية المتقدمة (الولايات المتحدة وأوروبا) شبه غائب، أو عارض الحرب قبل وقوعها، ثم ساد الصّمت بعد ذلك، وينطبق الأمر على العدوان على يوغسلافيا والصّومال وأفغانستان وليبيا وسوريا واليمن ومالي، وينطبق شبه الإجماع كذلك على دعم نظام أوكرانيا المتحالف مع مليشيات اليمين المتطرف وعلى دعم مليشيات العشائر الكُرْدية في سوريا، المُدَرّبة والمُسلّحة من قِبل الإستخبارات الأمريكية، وعندما يتم نقد موقف هذا اليسار الأوروبي والأمريكي الذي يُشكل تحالفًا موضوعيا مع الإمبريالية يطلبون من منتقديهم التنديد أولاً وقبل كل شيء “بالأنظمة الدّكتاتورية في يوغسلافيا وليبيا والعراق وسوريا…”، وهو ما حصل خلال العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني، منذ السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023، حيث يُساوي هذا “اليسار ” بين الإحتلال وضحاياه، بين جيش المُستعمِرِين المُستوطنين ومقاومة الشعب الفلسطيني للإحتلال الإستيطاني، بل يتجرّأ البعض على الإدّعاء بأن زعماء وجيش هذه الدّولة المارقة هم أحفاد اليهود من ضحايا النّازية، وللتذكير فإن الإستعمار والفاشية والعُنصرية هي ظواهر أوروبية بحتة (الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندة هي في الأصل مستوطنات أوروبية) خصوصًا في مرحلة الإمبريالية، ومارست أوروبا، وبالخصوص ألمانيا الإقصاء والإبادة ضد الشيوعيين والغجر والأجانب واليهود الأوروبيين، ولا دخل للعرب وللشعب الفلسطيني في عمليات إبادة الشعوب الأصلية في أمريكا وفي إبادة بعض فئات المواطنين الأوروبيين في أوروبا…

كيف تحوّل الشيوعيون والإشتراكيون في أوروبا وأمريكا الشمالية إلى “يسار” غير واضح المعالم، ولا يخرج عن الإجماع (أو شبه الإجماع) الإيديولوجي السّائد،ما جَعَله يتخلّى عن دعم الكادحين والفُقراء والمُسْتَغَلِّين في بلدانهم، وعن الشّعوب الواقعة تحت الإستعمار والإضطهاد؟

لم يحصل هذا التّحوّل بين عشية وضحاها، بل كان نتيجة لمسار من بث الإيديولوجية الرأسمالية بأشكال مُتنوّعة وترويج مدارس فكرية تمتعت بدعم مالي وإعلامي هام، وادّعت التّقدّمية دون أن يتم اكتشاف حقيقتها بسهولة…

يهتم هذا النّص بمدرسة فرانكفورت كنموذج لمحاربة الفكر التّقدّمي والإشتراكي وكنموذج لدعم الإمبريالية بأساليب “ناعمة”، حيث يُرَوِّجُ يَسار البلدان الإمبريالية نظريات لا علاقة لها بالإشتراكية أو الشّيُوعية، مثل مفاهيم الهوية أو التعددية الثقافية ما بعد الحداثية منذ انخراط تيار “الدّيمقراطية الإجتماعية” في “الحرب الثقافية الباردة” التي طورتها وكالة المخابرات المركزية وحلفاؤها منذ الحرب العالمية الثانية في إطار الحرب ضد الشيوعية، وانخرطت هذه التيارات في الترويج لتيارات فكرية تدّعي “اليسارية والراديكالية”، مثل “النظرية النقدية” لميشيل فوكو، وجاك لاكان، وبيير بورديو في فرنسا، أو مدرسة فرانكفورت وأدورنو، وهي في مجملها أدوات لمحاربة انتشار الأفكار الماركسية، صممتها وأشرفت على تنفيذها وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية وأنشأت لهذا الغرض – بالتعاون مع وكالات حكومية أمريكية أخرى ومُؤسسات رأسمالية كُبرى – عددًا من الأُطُر والأنشطة، من ضمنها “مؤتمر الحرية الثقافية”، سنة 1966، ليُصبح أحد أكْبَر مُمَوِّلِي ورُعاة الفن والثقافة في العالم، وله مكاتب في خمسة وثلاثين دولة، ويُشغّل 280 موظفًا واستعان بما لا يقل عن أربعمائة صحافي، وينشر المُؤتمر أو يَدْعَمُ حوالي خمسين مجلة مرموقة حول العالم ونَشَر 170 كتابا، ويُنظم العديد من المعارض الفنية والثقافية والحفلات الموسيقية والمهرجانات الدولية، وصَمَّمَ أو شارك في تصميم ورعاية 135 مؤتمرًا وندوة دولية، بالتعاون مع نحو أربعين مُؤَسّسة، وفقًا لكارل بيرنشتاين ( مُفَجّر فضيحة واترغيت، مع زميله بوب وُودْوُورْدْ، سنة 1974) الذي درس النشاط الثقافي والدّعائي لوكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية خلال الفترة من 1952 إلى 1977، وخصوصًا الفترة التي تمكّنت فيها وكالة المخابرات المركزية من السيطرة على نقابة الصحف الأمريكية وأصبحت مالكة وكالات الأنباء والمجلات والصحف التي استخدمتها كواجهة لعملائها، كما تمكّنت الوكالة من تعيين عملاء لها في مناصب عليا حسّاسة بالمؤسسات الإخبارية وكافة وكالات الأخبار المُهيمنة (مثل LATIN ورويترز وأسوشيتد برس ويونايتد برس إنترناشيونال ) واعتبر “وليام شاب”، وهو خبير في التضليل الحكومي، إن وكالة المخابرات المركزية “تمتلك أو تسيطر على حوالي 2500 كيان إعلامي” في العالم ولها موظفون ومراسلون ومحررون بارزون في كافة المؤسسات الإعلامية الكبرى، كما تمكّنت وكالة الإستخبارات من السيطرة على عالم الفن وروجت لبعض أنواع الفن الأمريكي – خصوصًا في نيويورك – مثل التعبير التجريدي، ضد الواقعية الاشتراكية، وموّلت المؤسسات والمَعارض الفنية والعُروض المسرحية والموسيقية الكبرى والمهرجانات الفنية الدولية بهدف نشر “فن الغرب الحر”…

كان توماس دبليو برادين أحد كبار ضباط وكالة المخابرات المركزية المشاركين في الحرب الثقافية الباردة وكان – في الوقت نفسه – السكرتير التنفيذي لمتحف الفن الحديث (MoMA)، الذي يرأسه نيلسون روكفلر، الذي أصبح المنسق الأعلى لعمليات الاستخبارات السرية، وتمويل تلك العمليات من صندوق روكفلر الذي تم استخدامه كقناة تمويل من قِبَل وكالة المخابرات المركزية.

في أوروبا رَوّجت وكالة المخابرات المركزية وعملاؤها النظريات النقدية الفرنسية لميشيل فوكو وجاك لاكان وجيل دلوز وجاك دريدا وبيير بورديو وآخرين ممن يشكلون جزءًا من جبهة الحرب الثقافية ضد الشيوعية، لتشويه سمعة الماركسية وتقويض الدعم للنضال المناهض للإمبريالية، كما دعمت السلطات الأمريكية إنشاء مؤسسات تعليمية جديدة وشبكات دولية مناهضة للشيوعية، لإنتاج المعرفة المُعادية لـ “المادية التاريخية والجدلية”، وساهمت في حملات التّشهير العالمية ضد المثقفين والشخصيات التقدمية، في مقابل التّرويج للحركة البنيوية المعارضة للحركة الثقافية والمثقفين ذوي التوجه الماركسي، فأدان فوكو جان بول سارتر ووصفه بأنه “الماركسي الأخير”، في حين كان سارتر أحد أعمدة الحركة “الوجودية” التي فضلت العمل الفردي وترفض العمل الجماعي.

كما رَوّجت وكالة المخابرات المركزية وغيرها من الوكالات الحكومية الأمريكية لنظريات جديدة يمكن تسويقها على أنها طليعية ونقدية، لكنها خالية من أي مضمون ثوري، والترويج، بداية من منتصف ثمانينيات القرن العشرين (لما أصبح الإتحاد السوفييتي، بزعامة غورباتشوف، يحتضر) للمجموعة الفرنسية “الفلاسفة الجدد” التي ينتمي غالبية أعضائها إلى اليمين المتطرف والصهيوني بهدف إعادة تأهيل وتعزيز أعمال الرجعيين المناهضين للشيوعية مثل ألكسندر سُولجِنِتْسِين وفريدريك نيتشه ومارتن هايدغر ( أستاذ وعشير حنا أرندت) كبديل للماركسية التي يُراد لها أن تُدْفَن باعتبارها من نظريات القرن التاسع عشر…

 

السيطرة على الجبهة الثقافية لتفكيك اليسار

ابتكر القائد الشيوعي الإيطالي أنطونيو غرامشي ( 1891 – 1937 ) مُصطلح “المُثَقّف العضوي” الذي يُدافع عن قضايا الشغّالين والفُقراء ويربط مصيره بمصيرهم، غير إن للرأسمالية أيضًا مُثَقّفُوها العضْوِيُّون الذين جنّدتهم للدفاع عن الإستغلال والإضطهاد والإستعمار، وقامت المخابرات المركزية الأميركية – كذراع لأعتى امبريالية – بتجنيد مُثَقّفِين عُضْوِيّين وشراء ذمم بعض مثقفي اليسار الذي أغراهم المال والجاه وإمكانية نشر مقالاتهم وبحوثهم من قِبَل أهم دُور النّشر في العالم وأهم الدّوريات العلمية والثقافية، وتمكّنت وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية، المسؤولة عن الانقلابات، والاغتيالات وشن الحملات ضد الحكومات الأجنبية التي لا ترضى عنها الإمبريالية بتخصيص موارد هامة لتجنيد العملاء من أجهزة السلطة والجيش والأحزاب وكذلك من المثقفين للمشاركة في الحرب الإيديولوجية والفكرية، خلال فترة الحرب الباردة، وفق وثائق نُشرت خلال الفترة 1967 – 1985، من قِبَل عدد من الباحثين من بينهم فرانسيس ستونور ساوندرز، وجيل سكوت-سميث، وهيو ويلفورد، وكذلك توماس برادن، المشرف السابق على الأنشطة الثقافية لوكالة الإستخبارات المركزية الأميركية، في كتاب نشر سنة 1967 بعنوان ( A frank insider’s account ) وساهم في تأسيس المجلس من أجل الحرية الثقافية (سي سي إف) التابع لوكالة الإستخبارات الأمريكية، الذي كان مقره في باريس، خلال فترة الحرب الثقافية الباردة ويتمتع المجلس بميزانية هائلة مكّنته من رعاية العديد من الأنشطة الفنية والفكرية، ومن افتتاح مكاتب في خمس وثلاثين دولة، ومن نَشْرِ المئات من المجلات والكتاب ومن تنظيم المؤتمرات والمعارض الفنية العالمية ذات المستوى الرفيع، وتمويل مؤسسات طليعية مثل فارفيلد فاونديشين، والحفلات الموسيقية والغنائية، ومن تمويل الجوائز الثقافية والمنح الجامعية… لتصُبّ هذه الإستثمارات والبحوث والأنشطة في الدّفاع عن مصالح الولايات المتحدة، وتم نَشْر العديد من الوثائق ومن ضمنها بحث نُشِر سنة 1985 بدون توقيع، بعنوان ( “فرنسا: انشقاق المثقفين اليساريين” – France: Defection of the Leftist Intellectuals ) وتشرح الورقة البحثية كيف تمكنت الإستخبارات الأمريكية من تأليب الرأي العام وتحويل وجهة التعاطف مع الشيوعيين الذين قاوموا الإحتلال الألماني إلى التعاطف مع اليمين الذي دعم الإحتلال النازي وتفاخر بارتكاب مجازر في الجزائر وإفريقيا وجنوب آسيا، وتمكنت بذلك المخابرات الأمريكية من إعادة اليمين إلى الهيمنة الثقافية خلال عشرين سنة، من منتصف القرن العشرين إلى نهاية عقد السبعينات من القرن العشرين، بالتوازي مع تجاهل المثقفين الفرنسيين فترة الماكارثية واضطهاد المثقفين والفنانين (كان بعضهم لاجئًا في فرنسا) والتركيز على نقد الإتحاد السوفييتي والتنفير من الاشتراكية، وترويج الإستخدام الواسع لعبارة “الشمولية” ( توتاليتارية) التي تُساوي بين الإشتراكية والفاشية، وتمكّنت الإستخبارات الأمريكية (وفق الوثائق التي نُشِرت فيما بعد) من استقطاب بعض رموز الحركة الطلابية (1968) ليصبحوا مُثقفين عضوِيِّين للرأسمالية والإمبريالية، ومن بينهم مجموعة “الفلاسفة الجدد”، بينما كانت وكالة الإستخبارات الأمريكية تُنظّم الإنقلابات ضدّ السُّلُطات التي لا تروق لها والقادة المنتخبين بشكل ديمقراطي، وتنصيب سلطات ديكتاتورية وتُدرّب وتُسلّح مليشيات فاشية، ويُبرّر “الفلاسفة الجُدُد” ورُمُوز اليمين الفِكْرِي والثقافي بشكل مباشر أو غير مباشر أو بالصّمت، السياسة الخارجية الأميركية، ويُساهمون – بسمعتهم وبقدرتهم على الكتابة والنّشر في الصحف – في تشويه الوَعْي وتضليل الرأي العام، وفق المؤرخ الأمريكي غريغ غراندين ( Greg Grandin ) الذي لخّص في احد كُتُبِه بعنوان “آخر مذبحة استعمارية: أمريكا الجنوبية في الحرب الباردة (نُشِر سنة 2004) دَوِرَ هؤلاء المثقفين العضويين للإمبريالية في تبرير العدد الذي لا يُحْصَى من الإنقلابات والتّدخلات العسكرية والمجازر التي ارتكبتها الإمبريالية الأمريكية (غواتيمالا سنة 1954، وجمهورية الدومينيكان سنة 1965، وتشيلي سنة 1973، والسلفادور ونيكاراغوا في سنوات 1980، وإيران سنة 1953 وإندونيسيا وماليزيا سنة 1965…) بذريعة كشف “جرائم الإتحاد السوفييتي والصين ( ) حيث تنعدم الحرية، خلافًا للولايات المتحدة حيث تتوفر حرية النّقد”، ودعمت وكالة الإستخبارات الأمريكية مثقفين صهاينة، كان بعضهم من ذوي الميول اليسارية في فترة شبابهم، وسرعان ما تحولوا إلى مُعادين للشيوعية ولحركات التحرر وللطبقة العاملة، بل دعوا لاحتلال ليبيا وسوريا والعراق، من بينهم برنار- هنري ليفي وأندريه غلوكسمان وآلان فنكلكراوت وجان-فرانسوا ريفيل الذي كالوا الشتائم لجيل المثقفين الأكبر سنًّا، وبَرَّرُوا الحروب العدوانية الأمريكية والأطلسية، وتمكّن هؤلاء وغيرهم (ومعظمهم من عائلات ثرية ) من نشر الأفكار المناهضة لقِيَم العدالة والمُساواة والتحول الإجتماعي بفعل تغلغلهم في وسائل الإعلام، بما فيها القطاع العام، في إطار مخطط شامل لتشويه النضلاات النقابية والشعبية تفتيت اليسار المعادي للرأسمالية وتشويه سمعته…

ساهمت مدرسة “الحوليات” وبعض كبار المثقفين في مجالات علم الإجتماع والتاريخ والبنيوية (كلود ليفي- شتراوس، وفوكو، ولاكان، ودريدا…) في تعزيز الجبهة الفكرية المُعادية للفكر التّحرّري من خلال “التهديم النقدي لنفوذ الماركسية في العلوم الاجتماعية” الذي يُمثل جانب الحرب النّفسية كأحد ركائز الإستراتيجية الشاملة لوكالة الإستخبارات الأمريكية، وأظهرت الوثائق المُفرج عنها أو كتابات توماس برادن، المشرف السابق على النشاط الثقافي لوكالة الإستخبارات المركزية الأميركية بأوروبا، أهمية مُساهمة الأعمال النظرية لهؤلاء المُفكّرين الفرنسيين ( خصوصًا دُعاة البُنْيَوِيّة) في تحديث وإنجاز عملية انزياح “اليسار الثقافي والسياسي” الفرنسي والأوروبي نحو اليمين، من خلال السيطرة على مُؤسسات الإعلام وإنتاج البحوث (الجامعات ومراكز البحث) ونشر الأعمال الثقافية (دور النشر ومؤسسات الفنون بأنواعها…) ووسائل الإعلام، وتمكنت بذلك من التأثير في الرأي العام، وخصوصًا الطلبة والمُدَرِّسين والعاملين في الحقل الثقافي، وتمكنت من تحويل بعض رموز الفكر والثقافة والإعلام إلى مُدافعين – بوعي أو بدون وعي – عن الأجندة الإمبريالية الأميركية وعرقلة نشر الفكر الدّاعي إلى أو المناضل من أجل العدالة الاجتماعية والنضال ضد الرأسمالية والإمبريالية.

 

مدرسة فرانكفورت ومثقّفو اليسار الغربي والدعاية الامبريالية

ظهرت مدرسة فرانكفورت في الأصل كمركز أبحاث ماركسي في جامعة فرانكفورت بتمويل من رأسمالي ثري، ولمّا ترأس ماكس هوركهايمر المعهد سنة 1930، تحرك بشكل حاسم نحو الاهتمامات التأملية والثقافية التي ابتعدت بشكل متزايد عن المادية التاريخية والصراع الطبقي، فَتَحَوّل دورها من مركز دراسات اشتراكية – بالمفهوم الأُمَمِي للإشتراكية – إلى “الماركسية الغربية” التي تُركّز على الجانب الثقافي، وتُهْمِلُ دراسة المجتمع كَكُل أو كوحْدة، وتهمل الجانب الإقتصادي والسياسي والإجتماعي، ولعبت مدرسة فرانكفورت – تحت قيادة هوركهايمر – دورا مركزيا في تأسيس اللّبِنات الأولى لما عُرِفَ فيما بعد باليوروشيوعية أو بالماركسية الغربية، وبدأ هوركهايمر ومعاونه تيودور أدورنو إطلاق صفة “الشمولية” على الاشتراكية والفاشية على حد السواء،

كان تركيز أدورنو وهوركهايمر وأمثالهما على عالم الثقافة والفن البرجوازي مَدْخَلاً لإقصاء التغيير الإجتماعي أو في الجانب العَمَلِي، واعتبروا التحرر الحقيقي مطلوبًا في المجال الفكري والروحي، في أشكال الفكر والثقافة البرجوازية المبتكرة، وكان هذا التحول كفيلاً باختراق وتوجيه معهد فرانكفورت من قِبَل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، بعد سنوات الحرب، والسيطرة على مدرسة فرانكفورت في ألمانيا التي «تستضيف» أكبر القواعد العسكرية الأميركية في أوروبا، وبدأ مُفكِّرُو “الماركسية الغربية” ينشرون الشعار الأيديولوجي الرأسمالي الذي يُساوي بين الفاشية والشيوعية، ويدعمون الرأسمالية ( حتى في مرحلة الإمبريالية) علنًا، باعتباها الشكل الوحيد للديمقراطية، ودعم هوركهايمر العدوان الأمريكي على شعب فيتنام، وأعلن خلال شهر أيار/مايو 1967: “في الولايات المتحدة، عندما يكون من الضروري شن حرب… فإن الأمر لا يتعلق بالدفاع عن الوطن بقدر ما يتعلق الأمر بالدفاع عن الوطن فحسب، بل في الأساس الدفاع عن الدستور وعن حقوق الإنسان”، وكان مُساعده أدورنو مُتحفّظًا، يُفضّل التّواطؤ الصامت، غير إنه عَزّز رأي هوركهايمر في دعم العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، من قِبَل بريطانيا وفرنسا والكيان الصهيوني، ووصَفَا جمال عبد النّاصر – كما معظم وسائل الإعلام والمُثقفين “الغربيين” بأنه “الزعيم الفاشي… الذي يتآمر مع موسكو”.

استفاد قادة مدرسة فرانكفورت بشكل كبير من دعم الرأسمالية والسّلطات الأمريكية ومؤسسات “الأمن القومي”، وشارك هوركهايمر في العديد من المؤتمرات، ونَشَرَ ( وكذلك مُساعده أدورنو ) مقالات في المجلات المدعومة من قبل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية التي توطّدت علاقاتهما معها، قبل أن تُسيْطر الإستخبارات الأمريكية على مركز البحث (المعروف باسم مدرسىة فرانكفورت) الذي تحول إلى واجهة “ثقافية” للإستخبارات الأمريكية، وإلى منبر للشخصيات المناهضة للشيوعية في الحركة الثقافية الألمانية، ومن أهمها “ملفين لاسكي”، وحصلت مدرسة فرانكفورت على تمويلات كبيرة من الحكومة الأمريكية ومن مؤسسة روكفلر (ساهم روكفلر بمبلغ 103.695 دولارًا سنة 1950، أي ما يعادل 1,3 مليون دولار سنة 2023)، ليتوسّع نشاطها إلى أوروبا وخاصة إلى فرنسا التي جعلتها وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية هدفًا أساسيا، ونجحت في استقطاب العديد من المُفكّرين الفرنسيين في مجالات الفلسفة وعلم الإجتماع وغيرها…

تجسّدت هيمنة وكالة الإستخبارات الأمريكية على مدرسة فرانكفورت في تجنيد خمسة من الأعضاء الثمانية في الدائرة الداخلية لهوركهايمر في مدرسة فرانكفورت ليعملوا كمحللين يُعزّزون دعاية الحكومة الأمريكية ودولة “الأمن القومي”، ومن بينهم بعض من كان يعتبرهم اليسار الأوروبي “ثوريين” مثل هربرت ماركوز وفرانز نيومان وأوتو كيرشهايمر الذين شغّلتهم وكالة الإستخبارات في مكتب معلومات الحرب (OWI) قبل الانتقال إلى فرع البحث والتحليل في OSS، كما عمل ليو لوينثال أيضًا لدى OWI وتم تعيين فريدريش بولوك في قسم مكافحة الاحتكار بوزارة القضاء، وتمكنتالإستخبارات الأمريكية من استقطاب جيل آخر، لمواكبة تطور مدرسة فرانكفورت نحو تمجيد الرأسمالية ومن بين رموز هذا الجيل يورغن هابرماس) وأكسيل هونيث، ونانسي فريزر، وسيلا بن حبيب، وأصبح هابرماس صراحة من أركان الدّعاية الإمبريالية، ودعا إلى خلق مساحة داخل النظام الرأسمالي ومؤسساته الديمقراطية المفترضة لتحقيق المثل الأعلى المتمثل في “إجراء تشكيل الإرادة الخطابية” الشامل،وبذلك انتقلت مدرسة فرانكفورت من معاداة الشيوعية وترويج الأوهام الديمقراطية إلى الدّعاية الإمبريالية والفاشية، وأَبْدَعَ غابرييل روكهيل في تحليل مجمل هذه الجوانب في حوار مع زاو دينغقيال Zhao Dingqi باحث مساعد في معهد الماركسية بالأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، ومحرر دراسات الاشتراكية العالمية، يوم الأول من كانون الأول/ديسمبر 2023، وللتذكير فإن غابرييل روكهيل Gabriel Rockhill هو المدير التنفيذي لورشة النظرية النقدية ( Atelier de Théorie Critique ) بجامعة السوربون بباريس، وأستاذ الفلسفة في جامعة فيلانوفا في بنسلفانيا بالولايات المتحدة، وأصدر أربعة كُتُبُ وسوف ينشر كتابه الخامس، بعنوان “الحرب العالمية الفكرية: الماركسية مقابل صناعة النظرية الإمبراطورية” (مطبعة مونثلي ريفيو) نُشرت هذه المقابلة في الأصل باللغة الصينية في المجلد الحادي عشر من دراسات الاشتراكية العالمية سنة 2023.

 

مدرسة فرانكفورت وبعض “اليسار الغربي”

نشرت مجلة “دراسات الاشتراكية العالمية” الصادرة باللغة الصينية مقابلةً مهمّة أواخر العام 2023 مع الباحث الماركسي الأمريكي-الفرنسي غابرييل روكهيل ( Gabriel Rockhill ) الذي يُدَرِّسُ الفلسفة في جامعة فيلانوفا (بولاية فيلاديلفيا الأمريكية)، ويركّز في مؤلّفاته على النقد الثقافي والتاريخ وعلم الجمال والسياسة، وأعلنت مجلة “مونثلي ريفيو” إنها سوف تنشر له كتابًا جديدًا يُعِدُّ كتابًا بعنوان “الحرب العالمية الفكرية: الماركسية مقابل صناعة النظرية الامبريالية”…

تناول اللقاء مع غابرييل روكهيل بعض المواضيع الواردة في مقَدّمة هذا النّصّ، وأعادَت دوريّة “مونثلي ريفيو” الأمريكية نَشْرَ المقابلة باللغة الإنغليزية بعنوان “بروباغاندا الامبريالية وايديولوجيا مثقّفي اليسار الغربي: من معاداة الشيوعية وسياسات الهُويّة إلى الفاشيّة وأوهام الديمقراطية” وترجمتها صحيفة “قاسيون” السورية إلى العربية، وتَضَمّنت أجوبة غابرييل روكهيل توضيحات هامة بخصوص بعض رُمُوز الدّعاية الإمبريالية المحسوبين على اليسار ( رغم عدم دقّة هذا المُصْطَلَح) ومن بينهم “سلافوي جيجيك” الذي نعَتَهُ بمهرّج البلاط الرأسمالي، باعتباره أحد نماذج مثقَّفي اليسار الغربي المعاصرين المشهورين، وكان جيجك قد وصف المقاومين الفلسطينيين، تعليقًا على عملية “طوفان الأقصى” (السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023) ب”الإرهابيين” وبرّر الإرهاب الصهيوني بحقّ الاحتلال في “الدفاع عن النفس وتدمير التهديد”، مُستخدمًا عبارات سلطات الدّول الإمبريالية (أمريكا الشمالية وأوروبا خصوصًا) وأكّد تَشبُّعَه ودفاعه عن الإمبريالية والصّهيونية بأنه يحترم مُؤسّسي الكيان الصهيوني، مثل دفيد بن غوريون وموشي ديان ويُؤَيّد مواقف وزير الخارجية الأمريكية أنطوني بلينكن، ومع ذلك لا يزال يعتبره بعض “اليساريين” العرب والأوروبيين رمزًا لليسار وللتقدّمية، مثلما ادّعَوا إن قيادات مليشيات الأكراد في سوريا ثوريون أو تقدميون أو حتى اشتراكيون!!!

نَشَر غابرييل روكهيل سنة 2017 مقالاً سابقاً كتبه لموقع “كاونتربانش” التقدّمي الأمريكي بعنوان “الولايات المتحدة ليست ديمقراطية ولم تكن كذلك قَطّ”، حيث اعتبر الديمقراطية على الطريقة الأمريكية “أنجَحَ حملة علاقاتٍ عامّة في التاريخ الحديث، حتى أصبح يصعب على الكثير من الناس مواجهة هذه الحقيقة، غير إن الوقائع تُثْبِتُ إن الدولة التي تأسّست على الإبادة والعُبُودية وعلى حكم سُلْطة النخبة الاستعمارية الثرية لم تنجح فقط في بناء نظام ديمقراطي بمعنى مُشاركة المواطنين في اتخاذ القرار ومتابعة تنفيذه وتحويره، وكل ما فعله هذا النظام “الديمقراطي” هو ترويج أسطورة زائفة عن تأسيس الدّولة واستثمارها لتخدير الجماهير واستثمار هذه الأسطورة عقائديًّا واقتصاديا واجتماعياً ونفسياً في ارويج تاريخ زائف عن الأصول القومية للأمريكيين (التي تُقصي الشعوب الأصلية بحكم إبادتها وتُقصِي أحفاد العبيد وغير الأوروبيين…)، وبَرَعت مُؤسّسات الدّولة الأمريكية في ترويج هذه الأساطير لدرجةٍ جعلت المواطنين يرفضون تصديق أي رواية مُخالفة رغم الحُجَج والوثائق…

 

وضع أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية

‏دَمّرت الحرب العالمية الثانية بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا واليابان وأصبحت الولايات المتحدة القوة الإمبريالية المهيمنة، غير إنها لم تتمكن من بسط نفوذها الكامل في البلدان التي وُجِدَتْ بها أحزابٌ شيوعية قويّة قادت المُقاومة ضدّ النّازية، كفرنسا وإيطاليا واليونان ويوغسلافيا، فكانت الخطة الأمريكية تقتضي (بناءً على نظرية “الأمن القومي الأمريكي” ) هجوماً متعدد الجوانب لاختراق الأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام في أوروبا، وخارج أوروبا، وبدأت تُنصّب الفاشيين والمافيا وأحزاب “الديمقراطية المسيحية” في السلطة، وخطّطت لتنفيذ انقلابات عسكرية في حال تمكّنت الأحزاب الشيوعية من الفوز بانتخابات ديمقراطية، وتم تفعيل هذه الخطط ( باسم استراتيجية التّوتّر) في إيطاليا، بعد سنة 1968 حيث نفّذ مرتزقة الإستخبارات الأمريكية، من الفاشيين المَحلّيّين عمليات إرهابية ضدّ المدنيين وادّعت آلة الدّعاية إن الشيوعيين ارتكبوا هذه الأعمال الإرهابية، بهدف تشويه سمعتهم لدى المواطنين، ودعمت السلطات والمؤسسات الرأسمالية الأمريكية إنشاء مدارس خاصة ومؤسسات تعليمية جديدة، وشبكات دولية لإنتاج مقالات ودراسات مناهضة للشيوعية، وروّجَتْ للمثقَّفين المعادين علناً للمادية الديالكتيكية والتاريخية، مع حملات تشهير شنيعة ضدّ مثقَّفين ماركسيين.

في سياق تمتين الجبهة الفكرية ونشر الثقافة الإمبريالية الأمريكية، تمكّنت وكالة الإستخبارات الأمريكية في فرنسا – بأشكال مختلفة وغير مباشرة – من جَمْع مشاهير المُفكّرين الفرنسيين مثل فوكو، وكلود ليفيس ستراوس ولاكان، وجيل ديلوز، وجاك دريدا، وغيرهم ورَبْطِهم بطرقٍ شتّى بالحركة البنيوية التي عَارَضَت ديالكتيك هيغل والجيل السابق من المثقفين ومن بينهم سارتر، وكانت هذه الخيارات إشعارًا بمناهضة الفكر الإشتراكي والماركسية ومبادئ العدالة الإجتماعية والمُساواة، دون الإفصاح عن ذلك علَنًا، وكافأتهم وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية ومؤسسة فورد – المُمَول الرئيسي للعديد من الأنشطة الثقافية التي تُديرها وكالة المخابرات، من الكواليس، بدعوتهم جميعًا سنة 1966 إلى مؤتمر انعقد في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية في بالتيمور، وجمع العديد من هؤلاء المفكّرين لأوّل مرة، برعاية «مؤتمر الحرية الثقافية» CCF، الذي أسسته الإستخبارات الأمريكية وأنفقت مؤسسة فورد على تنظيم هذا المؤتمر ( أصبح يُعرف مؤتمر بالتيمور ) والأنشطة اللاحقة الأخرى بما يصل إلى 36 ألف دولار وهو مبلغ كبير بالنسبة لمؤتمر جامعي، وتكفلت الشبكات الإعلامية المأجورة بتغطية الحدث بشكل استثنائي بالنسبة للأوساط الأكاديمية، بهدف إصباغ شُهْرَة مُصطنعة للمفكرين الفرنسيين المُشاركين في المؤتمر، ولم يكونوا آنذاك من مشاهير المُثقفين في بلادهم، فأصبحت كتبهم وتحوثهم مطلوبة بفضل مشاركتهم في الخطة الأمريكية المناهضة للشيوعية التي ساهم هؤلاء في إظهارها في شكل “راديكالي أنيق، نقدي ومتطور”

أظهرت الوثائق التي نُشِرت سنة 1985، بشأن عمل وكالة الإستخبارات المركزية على الجبهة الثقافية الأوروبية، ومركزها فرنسا إن الوكالة كانت سعيدةً بمساهمات مجموعات المثقفين الفرنسيين، مثل مجموعة “البنيوية”، و”مدرسة الحَوليّات”، ومجموعة “الفلاسفة الجدد – Nouveaux Philosophes ” لاحقًا وبالأخص مساهمات فوكو وليفي ستروس – بصفتهم راديكاليين رجعيين – في إثراء الإمبريالية الثقافية الأمريكية ومناهضة الشيوعية ومساهمات معظم هؤلاء المُثقّفين في ترويج مفهوم “الشموالية” الذي يُساوي بين الإشتراكية ونقيضها…

توفي معظم رموز الحركية البنيوية ومدرسة الحوليات، ولا يزال “الفلاسفة الجدد” في فرنسا، ورموز أخرى في بلدان أخرى، مثل “سلافوي جيجك” (من سلوفينيا) الذي أطلق عليه الباحث الماركسي الأمريكي-الفرنسي غابرييل روكهيل لقب “مهرّج البلاط الرأسمالي”، ووجب التذكير بمواقفه الدّاعمة للإمبريالية وللصهيونية، ووصف المقاومة الفلسطينية بالإرهاب فيما اعتبر العدوان الصهيوني “دفاعًا عن النّفس”، وهو ترديد للخطاب الرسمي الأمريكي والألماني والصهيوني، ومع ذلك يعتبره بعض المثقفين “المُتَغَرْبِنِين” العرب وبعض المُتَمَرْكِسِين العرب والعَجَم مُنَظِّرًا ثوريا، رغم كتاباته العديدة المناهضة للشيوعية ورغم دفاعه عن تأدية دَوْر المُخْبِر للإستخبارات الأمريكية ( منذ ما قبل تدمير وطنه يوغسلافيا التي ساهم في الوشاية ضدّها) بهدف الإرتقاء في درجات السُّلّم الإجتماعي/الطّبَقِي، أو ما يمكن اعتبارها انتهازية من درجة دُنْيا، وشغّلته وكالة الإستخبارات الأمريكية في مجلتها (فورين بوليسي) المُعَبِّرَة عن بعض خطط وزارة الخارجية الأمريكية.

 

المشاغل الجانبية لليسار الغربي

كثر الحديث عن سياسات الهوية والتعددية الثقافية لتجنب البحث عن حلول لمطالب العاملين والفقراء في العمل والسكن والصحة والتعليم والدّخل اللائق، ولتجنب البحث عن وسائل دعم مطالب الشعوب المُضْطَهَدَة والواقعة تحت الإستعمار، من أجل التحرر وتتمثل أطروحات “الهوية والتّعدُّدِيّة الثقافية” في اقتراح حلول زائفة لمشاكل حقيقية كالإستعمار والعنصرية والفَقْر والإستغلال والإضطهاد، وجميعها مشاكل حقيقية لها أساس مادّي ضمن العلاقات الإجتماعية في المجتمعات الرأسمالية سواء في بلدان “المركز” أو في بلدان “الأطراف”، وليست مشاكل “بُنية فَوْقِيّة”، وبدل التركيز على الصراع الطّبقي والنضال من أجل التّحرّر الوطني والإجتماعي، يتم التركيز على تقسيم الشعوب والطبقات من قِبَل منظمات وُصِفقَتْ ب”غير الحكومية” لإزاحة مسائل التحرر الوطني والإجتماعي والنضال الطبقي من جدول الأعمال واستبدالها بقضايا الجنس والجندر والبحث عن حلول فَرْدِية زائفة…

 

ديمقراطية الأثرياء

نشأت الولايات المتحدة على جُثَث ما بين سبعين و 112 مليون من السّكّان الأصليين الذين تمت إبادتهم وافتكاك أراضيهم ووطنهم، من قِبَل المُستعمرين المُسْتَوْطنين الأوروبيين (كما حدث في كندا وأستراليا ونيوزيلندة وكما يحدث حاليا في فلسطين) وازدهرت زراعة وتجارة القُطن والذّرة والإنتاج الزراعي بفضل عرق نحو 12 مليون من العبيد الذين تم اصطيادهم واستجلابهم من إفريقيا، وتوفّي ثُلُثُهم خلال الرحلات، وتم تحرير العبيد ليعملوا في مصانع القطن، ما ساهم في التراكم السريع لرأس المال، وبذلك أصبحت الولايات المتحدة قُوّة اقتصادية وعسكرية كبيرة، خلال فترة وجيزة، بقياس عمر الشعوب والبلدان، ولا تزال “الديمقراطية الأمريكية” شكلية، حيث يمثل سكانها نحو 5% من سكان العالم وبها نحو 25% من إجمالي مساجين العالم، لأن الشركات الرأسمالية تستغل عملهم الإجباري وشبه المجاني لتصنيع الملابس ومعدّات الجنود وحوالي 35% من التجهيزات المنزلية التي تُباع بالأسواق الأمريكية وسلع كثيرة أخرى، وحطمت الولايات المتحدة الأرقام القياسية بعدد أحكام الإعدام وبعدد ضحايا السّلاح النّاري، وتُشكل نسبة الفُقراء ما لا يقل عن 12,5% من العدد الإجمالي للسكان، ويتم إقصاء ملايين المواطنين من قائمات المنتَخِبِين، لأسباب واهية وغير ديمقراطية، وما إلى ذلك من “فَضائل الدّيمقراطية الأمريكية”…

أظهرت الأبحاث والأحداث إن الديمقراطية البرجوازية والليبرالية عموما هي ديمقراطية أو سُلْطَة أو حُكْم الأثرياء، رغم توفُّر بعض الحقوق الديمقراطية الرسمية التي افْتَكّها المواطنون بنضالاتهم وتضحياتهم، فَحصلت النساء والمواطنون السّود والعاملون على بعض الحُقُوق، لكن الفوارق الطبقية وفوارق الثروات تزداد عُمْقًا كل سنة، وكل يوم، ومع ذلك تستمر الإمبريالية الأمريكية في إطلاق الحُرُوب العدوانية بذريعة الدّفاع عن حقوق النّساء في أفغانستان والحريات في ليبيا أو سوريا والدّفاع عن “الأمن القومي الأمريكي” على حدود الصين وروسيا، خدمة لمصالح مُجَمّع الصّناعات العسكرية والشركات العابرة للقارات ذات المَنْشَأ الامريكي…

رغم بعض المكاسب الديمقراطية التي تحققت بفعل نضالات والعمال والنساء والمواطنين السود، يتسم الوضع الحالي بالتفاوت المجحف والقمع وتشويه كل مُعارض للمنظومة الرأسمالية المُهَيْمِنة بالولايات المتحدة، حيث تندمج الفوارق الطبقية بالعنصرية الهيكلية، وتوفر الإحصاءات الاقتصادية الحكومية الأمريكية، العديد من البيانات التي يمكن استخدامها لمقارنة ظروف السكان السود مع السكان البيض، وتُؤَكّد هذه البيانات استمرار العنصرية الهيكلية، ذات الجذور العميقة في مجالات توزيع الثروة والدخل والفقر والبطالة، وتغيرت أشكال العبودية باستغلال الرأسمالية ومؤسساتها للمواطنين السّود وإبقائهم في وضع اقتصادي أدنى مقارنة بالسكان البيض رغم الإصلاحات التي أدت إلى ارتقاء أقلية من السود في درجات السُّلّم الطّبقي وإلى احتلال العديد من السود مناصب في السلطة، غير إن العنصرية الهيكلية لا تزال سائدة في مجالات عديدة، منها التفاوت في الثروة، خصوصًا خلال العقود الثلاثة الماضية، في ظل النيوليبرالية، وفق بيانات مجلس الإحتياطي الفيدرالي الذي يُجري مسوحات دَورِيّة منذ سنة 1989، وأظهرت كل المُسُوحات حتى الربع الثاني من سنة 2023، ارتفاع حصة ثروة البلاد التي يملكها أغنى 1% من الأسر من 22,5% سنة 1989 إلى 31,4% سنة 2023، وخلال الفترة نفسها، انخفضت حصة أفقر 90% من 40,1% إلى 31,1%، في حين شهد أفقر 50% حصتهم من ثروة البلاد تنخفض من 3,8% إلى 2,5%، وتمثل نسبة 2,5% التعافي من الركود الكبير الذي حدث سنة 2008 عندما انخفض إلى أقل من 1% ، وبشكل عام، تظهر أرقام مجلس الاحتياطي الفيدرالي عدم المساواة المستمرة والمتزايدة في الثروة بين العائلات البيضاء والسود، فقد ارتفع متوسط ثروة الأسر البيضاء بنسبة 261% من 524.410 دولارًا سنة 1989 إلى 1.367.170 دولارًا سنة 2022 بينما بالنسبة للسود، ارتفع متوسط الثروة من 95,530 دولارًا سنة 1989 إلى 211,450 دولارًا سنة 2022 بزيادة قدرها 221%، مما أدى إلى اتساع الفرق بين متوسط ثروة الأسرة السوداء والبيضاء، وتحَمَّلَ السكان السود آثار أزمة 2008 و أزمة وباء كوفيد – 19 واستغرقوا وقتًا أطول للتعافي، كما إن المكاسب في متوسط الثروة لا تمثل تحسينات بالنسبة للأشخاص الأقل ثراءً، ولكنها تعكس بدلاً من ذلك زيادة الانقسام الطبقي بين السكان السود والبيض، لأن الجداول والأرقام لا تُظْهِرُ الفارق الكمي والنوعي بين حصة السود من إجمالي ثروة البلاد مقارنة بما يملكه البيض من أسهم الشركات وصناديق الاستثمار المشتركة والأصول السائلة والعقارات، وبلغ معدل ملكية المنازل من قبل البيض 73,15% مقابل 46,34% للسود، مع فارق كبير في قيمة العقارات وفي قيمة الرّهن العقاري ( حيث تبلغ ديون الرهن العقاري للسود نحو 33% من قيمة عقاراتهم) كما يوجد تفاوت كبير في الثروة بين المليارديرات السود ( تسعة فقط) والبيض البالغ عددهم 735 مليارديرًا سنة 2023…

أما المُقارنة الأكثر التصاقًا بالواقع اليومي فهي مقارنة الدّخل، ومصدره لدى معظم الناس من الأجر مقابل العمل أو من المعاش التقاعدي المكتسب من العمل، باستثناء الأثرياء بالنسبة للأثرياء الذين يأتي الجزء الأكبر من دخلهم من الاستثمارات والفوائد، وأرباح الأسهم، ومكاسب رأس المال، والإيجار، حيث يتزايد دخل البيض مقارنة بدخل السود على مر السنين، وفقا لتقارير الإحتياطي الإتحادي التي أظهرت زيادة قيمة أُجُور البيض بنسبة 6,9 % بين سنتي 2019 و 2022، بينما

انخفضت قيمة أجور ورواتب الأسر السوداء بنسبة 0,03% خلال نفس الفترة، وبلغ معدل الفقر بين السود سنة 2022 نسبة 17,1% ومعدل البطالة نسبة 6,1% بينما بلغت نسبة الفقر 10,5% ومعدل البطالة بنسبة 3,3% بين البيض

تنتشر العنصرية في كافة المؤسسات وكافة جوانب الحياة اليومية بالولايات المتحدة وتشمل كذلك حق الإنتخاب وإقصاء حوالي 4,5 ملايين مواطن من السّود بالقمع والتحايل وبالقوانين الزّجرية، فضلا عن عدم اهتمام العديد من الفُقراء (مهما كان لونهم ودينهم) بالإنتخابات لأن المُرشّحين لا يُعبِّرُون عن مشاغلهم، كما تشمل العنصرية الكامنة – وإقْصاء الفُقراء – مجالات التّعليم والتغطية الصحية ومنظومة القضاء والسُّجُون، وجرائم القتل من قِبَل عناصر الشرطة، ومجمل المجالات التي تُيَسِّرُ استمرار نظام عدم المساواة الاقتصادية والعُنْصُرِيّة الهيْكَلِيّة التي تُوضّحُها البيانات والأرقام الرّسمية الحكومية رغم عيوبها فهي لا تتناول طريقة توزيع الدخل سوى بإيجاز، ولا تتناول موضوع الثروة وكيفية توزيعها ( راجع موقع الإحتياطي الإتحادي )

تُمثل “الديمقراطية الأمريكية ” هيمنة حكم أرباب المال وأظْهرت دراسة إحصائية نشرها الباحثان مارتن جيلينز وبنجامين آي بيغ أنّ تأثير الأثرياء ومنظماتهم ومجموعات الضغط التي تعمل لصالحهم، فضلا عن تمويلهم الحملات الإنتخابية لجميع السياسيين، أكثر بكثير من تأثير ملايين النّاخبين على التّوجّهات السياسية والإقتصادية للحكومات الأمريكية المتعاقبة سواء كان الرئيس وأغلبية النّواب من الحزب الجمهوري أو الحزب الدّيمقراطي. أهذه ماهية الدّيمقراطية التي تريد السلطات الأمريكية فَرْضَها بقوّة السلاح على شعوب العالم؟

لقد سَعَت الولايات المتحدة إلى فرض نظام داخلي وعالمي غير ديمقراطي، وحاولت أو تمكنت، بين نهاية الحرب العالمية الثانية وسنة2014، من الإطاحة بأكثر من خمسين حكومة أجنبية، معظمها منتخَبةٌ ديمقراطياً، ممّا يزيد تأكيدَ حقيقة وجوهر ديمقراطية الولايات المتحدة بوصفها قوة امبريالية مُتغطرسة تحاول فَرْض منطق القُوّة في كل بقاع العالم، وترفض احترام حق الإختلاف وترفض المنافسة أو حل المشاكل الدّولية بالوسائل السياسية والدّبلوماسية.

 

فلسطين واليسار الأوروبي منذ 07 تشرين الأول/اكتوبر 2023

خلال حفل توزيع جوائز مهرجان ” برليناله ” السينمائي، اعتلى المخرج الأمريكي بن راسل المسرح مرتديا الكوفية الفلسطينية وندّد بالإبادة الجماعية التي تستهدف الشعب الفلسطيني، فوصفته الصحافة الألمانية في معظمها وكذلك عمدة برلين ونواب من جميع الأحزاب المُمثَّلَة بالبرلمان بأنه وأمثاله مُعادون للسّامية، فضلا عن التعليقات البذيئة والشتائم وحتى التهديدات بالقتل، ولا يختلف وضع ألمانيا عن فرنسا بشأن الدّعم المُطلق للإحتلال الصهيوني وما يرتكبه من جرائم ومجازر وإبادة، حيث تم إقصاء أي رأي يُعبر عن التضامن مع الشعب الفلسطيني، بل تمت إدانة وتغريم العديد من المتظاهرين، فيما عَمدت بيانات بعض أصناف اليسار إلى المُساواة بين الضّحية والجَلاّد…

يُقصي المشهد الإعلامي والسياسي في فرنسا في فرنسا، كما في مجمل الدّول الأوروبية، أي شخص يعبر عن تضامنه مع الشعب الفلسطيني، ويتعرض المدافعون عن القضية الفلسطينية للتهديدات والانتقادات التي لا أساس لها والبلطجة، والإعتقال والمحاكمات، فيما تُساوي بعض المنظمات الدّاعمة لسياسات حلف شمال الأطلسي وللكيان الصهيوني – وأهمها “التجمع من أجل السلام العادل والدائم في الشرق الأوسط” بين المحتل الصهيوني والشعب الفلسطيني ومنظماته، ويُخَول جزء من اليسار الفرنسي ( والأوروبي) لنفسه حق إطلاق صفة الشرعية على منظمات المقاومة، بدلا من الفلسطينيين، وبذلك يسمح لنفسه بالتنديد بالعملية الفدائية التي تم تنفيذها يوم السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2024، وهناك خليط من الأشخاص والمجموعات الفرنسية التي يجمعها دعم الكيان الصهيوني بشكل علني أو “السلام العادل” أو “نبذ العُنف” نشطوا بعد السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023، وجمعها (جمعهم) التنديد بهذا “العمل الإرهابي” الذي أُدْرِج في باب “مُعاداة السّامية”، لتبرير دعم الإستعمار الإستيطاني في فلسطين المحتلة، والإداعء بأن لدى هؤلاء ” معلومات وافرة تظهر أن العملية التي نفذتها المنظمات الفلسطينية استهدفت المدنيين إلى حد كبير، ولا سيما في الكيبوتسات وفي مهرجان الموسيقى نوفا، ولها طابع معاد للسامية، وتتمثل في مجازر عشوائية ضد المدنيين من جميع الأعمار، وعمليات اغتصاب وتشويه وتعذيب، اختطاف الرهائن بما في ذلك الأطفال والمسنين وتدمير المنازل..”. ويؤكد الموقعون الخمسون أن “مذبحة 7 تشرين الأول/أكتوبر تشكل المذبحة الأكثر دموية لليهود منذ المحرقة”. أما المرجع لهذه المعلومات المزعومة فهو مقال في صحيفة ليبراسيون اليومية التي يمتلكها باتريك دراهي، وهو ملياردير صهيوني متشدد ومالك مجموعة الاتصالات “إس إف آر”، وبذلك تم إدراج المجازر الصهيونية الحالية تحت شعار “صراع الحضارات والتفوق الأخلاقي للغرب” لأن الرجل العربي هو بالضرورة مغتصب ومجرم متوحش، فيما اعترفت بعض وسائل الإعلام الصهيونية – خلافاً لتأكيدات صحيفة ليبراسيون والحكومة الصهيونية – بأن غالبية القتلى يوم السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023 كانوا من الجنود، وتُثبت صور المنازل المحطمة في الكيبوتس أنه لم يكن من الممكن تدميرها بالأسلحة الصغيرة، بل بنيران دبابات ومروحيات جيش الاحتلال.

إن اليسار الأوروبي، ككل، مع بعض الاستثناءات النادرة، ليس سوى طرف مساعد للنظام الرأسمالي، وعلاوة على ذلك، لا يوجد ولا يمكن أن يكون هناك صهاينة يساريون، لأنه لا يوجد مستعمرون يساريون، وكانت الحركة الصهيونية، منذ بداية وجودها، حركة استعمارية، بشعارها الكاذب “شعب بلا أرض لأرض بلا شعب”، رغم وجود شعب عربي من جميع الدّيانات في هذه الأرض احتلها منذ قرون. إن وجود شعب يهودي كذبة تاريخية، فالمستوطنون الصهاينة الذين جاء معظمهم من أوروبا الوسطى أو الشرقية هم من نسل الخزر وسكان جنوب روسيا وأوكرانيا وشبه جزيرة القرم، و من الشعوب السلافية، حيث حصلت، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر – أي فترة تطور الرأسمالية إلى مرحلة الإمبريالية – مجازر كان شعارها معاداة السامية، ويستغل اليسار الأوروبي والحركة الصهيونية هذه الأحداث – التي حصلت في أوروبا بشكل حَصْرِي – ليصف أي نقد للصهيونية بمعاداة السامية، في حين يُشكل الإستعمار الإستيطاني السمة الطاغية على الحركة الصهيونية والدّولة التي أنشأتها بدعم من الإمبريالية، وخلافاً لتأكيدات بعض التيارات، لا تقود الحركة الصهيونية العالم ولا تتحكم بقرارات الإمبريالية الأمريكية، بل على العكس من ذلك، واشنطن هي التي أوكلت للصهاينة وجهاز دولتهم مهمة السيطرة على المحروقات العربية وضمان تقسيم البلدان والشعوب العربية، وذلك منذ تسلمت الولايات المتحدة مشعل قيادة الإمبريالية من الإمبريالية البريطانية، وما الكيان الصهيوني سوى جزء أو امتداد للإمبريالية التي تدعم المجازر والقتل والبلطجة والسلب والهدم والسجن ليصبح ذلك المصير اليومي للشعب الفلسطيني في جميع أنحاء فلسطين التاريخية، ويحدث هذا بدعم سياسي واقتصادي وعسكري من الدول الإمبريالية.

إن مواقف اليسار الأوروبي بشأن الحروب العدوانية الأطلسية وبشأن الكيان الصهيوني، تخدم الدول الإمبريالية كالولايات المتحدة وأوروبا وإن إهمال الطابع الاستعماري للدولة الصهيونية، هو بمثابة تبرئة الصهيونية من طابعها الاستعماري العميق، إلا أن الأحداث والوقائع التاريخية تُبيّن إن أي احتلال أو استعمار هو عمل غير شرعي، مما يجعل أي شكل من أشكال مقاومة الاحتلال مشروعاً، بل وضرورياً، ومن ينكر هذا الحق (أو الواجب) يضع نفسه في معسكر المستعمرين والمحتلين الصهاينة والإمبريالية.

إن المرحلة التاريخية الحالية في فلسطين هي مرحلة التحرر الوطني، وليس نهاية الفصل العنصري أو المساواة في الحقوق بين المحتلين والواقعين تحت الإحتلال، بل التحرير الكامل لفلسطين التاريخية وعودة اللاجئين.

 

للمراجعة:

غابرييل روكهيل، “وكالة المخابرات المركزية و معاداة مدرسة فرانكفورت للشيوعية”، مراجعة لوس أنجلوس للكتب، 27 حزيران/يونيو 2022.

غابرييل روكهيل ، “النظرية النقدية والثورية: من أجل إعادة اختراع النقد في عصر إعادة التنظيم الأيديولوجي،” في الهيمنة والتحرر: إعادة صياغة النقد، أد. دانييل بنسون (لانهام: رومان وليتلفيلد بي 2021)

 

رابط المُداخلة السمعية-البصرية يوم الجمعة 01 آذار/مارس 2024، بداية من الساعة السابعة مساء بتوقيت تونس والجزائر وباريس

التعليقات مغلقة.