إفريقيا- بعض خصائص اقتصاد القارّة / الطاهر المعز

373

الطاهر المعز ( تونس ) – الجمعة 26/1/2024 م …

تنشر وكالة التنمية الدّولية الفرنسية (جهاز حكومي) تقريرًا سنويا عن توقعاتها للوضع الإقتصادي بإفريقيا وعن آفاقه المُحتملة، نظرًا للمصالح والمنافع الضّخمة التي تُحَقِقُها الشركات الفرنسية من نهب موارد وسط وغرب إفريقيا التي كانت مستعمرات فرنسية مباشرة، ولا تزال خاضعة للنفوذ الفرنسي، غير إن روسيا والصين وبعض القوى الأخرى بدأت تُنافس الشركات والدولة الفرنسية في هذه المناطق، وأظْهَر تقرير وكالة التنمية الدّولية الفرنسية بعنوان “الإقتصاد الإفريقي 2024″ بنقص التمويل الدّولي في إفريقيا وبالتنوع البيولوجي الكبير وضرورة المحافظة على الموارد الطبيعية وتأثير التغيرات المناخية والبيئية على حركة النزوح الدّاخلي والهجرة من إفريقيا إلى أوروبا، وهذا مربط الفرس، لأن الدّول الإمبريالية تريد استمرار استغلال موارد البلدان الفقيرة، دون تَحَمُّل النتائج السلبية لهذا الإستغلال المفرط، والمتمثل في القضاء على سُبُل عيش السّكّان المَحلِّيِّين الذين يضطرون إلى الهجرة بحثًا عن الرّزق الذي حرمتهم منه الشركات العابرة للقارات في بلدانهم الأصلية، وابتكرت الدّول الإمبريالية الإستعمار الأخضر و”التعويض الإيكولوجي” مع استمرار نهب المعادن وحتى طاقة الشمس والرياح والمياه في إفريقيا (وبلدان أخرى) بذريعة التحول إلى استخدام الطّاقات “النّظيفة” أو “المُتَجَدِّدَة”، ولا تساهم إفريقيا سوى بنسبة ضئيلة جدًّا في ظاهرة الاحتباس الحراري، لكن يُعاني الملايين من سكانها من انعدام الأمن الغذائي ومن نقص المياه والتيار الكهربائي والرعاية الصحية، ومن التفاوتات الطّبقية المجحفة، ولا تتمتع أي دولة إفريقية بالسيادة الغذائية ولا بإنتاج الأدوية الأساسية، ربما باستثناء جنوب إفريقيا، ولا بالتمويل الذّاتي لبرامج التنمية…

تتُقَدَّرُ مساحة قارة إفريقيا بنحو ثلاثين مليون كيلومتر مُرَبّع، ويسكنها نحو 1,3 مليار نسمة، وتُعَدّ إفريقيا أكثر القارات ثراءً حيث تُمثل ثرواتها الطبيعية كنزًا هائلا، غير إن السكان لا يستفيدون منه، ويعتمد اقتصاد القارة الافريقية على استخراج موارد الطاقة والمعادن والزراعة والقليل من السياحة، وذلك وفق التقسيم العالمي للعمل، وفقا للعلاقات غير المُتكافِئَة بين الدّول الإمبريالية الإستعمارية والبُلدان الواقعة تحت الهيمنة، ومنها إفريقيا تمتلك القارة نحو ثُلُث احتياطيات العالم من أهم المعادن، ونحو 30% من الاحتياطي العالمي من اليورانيوم و25 %من إنتاج الذهب و 50% من احتياطي الذهب في العالم و 12% من احتياطي النفط العالمي و 10% من إجمالي احتياط الغاز العالمي، فضلا عن نسبة كبيرة من احتياطات العالم من الماس والكروم والبلاتين واليورانيوم، وهي ثروات تستغلها الشركات العابرة للقارات والدّول الأجنبية، باستثمارات ضئيلة – أهمها في مصر وجنوب إفريقيا والمغرب والحبشة، وليست في البلدان الأكثر ثراءً بالمعادن والمحروقات – ورغم ضخامة حجم الثروات، لا يتجاوز حجم الناتج المحلي الإجمالي لاقتصادات القارة 2,5 تريليون دولار، فيما يبلغ حجم التجارة بين أفريقيا والعالم حوالي 935 مليار دولارًا سنة 2021، وفق البنك العالمي…

رغم الثروات، كان نمو البلدان المصدرة للموارد الاستخراجية بطيئا بين سنتَيْ 2015 و2019، بسبب انهيار أسعار المعادن بداية من منتصف سنة 2014، وبعد ارتفاع أسعار السلع الأساسية، بلغ متوسط النمو في البلدان النفطية الأفريقية 3,1% سنة 2021، أما البلدان التي يعتمد نشاطها الاقتصادي على صادرات المواد الأولية والسياحة فقد تأثرت كثيرا بوباء كوفيد 19 حيث انكمش اقتصادها وأصبح سلبِيّا بنسبة – 7,7% سنة 2020، ولم تستفيد دول إفريقيا ومثيلاتها من “الإنتعاش الفني” (وفق تعبير البنك العالمي وصندوق النقد الدّولي) سنة 2021، بل ظل النمو بطيئاً ولم يتجاوز 1,4% سنة 2022 و 3,4% سنة 2023، مع فروقات كبيرة بين البلدان، غير إن معظم بلدان إفريقيا تشترك في بعض الخاصيات ومنها ارتفاع نسبة الدّيُون الخارجية التي تلتهم جزءًا كبيرًا من ميزانيات الدّول، ومنها انخفاض دخل الفرد وزيادة الفقر والبطالة، ما يضطر عشرات الآلاف من المواطنين إلى الهجرة غير النظامية، في ظل إغلاق الدّول الغنية حدودها، وتُشكّل “الهَشاشة الهيكلية” إحدى العوامل المُشتركة لدول القارة، حيث لا يكفي معدّل النّمو لتشغيل المُعطّلين عن العمل والوافدين الجدد إلى “سوق العمل” كل سنة، بل يُعاني السّكّان من صعوبة الحصول على الغذاء والدّواء والسّكن والخدمات الأساسية، ولا تكفي نسبة النمو لتمويل البنية التحتية وتحسين شبكات توزيع المياه والتيار الكهربائي والصرف الصحي، بل تراجع مؤشر التنمية في إفريقيا منذ سنة 2020، وفق الأمم المتحدة.

ارتفعت قيمة الدُّيُون العمومية ل 36 دولة (منذ 2020) من أصل 54 دولة، في سياق يتسم بارتفاع نسبة التضخم وتشديد شروط الإقتراض في الأسواق الدولية، ما يزيد من حجم احتياجات التمويل التي لم تتمكن الدول الإفريقية من تلبيتها، وفق التقارير الدّورية للبنك العالمي، فيما قَدَّرَ صندوق النقد الدولي (سنة 2021) الإحتياجات التمويلية للقارة الأفريقية بأكثر من 400 مليار دولار، وهو رقم يَقِلُّ عن الواقع بكثير، بفعل استمرار التضخم وإنفاق “الطوارئ” وتأثير العوامل الخارجية كالحروب والصراعات الدّولية والجفاف والعوامل الطبيعية التي تزيد من حاجة التمويل بقارة إفريقيا بما لا يَقِلُّ عن خمسين مليار دولارا سنويا.

تواجه معظم مناطق العالم ارتفاع مستويات الديون، بفعل التّضخم وبفعل السياسات النقدية للدّول الإمبريالية – التي تضطر المصارف المركزية إلى شراء عُمْلَتها لتغطية حاجيات البلدان من التّوريد ومن تسديد الدّيون الخارجية – التي تُؤَثِّرُ قرارت رفع سعر الفائدة بها ( رسميا بهدف الحدّ من نسبة التّضخّم) على الأسواق النقدية والمالية ما يرفع سعر فائدة القُرُوض، وتؤدّي الزيادة في أسعار الفائدة إلى هُرُوب الأموال من البلدان الفقيرة ومتوسطة الدّخل إلى البلدان الإمبريالية لأن العائد على الإستثمارات يصبح أعلى بكثير من البلدان الأخرى، وهو ما يُسمّى “إعادة تموضع الإستثمارات” وهجرتها من البلدان الأفريقية (والبلدان المماثلة) إلى البلدان الرأسمالية المتقدّمة، ولذلك، لم تعد العديد من البلدان الأفريقية – خصوصًا منذ 2022 – قادرة على الإقتراض من الأسواق الدولية، فيما خفضت الصين، منذ 2020، حجم القروض التي كانت تُقدّمها إلى الدّول الإفريقية بشروط تفضيلية، ما أدى إلى خفض مُعدّل الإنفاق العام إلى أقل من رُبُع ( 24,7% ) الناتج المحلي الإجمالي بمعظم الدّول الإفريقية سنة 2023، بسبب ارتفاع تكلفة الاقتراض وخدمة الدين العام (نتيجة رفع سعر الفائدة من قِبَل الإحتياطي الفيدرالي الأمريكي والمصرف المركزي الأوروبي وغيرهما)، وأصبحت حصة الإيرادات العامة المخصصة لسداد الديون تزيد عن 15% في أكثر من عشرين دولة إفريقية سنة 2023، مما يعيق بشدة الإستثمار والإنفاق العام على المرافق والخدمات الاجتماعية والصحة والتعليم، وما خَفَّضَ معدل النمو الحقيقي للاقتصاد الأفريقي من نحو 3,9% سنة 2022 إلى 3,2% سنة 2023، بينما ارتفعت نسبة التضخم من حوالي 15% سنة 2022 إلى نحو 20% في المتوسط سنة 2023 وفق تقديرات صندوق النقد الدولي، مع الإشارة إن نسبة النمو تحققت بفعل قطاعات الفلاحة والسياحة واستخراج المعادن وتصديرها خامة، ولذلك فهي لا تخلق قيمة زائدة مرتفعة مثل الصناعة المتطورة وقطاع التكنولوجيا …

أدّى نقص التمويل المحلي إلى الإقتراض وزيادة الديون في إفريقيا لتَتَمَكَّنَ الحكومات من تغطية النفقات العامة والنفقات الطارئة الناتجة عن الأزمات المتعاقبة وعن العوامل الطبيعية، ولذلك ارتفع معدل الدين العام الأفريقي، من حوالي 30% من الناتج المحلي الإجمالي خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ثم ارتفع خلال الفترة 2008-2019، ليصل إلى أكثر من 66% سنة 2020، ويتوقع صندوق النقد الدّولي أن يتراجع معدّل التداين إلى نحو 60% بحلول سنة 2027، وأدّى تخصيص حصة هامة من الناتج المحلي الإجمالي ومن ميزانية الإنفاق، لتسديد حصص الدّيون وخدمتها (نسبة الفائدة المرتفعة) التي حل أجلها إلى خَفْضِ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في أفريقيا، ليصبح أقل من حصة الفرد في مناطق مُماثلة، مثل أمريكا الجنوبية وآسيا، سنة 2023، وبذلك يكون المواطن الذي ينتمي إلى الأغلبية (العُمال والفلاحون والكادحون والفقراء) ضحية السياسات التي لم يُسْتَشَر ولم يُشارك في إقرارها لكنه يتحمل نتائجها السلبية ولا ينال نصيبًا من الأرباح إذا كانت النتائج إيجابية…

التعليقات مغلقة.