بعد طوفان الأقصى.. انظروا إلى صورة “إسرائيل” إنها تحترق / بثينة عليق

319

بثينة عليق ( لبنان ) – السبت 11/11/2023 م …

في زمن “طوفان الأقصى”، سقط الكثير من الأقنعة، وأصبح المشهد أكثر وضوحاً، ولم تعد “إسرائيل” قادرة على إخفاء وجهها المتوحش والدموي، ولم يعد بالإمكان أيضاً القضاء على وجود الفلسطيني ولا على ظله.

مما لا شك فيه أنَّ “إسرائيل” اعتنت بشكل فائق منذ تأسيسها بصورتها أمام الآخرين، فالصراع كما هو مؤكد ومسلم به ليس صراعاً عسكرياً أو سياسياً فحسب، بل هو صراع على الصور الذهنية أيضاً. لم يأتِ العدو الإسرائيلي إلى بلادنا بدبابة فقط، بل أيضاً بسردية محبوكة تحظى بتواطؤ عالمي كبير، ما ساهم في بناء صورته في العالم. 

ولا شكّ أيضاً في أن “إسرائيل” نجحت إلى حد كبير على هذه الجبهة؛ فقد امتلكت الأدوات والإمكانات، إضافة إلى الدعم السياسي الذي حوَّل المجتمعات الغربية إلى ميادين مفتوحة، ومن دون أي عوائق للعمل الإعلامي والثقافي والفكري الصهيوني.

الحق يقال أن هذه الجبهة شهدت نجاحات لافتة في العقود التي تلت تأسيس الكيان، إلا أن المسار التصاعدي شهد انتكاسة بدءاً من زمن الانتفاضة الأولى، عندما ترسخت في الأذهان صورة أطفال الحجارة الذين يواجهون أعتى جيش يقوم جنوده المدججون بكسر أذرعتهم، وهو ما تم رصده وتسجيله من قبل كاميرات الإعلام العالمي، مروراً بـ”سيف القدس” عندما نجح الفلسطينيون في إيصال صورتهم وصوتهم إلى العالم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وصولاً إلى “طوفان الأقصى” وتحذير رئيس وزراء العدو الأسبق إيهود باراك من خسارة “إسرائيل” الرأي العام العالمي.

هذه المحطات أثرت بشكل كبير في الصورة التي بذل المؤسسون ومن تعاقب على الحكم بعدهم، ومعهم المؤسسات الممتدة في مختلف أنحاء العالم، الكثير من الجهود لتطغى. ما أرادوه هو تكريس صورة “إسرائيل” كواحة للديمقراطية في الوطن العربي وسط نظم تسلطية، وكمسيطرة على وسائل العلم الحديث والتقنية وسط شعوب متخلفة، وككيان يمتلك القوة التي لا تقهر ويحقق الانتصارات الدائمة التي لا تتحمل خسارة واحدة.

يمكن لأي مراقب أن يرى أنهم نجحوا إلى درجة أن المجتمعات الغربية قدمت طوال سنوات التبريرات المختلفة للجرائم التي ترتكبها “إسرائيل”، فالفلسطيني الأصلي، “شأنه شأن الهندي الأحمر، عليه أن يختفي وجوداً وظلاً”، كما كتب الصحافي العربي الكبير محمد حسنين هيكل في سياق تفسيره العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية و”إسرائيل”.

ومن الأدلة على نجاح الدعاية الإسرائيلية في أوروبا تحويل اليهود الذين يبلغ عددهم 6 ملايين، والذين تصر الرواية اليهودية على أنهم قضوا في الهولوكوست، إلى أيقونة لا يجب التشكيك فيها.

 وقد ظهر في هذا السياق مصطلح “صناعة الهولوكوست” الذي اتخذه الكاتب اليهودي المعادي لـ”إسرائيل” نورمان فنكلشتاين عنواناً لكتاب له، أشار فيه إلى “توظيف موضوع الهولوكوست وتحويله إلى صناعة ترمي إلى خدمة المصالح السياسية للنخبة من اليهود الأميركيين بما يتوافق مع مصالح السياسة الخارجية الأميركية”.

لقد وصلت قوة صانعي صورة “إسرائيل” إلى حد إصدار الأمم المتحدة في العام 2005 قراراً يقضي بتعيين يوم تحتفل به كل الدول والشعوب في العالم بذكرى الهولوكوست، كأن هؤلاء الضحايا لهم أفضلية وامتيازات على غيرهم من البشر الذين أبيدوا، مثل الهنود الحمر والسود وشعوب الكونغو وفيتنام وفلسطين الذين لم يحظوا بالتفاتة من المنظمة الدولية.

بدا واضحاً أن المجتمعات الغربية تكونت لديها استجابة يمكن وصفها بالهستيرية لكل ما تبثه الدعاية الإسرائيلية، وذلك نتيجة جهود مؤسسات يهودية وصهيونية استطاعت الإمساك بقوة بالوضع المعرفي والمعلوماتي في تلك البلدان؛ فقد شكل اليهود الصهاينة جزءاً من جماعات المصالح التي تحولت إلى جماعات ضغط، ولم يتوقفوا عن تكرار الأكاذيب المضللة. 

يقول أفراهام بورغ في كتابه “هزيمة هتلر من أجل يهودية أكثر إنسانية وكونية” إننا نعيش في “حضارة صنعتها كلمات مغسولة ومفردات كاذبة كان نتاجها ثقافة كاذبة ومجتمعاً بارداً ومغلقاً، وأسوأ من ذلك كله مصطلحات مبهمة صكّتها إسرائيل، بهدف السماح لمواطنيها وشركائها بالتنصل من مسؤولية الأفعال التي اقترفتها باسمهم”.

 ويعتبر بورغ أن “إسرائيل” تمتلك أكثر “مغاسل الكلام” تطوراً في العالم؛ مغاسل تقوم بإعادة اختراع مصطلحات جديدة وقاموس محدد يستخدمه مؤيدوها بما يتناسب والأجندة السياسية الإسرائيلية. إنها “الهاسبارا”؛ الكلمة التي تعبر عن المشروع الإسرائيلي للدعاية والتسويق.

 يوزع القيمون على مشروع “الهاسبارا” كتيبات على طلاب الجامعات الأميركية يطرحون فيها التقنيات التي يجب أن يلجأوا إليها أثناء خوضهم في النقاشات دفاعاً عن “إسرائيل” وصورتها. من بين هذه النصائح والتوجيهات:

– تسجيل النقاط أفضل من الاشتراك في النقاش. 

– إعادة تدوير الادعاءات نفسها مراراً وتكراراً في كثير من المواقف وكلما أمكن. إذا سمع الناس شيئاً بما فيه الكفاية فسينتهون إلى الاعتقاد به.

– استغلال العموميات المتألقة مثل الحرية والحضارة والديمقراطية لوصف “إسرائيل”، ومحاولة جعل المستمعين مشغولين بالتهديدات الفظيعة لهذه العموميات.

هكذا يتم التلاعب بالجمهور من أجل منع الحجج وعدم التفكير بشكل نقدي فيما يقال. طبعاً، ترافقت “الهاسبارا” مع حملة قمع وتأديب لأي معارض. لا يتأخر أبداً شن حملات كبيرة على منتقدي “إسرائيل”. يتم إسكاتهم عبر تهديدهم بفقدان وظائفهم أو حرمانهم من الحصول عليها. 

ينطبق هذا الأمر على أعضاء مجلس الشيوخ والنواب، كما على الصحافيين وأساتذة الجامعة والممثلين، وحتى عارضات الأزياء. تحدث كثيرون عن محاولات تشويه السمعة وتلفيق الأكاذيب واستخدام تكتيكات بذيئة وهابطة في مواجهة كل من تسول له نفسه انتقاد “إسرائيل”، إلا أن الأمور لم تستمر على هذه الحال، والهيمنة والسطوة الإسرائيليتان تراجعتا بفعل الكثير من العوامل.

 الـ”BDS” دليل على هذا التغيير. أطلقت هذه الحركة نداء عام 2005 يدعو إلى “مقاومة مدنية عالمية ضد إسرائيل عن طريق مقاطعتها وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها حتى تنصاع إلى القانون الدولي والمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، وحتى تنهي اضطهادها لشعب فلسطين”. 

ردّت “إسرائيل” بحشد مضاد، وبالترويج لما سمّته “brand Israel”، بهدف خلق صورة “إسرائيل” المغايرة بطبيعة الحال لصورتها الحقيقية المرتبطة بالاحتلال والاستيطان. وقد شهدنا معركة تخاض بين الطرفين. على مستوى المصطلحات، ركزت “البي دي أس” على “التمييز العنصري” في مقابل تركيز إسرائيل على “معاداة السامية” و”دعم الإرهاب”.

في هذه المعركة، استخدمت “إسرائيل” نفوذها الكبير. خصَّص الكونغرس الأميركي إحدى جلساته لمواجهة حركة المقاطعة والبحث في إمكانية معاقبة المقاطعين، كما أصدرت محكمة النقض الفرنسية حكماً عام 2015 بعدم شرعية ما تدعو إليه حركة المقاطعة. أما في داخل الكيان، فقد تم التحذير من تحول خطر المقاطعة إلى “خطر استراتيجي حقيقي على بقاء إسرائيل”، كما ورد في إحدى جلسات مؤتمر هرتسيليا الشهير.

وقد ذهبت في خشيتها من هذه الظاهرة وفي إصرارها على المواجهة إلى حد تدشين وزارة خاصة لمواجهة “البي دي أس”، إلا أن ما لم تجد “إسرائيل” حتى الآن وسيلة لمواجهته هو ما يحمله الفضاء الافتراضي من فرص للفلسطينيين، بما يسمح لهم بتعديل موازين القوى لمصلحتهم في “حرب الصورة”، فقد تراجعت قدرة ظاهرة “صحافة التدخل السريع” التي عرفتها الولايات المتحدة الأميركية خلال سبعينيات وثمانينات القرن الماضي، والتي كان لوزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسينجر دور في إيجادها وتنظيمها وتوجيهها.

لم يعد التواصل المباشر بين أعضاء السفارة الإسرائيلية في واشنطن أو أعضاء اللوبي الصهيوني من جهة والصحافيين الأميركيين البارزين ونجوم التلفزيون من جهة ثانية يفي بالغرض؛ ففي زمن التواصل الاجتماعي لا يمكن احتكار الرواية والسردية، حتى لو تواطأ أكثر من طرف على ذلك.

ظهر هذا الأمر بوضوح أثناء معركة “سيف القدس”. كتبت الصحف الإسرائيلية عن دخول صور الفلسطينيين وأصوات الناشطين الفلسطينيين إلى غرف نوم الأميركيين من دون قدرة إسرائيلية أو أميركية على منع هذا الأمر. 

الأمر نفسه تكرر بعد عملية “طوفان الأقصى”. استطاعت “إسرائيل” في الأيام الأولى التي تلت العملية الترويج لسرديتها معتمدة على تقنيات “الهاسبارا” وعلى “صحافة التدخل السريع”، إلا أنها ما لبثت أن فقدت المبادرة نسبياً أمام أمواج الصور الواردة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

وبعد أكثر من شهر على الحرب المتوحشة على غزة، تبدو “صورة إسرائيل” المرتجاة من قبلها وقبل رعاتها في خطر. وبعد قرن من التضليل والأكاذيب والتلاعب بالعقول، ها هو “طوفان المعلومات” يهدد مسار الرواية والسردية الصهيونية.

في زمن “طوفان الأقصى”، سقط الكثير من الأقنعة، وأصبح المشهد أكثر وضوحاً، ولم تعد “إسرائيل” قادرة على إخفاء وجهها المتوحش والدموي، ولم يعد بالإمكان أيضاً القضاء على وجود الفلسطيني ولا على ظله.

التعليقات مغلقة.