خالد فارس: ثوابت استراتجية الاحتواء (الفردى والثنائىوالثلاثى) الامريكى.. ايران والصين وروسيا اليوم أقوى من الأمس.. وأميركا اليوم أضعف من أميركا الأمس / خالد فارس

478

خالد فارس ( الخميس ) 25/7/2019 م …

فى تسعينات القرن العشرين, منذ أن انطلق عقد القطب الأحادى الأمريكى, أعلن مارتن انديك,  فى مؤتمرفى عام 1993, برعاية منظمات صهيونية, عهد سياسة الاحتواء المزدوج. سياسة بموجبها ستتخلى أميركا عن فكرة سياسة توازن القوى, تحديدا بين العراق وايران.

تبنى كلينتون الجزء المتعلق فى ايران, على أساس أنه لا بد من الضغط الاقتصادى السياسى على ايران حتى يحدث تغيير شامل فى ايران, تحديدا فى السياسة الايرانية.  اعتبر مارتن انديك, أن  امكانيات ايران العسكرية ستشكل تهديدا خطيرا على “اسرائيل”, واعتبر أن حزب الله وحماس, قِوى تُعادى السَّلام, وهى جزء من المنظومة الايرانية. وكما يقول ترامب اليوم, قال كلينتون فى الأمس: , لانريد اسقاط الحكومة الاسلامية فى ايران.

شهدت تلك الفترة زيارتين متتاليتين, الأولى اسحق رابين رئيس وزراء الكيان الصهيونى وتلاها زيارة حسنى مبارك. مَثّل الخطر الايرانى  تقاطعاً فى الرؤى بين اسحق رابين ومبارك, ربما مع اختلاف “المنطلقات”, الا انه لذلك التقاطع أثر كبير على مارتن انديك وحماسته تجاه التشدد مع ايران. تتلقى أميركا تشجيعاً من “اسرائيل” والانظمة العربية على معاداة ايران, ومعاداة ايران نقطة تقاطع مصالح مع الكيان الاحتلالى الاسرائيلى, والتى يدفع ثمنها الفلسطينى والعربى.

قبل الاحتواء المزدوج, تبنت أميركا الاحتواء الفردى, فى مواجهة الاتحاد السوفييتى, والذى على أساسه اطلقت الولايات المتحدة سياسات مدروسة لاسقاط الاتحاد السوفييتى.

اليوم, هناك من يطالب باتباع سياسة الاحتواء الثلاثى: روسيا, الصين, ايران. الليبرالى المتخصص فى العلاقات الدولية مايكل ماندلبوم –  Michael  Mandelbaum, يطالب بأن تتبع أميركا وحلفائها فى العالم الليبرالى, استراتيجية الاحتواء الثلاثى-triple containment” strategy , فى مواجهة المنافسين الغير ليبراليين, الصين وروسيا وايران.

القاسم المشترك بين سياسات الاحتواء, هو منع توسع المجال الحيوى, الجيو-سياسى والعلمى التقنى والاقتصادى, لتأثير هذه القوى. وخلق مجال مضاد, اما بالحصار أو التفاوض, أو الحرب اذا لزم الأمر, او كما يقول Carl von Clausewitz, “أن الحروب ليست مجرد فعل سياسى, بل أداة سياسية حقيقية, استمرار للعمل السياسى, مواصلة نفس الشىء بوسائل أخرى”.َ نضيف لها, الانقلابات السياسية التى جرت وتجرى فى الوطن العربى واميركا الجنوبية.

الثابت فى الاستراتيجية الأمريكية هو السعى الحثيث نحو تعظيم المنفعة المالية الاقتصادية لامريكا, وتثبيت أركان “المسيحية الصهيونية”, كَمُعْطى تاريخى, أيديولوجى, غير قابل للتغيير فى بنيته و جوهر وجوده.

لقد تقولبت الاستراتيجية الأمريكية,  وانتهت حالة التخفى التى اكتسبتها أميركا خِلسةً فى التاريخ, وصدقها البعض, بأن أميركا تمثل العالم الحر الديمقراطى القائم على حق الشعوب فى تقرير مصيرها, على أساس مبادىء الحرية والديمقراطية. استراتيجية تقوم على: لا حرية أو ديمقراطية: 1) خارج المجال الحيوى للمنفعة الامريكية 2) وخارج مبادىء العمل السياسى المسيحى-الصهيونى.  نموذج كامب ديفيد, وادى عربة, اوسلو, هو قالب هذه الاستراتيجية فى الوطن العربى.

الاحتواء الفردى, والتثائى, والآن الثلاثى, يسعى الى منع توسع قوى معادية أو قوى ترفض الجمع بين الأمرين معاً. فالتنين الصينى لن يقبل بالمسيحية الصهوينية مرجعاً لمبادى النظام العالمى, ولا الوطنيين الروس, و كذلك الايرانيون. من المحزن أن نرى أن الذى يقف مع أميركا فى استراتيجيات الاحتواء هى المنظمات الصهيونية و”اسرائيل” ومعها أصدقائها من البترودولار العربى, ومنظومة كامب ديفيد ووادى عربة وأوسلو.

نجحت سياسة الاحتوء الفردى, وسقط الاتحاد السوفييتى, ونجحت سياسة الاحتواء المزدوج, جزئيا, وسقط العراق وجائت حكومة على ظهر الدبابة الامريكية, ولكن فشلت سياسة الاحتواء المزدوج مع ايران, فلم تسقط ايران ولم تُغَيّر ايران من استراتيجيتها. استطاعت ايران أن تَعَبُر مُؤامَرِة الاحتواء المزدوج, ودخلت الآن مرحلة مواجهة مع الاحتواء الثلاثى.

تَوَسع النطاق الحيوى الايرانى, واصبح يشمل العراق واليمن ولبنان وفلسطين وسوريا, ونجاح كبير فى الابحاث العلمية التى يتم تصنيفها بأعلى المستويات, وحقق حلفاء ايران فى المقاومة تقدما كبيرا. توسع المجال الحيوى الروسى فى عقر دار الليبرالية الغربية فى أوروبا و الشرق الأوسط, وتوسع المجال الحيوى الصينى. وتقاطعت المصالح الاستراتيجية بين ايران وروسيا والصين, فى نطاقات كونية جيو-سياسية.

ايران اليوم أقوى من ايران الامس وأميركا اليوم أضعف من أميركا الأمس. فان سياسة الاحتواء بحاجة الى معجزة حتى تستطيع أن تنقذ أميركا من ورطتها.

تتسوع أميركا فى نطاق استراتيجة الاحتواء, التى أصبحت ثلاثية الابعاد, أضاف ترامب الى نظرية الاحتواء بعداً جديداً, وهو احتواء زائد عالم جيو-سياسى فيه وحدات مستقلة غير متكاملة ضمن منظومة الليبرالية المعلومة كما كان الوضع قبل وصوله الى الحكم.

يسعى ترامب الى عزل الثلاثى الصينى الروسى الايرانى عن المنظومة العالمية التجارية والعسكرية والعلمية. أى أن تبقى هذه الدول كيانات قائمة بذاتها, وليس بنظام التجارة العالمى أو اتفاق نووى عالمى, أو عولمة علاقات دولية. لذلك قام بالغاء الاتفاق النووى, و الغاء اتفاقية الحد من الاسلحة مع روسيا, والغاء اتفاقية التجارة الحرة مع الصين.

يسعى الى فصل هذه الدول عن منظومات النظام العالمى, ليبدأ بعدها, باحتواء كل دولة لوحدها. فهى احتواء ثلاثى بعد عزل الدول عن النظام العالمى.

طلبت أميركا من الدول الاوروبية عدم التعامل مع شركة هواوى, ولكن هذه الدول رفضت ذلك. وشكل ذلك تحدى كبير جداً لاستراتيجية ترامب.

تفوقت الصين على أميركا فى العديد من المجالات, ليس أقلها أن الصين الدولة الوحيدة فى العالم أو الأولى التى لديها شبكات الجيل الخامس, ولديها آلاف براءات الاختراع فى تكنولوجيا الجيل الخامس, وأن اميركا بحاجة الى سنوات طويلة لكى تلحق بهذه التكنولوجيا, لهذا لن تستطيع أوروبا وبريطانيا الاستغناء عن تكنولوجيا شركة هواوى.

من المستبعد أن تؤدى حرب أميركا على شركة هواوى الى انتصار أميركى أو هزيمة صينية, بل من المرجح أن تنتصر الصين فى هذه المعركة. لقد استفزت الخطوة الامريكية العلماء فى الصين, وانطلقو فى الاعلان عن مصادر بديلة جارى العمل عليها منذ مدد طويلة.

يضاف الى ذلك, دور الخبراء الروس, الذين أعلنوا أن لديهم محركات بحث متطورة جداً, يعمل عليها الروس منذ سنين طويلة, تم عرضها على الصينيين, وتستعد الصين لاستيعاب البدائل. واذا قررت الصين بشأن أى بديل, سيكون لهذا البديل أكبر سوق فى العالم: السوق الصينى الروسى الايرانى.

ان العالم الذى تريد أميركا خوض صراعات احتواء ثلاثى وفصل الدول عن منظومات العولمة, هو عالم معقد, يزداد فيه الشعور, بأن النظام العالمى الغربى, فاشل وغير مقبول على المدى البعيد. يضاف الى ذلك, أن المجالات الحيوية للاقتصاديات الحديثة غير ممؤسة ولاتخضع لمنظومات تحجمها أو قوانين تأطرها, فهى منفلتة. تتجسد هذه المجالات فى علوم الكيمياء الحيوية, والذكاء الصناعى, وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات, ومعالجة البيانات الضخمة, والحاسبات العملاقة, وأمن المعلومات, وخلق وصناعة مدن صناعية على أساس العلوم الحديثة. لو أن أميركا مُسيطرة على هذه المجالات, لما استطاعت الصين وروسيا وايران أن تتوسع فى المجال الحيوى وأميركا تضطر الى التوسع فى نطاق محاصرة العالم واحتوائه.

التعليقات مغلقة.