المعجزة الفلسطينية ومأزق المشروع الصهيوني / د. حسن نافعة

416

د. حسن نافعة ( مصر ) – السبت 9/3/2024 م …

من بين حطام غزة المدمرة، تتجلى صورتان متناقضتان؛ الأولى يرسمها صمود شعب فلسطيني أعزل، لكن تصميمه الأسطوري على نيل حريته واستقلاله مكنه من صنع ما يشبه المعجزات، والأخرى يرسمها جبروت مشروع صهيوني وصل إلى أعلى مراحل قوته، لكن تناقضاته البنيوية قادته إلى مأزق لا فكاك له منه، وسوف تؤدي حتماً إلى تصدعه وانهياره، طال الزمن أم قصر.

المعجزة الفلسطينية تجلت عبر مشاهد ثلاثة يمكن إجمالها على النحو التالي:

المشهد الأول: عملية “طوفان الأقصى” التي خططت لها حركة حماس على مدى شهور طويلة وتمكنت من تنفيذها باقتدار ونجاح يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي؛ فقد أسفرت هذه العملية عن إذلال الجيش الإسرائيلي “الذي لا يقهر”، ودمرت سمعة كل أجهزة الأمن الإسرائيلية التي كانت شهرتها قد طبقت الآفاق. 

ولأنه لم يكن بمقدور أحد أن يتصوّر، حتى في أكثر أحلامه جنوحاً، أن يتمكّن فصيل فلسطيني محدود الإمكانات والموارد، وخصوصاً إذا كان يعيش في قطاع غزة الضيق والمحاصر منذ ما يقارب 17 عاماً، من التخطيط لعملية عسكرية على هذا القدر من الضخامة والتعقيد، وأن ينجزها على هذا المستوى الرائع من الجسارة، وبعد ممارسة أشكال متعددة من الخداع الاستراتيجي في مواجهة أجهزة أمن تملك إمكانيات بشرية وتقنية غير محدودة، فقد أسهمت قدرته على تحقيق هذا الإنجاز في تمكين الشعب الفلسطيني من استعادة ثقته بنفسه، وأعادت الاعتبار إلى المقاومة الفلسطينية التي بدأ الشعب الفلسطيني يلتف حولها من جديد، ويرى فيها سبيلاً وحيداً لتحقيق طموحاته في الحرية والاستقلال. 

المشهد الثاني: صمود الفصائل الفلسطينية المسلحة في الحرب الإجرامية التي تشنها “إسرائيل” على قطاع غزة منذ ما يزيد على 150 يوماً حتى الآن، وتمكنها من تكبيد “الجيش” الإسرائيلي خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، رغم الدعم الهائل الذي يتلقاه من الولايات المتحدة ومن معظم دول أوروبا الغربية، ونجاحها في تحويل هذه الحرب التي أرادتها “إسرائيل” خاطفة إلى حرب استزاف طويلة الأمد.

ولا جدال في أن هذا الصمود ساعد على إظهار هشاشة “الجيش” الإسرائيلي وأكد قابليته للهزيمة من ناحية، كما ساعد من جديد على إظهار فاعلية حروب العصابات أو الحروب غير النظامية في مواجهته من ناحية أخرى.

المشهد الثالث: تمسك الشعب الفلسطيني بأرضه ورفضه التام الرحيل عنها، رغم كل ما تعرض له من صنوف القهر والإبادة الجماعية؛ فقد حاولت “إسرائيل” توظيف واستثمار عملية “طوفان الأقصى” وسعت لتحويلها من محنة إلى فرصة تتيح لها تفريغ قطاع غزة من سكانه وإعادة احتلاله من جديد، بعد طرد سكانه البالغ عددهم ما يقارب 2.3 مليون نسمة وإجبارهم على النزوح قسراً إلى سيناء، فهي لم تكتفِ بإلقاء آلاف الأطنان من المتفجرات فوق القطاع، محدثة دماراً هائلاً شمل أكثر من 70% من المنازل السكنية والمباني الإدارية والمدارس والمستشفيات، لكنها قامت في الوقت نفسه بقطع المياه والكهرباء والطاقة ومنع وصول الغذاء إلى جميع سكان القطاع، بل وراحت تطارد النازحين منهم كي يغادروه نهائياً.

ورغم ذلك كله، لم يحاول أحد من أفراد الشعب الفلسطيني إلقاء المسؤولية على حماس أو على فصائل المقاومة المسلحة، بسبب إدراكهم العميق أنهم المستهدفون الحقيقيون من الحرب على غزة، وليس المقاومة المسلحة وحدها. ولا شكَّ في أن الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني وتمسكه العنيد بأرضه هو الذي مكَّن المقاومة المسلحة بدورها من الصمود في وجه آلة الحرب الإسرائيلية.

أما مأزق المشروع الصهيوني فيتجلى بدوره عبر مشاهد ثلاثة يمكن إجمالها على النحو التالي:

المشهد الأول: تعكسه انقسامات عميقة تهز كلاً من النظام الحاكم والمجتمع الإسرائيلي. صحيح أن جذور هذه الانقسامات عميقة وتعود إلى ما قبل “طوفان الأقصى”، بدليل لجوء النظام الحاكم إلى 5 انتخابات برلمانية مبكرة خلال 3 سنوات قبل أن يتمكن من تشكيل حكومة مستقرة، واندلاع تظاهرات عارمة ومتواصلة احتجاجاً على تعديلات سعت الحكومة الحالية إلى إدخالها على النظام القضائي، غير أن ما جرى يوم 7 تشرين أول/أكتوبر الماضي عمَّق كثيراً من هذه الانقسامات وحوَّلها إلى أزمة تهدد مستقبل المشروع الصهيوني برمته.

ورغم تمكن نتنياهو من توسيع الائتلاف الحاكم وتمكنه من تشكيل “مجلس حرب” يعبر عن وحدة المجتمع الإسرائيلي في مواجهة “الطوفان”، فإنَّ الانقسامات سرعان ما دبت داخل مجلس الحرب نفسه، وهي ظاهرة تحدث لأول مرة في تاريخ الحروب الإسرائيلية. 

تعود الانقسامات الحالية لأسباب كثيرة، أهمها عجز “الجيش” الإسرائيلي عن تحقيق نتائج ميدانية مرضية، وقيام الحكومة بتحديد سقوف وأهداف عالية للحرب الحالية تبين أنها غير قابلة للتحقيق، وفشلها في استعادة الرهائن عبر التفاوض والوساطة، وحرص نتنياهو نفسه على إطالة أمد الحرب خوفاً من تعرضه للمساءلة والعقاب بسبب مسؤوليته السياسية عما حدث يوم 7 تشرين أول/اكتوبر أو لأسباب أخرى تتعلق باتهامات قديمة بالفساد. 

ومن الواضح أن هذه الانقسامات تتجه نحو التصعيد، وليس التهدئة، بدليل إقدام غانتس، عضو مجلس الحرب، على زيارة الولايات المتحدة دون التنسيق مع رئيس الوزراء، ما قد يؤدي إلى احتمال سقوط الحكومة الحالية في أي وقت، حتى قبل أن تتوقف الحرب، وهو ما قد تترتب عليه نتائج سياسية خطيرة. ولأنها المرة الأولى التي تواجه فيها الحكومة الإسرائيلية انقسامات سياسية ومجتمعية عميقة في وقت يخوض “الجيش” الإسرائيلي حرباً صعبة، يتوقع أن تكون لهذه الانقسامات آثار بعيدة المدى في مستقبل المشروع الصهيوني نفسه.

المشهد الثاني: يعكسه مثول “إسرائيل” أمام محكمة العدل الدولية متهمة بارتكاب جرائم إبادة جماعية في حق الشعب الفلسطيني. صحيح أن هذه المحكمة لم تصدر بعد حكماً نهائياً في القضية التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا ضد “إسرائيل” في كانون الأول/ديسمبر الماضي، غير أنها وجدت فيها ما يكفي من الأدلة لإصدار أمر يلزم “إسرائيل” باتخاذ مجموعة من الإجراءات الاحترازية التي تستهدف حماية الفلسطينيين، منها: وقف أيّ إجراءات متعمَّدة قد تتسبب بفنائهم أو فناء جزء منهم، ومنع التحريض على ارتكاب فعل الإبادة الجماعية ضدهم، وتوفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية التي يحتاجونها. 

وصحيح أيضاً أن “إسرائيل” لم تلتزم بتنفيذ أي من هذه الإجراءات الاحترازية الواجبة النفاذ، بسبب تواطؤ إدارة بايدن واستعدادها الدائم لاستخدام الفيتو لمنع مجلس الأمن من اتخاذ أي إجراءات عقابية ضدها، لكن دعوى الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ستبقى منظورة أمام محكمة العدل الدولية لعدة سنوات قادمة، وبالتالي ستظل سيفاً مسلطاً على رقبة “إسرائيل” طوال الأعوام التي سيستغرقها نظر هذه الدعوى، والتي ستتيح فرصاً ومناسبات عديدة لإلقاء الضوء على مجمل التناقضات البنوية الكامنة في بنية مشروع صهيوني لا يمكن إلا أن يكون توسعياً وعنصرياً بطبيعته.

المشهد الثالث: تعكسه التحولات العميقة في موقف الرأي العام العالمي تجاه كل من “إسرائيل” والقضية الفلسطينية.

ورغم إقدام “إسرائيل” على تنظيم حملة دعائية ضخمة لإظهار ما جرى في 7 تشرين الأول/أكتوبر كأنه عملية إرهابية منبتة الصلة باحتلالها للأراضي الفلسطينية وحرمان الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره، ورغم تبني الولايات المتحدة الأميركية، ومعها معظم دول أوروبا الغربية للسردية الإسرائيلية، فإن قطاعات واسعة جداً من الرأي العام العالمي بدأت تدرك حجم الزيف الذي يكتنف هذه السردية البعيدة كل البعد عن الحقيقة، ومن ثم رفضت تصديق هذه السردية التي استهدفت تبرير حرب إبادة جماعية تتعمد “إسرائيل” شنها على كل الشعب الفلسطيني. 

الدلائل على تلك التحولات كثيرة جداً منها، على سبيل المثال لا الحصر: اندلاع تظاهرات مليونية في العديد من العواصم الغربية، بما فيها واشنطن ولندن وباريس، تطالب بوقف الحرب على قطاع غزة، وأيضاً بإقامة دولة فلسطينية مستقلة.

ولا شك في أن نجاح النائب البريطاني السابق جورج غالاوي، وهو من أشد المناصرين للقضية الفلسطينية، في استعادة مقعده السابق في مجلس العموم البريطاني، وتمكنه بالتالي من إلحاق هزيمة ساحقة بمرشحي الحزبين العمالي والمحافظ في دائرته، يدل على عمق هذه التحولات التي تظهر الآن بوضوح أن “إسرائيل” هي الجلاد، وأن الشعب الفلسطيني هو الضحية.

قبل “طوفان الأقصى”، كانت القضية الفلسطينية قد بدأت تدخل مرحلة التصفية الفعلية، وكانت الحكومة الإسرائيلية الحالية، وهي أكثر الحكومات تطرفاً وعنصريةً في تاريخ “إسرائيل”، تستعد لفرض شروطها للتسوية على الشعب الفلسطيني، وأيضاً لإعداد المسرح الإقليمي لدمج “إسرائيل” الكبرى في المنطقة، غير أنّ “الطوفان” اكتسح في طريقه كل هذا النوع من الحسابات، وفرض على جميع الفاعلين إعادة تقييم مواقفهم من جديد. 

صحيح أن الجولة الحالية من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والتي يشارك فيها بشكل أو بآخر فاعلون إقليميون من غير الدول، لم تنتهِ بعد، إلا أنَّ أوضاع المنطقة برمتها لن تعود أبداً إلى ما كانت عليه من قبل، فالشعب الفلسطيني ينهض اليوم من بين ركام القهر. أما المشروع الصهيوني، فيتدحرج من أعلى التل!

 

التعليقات مغلقة.