عرس وسط الدمار
مدارات عربية – الإثنين 15/1/2024 م …
كانت صليات من الرصاص المتبادل بين المقاومة والاحتلال تسمع من بعيد وكأنها تحَيّي العروسين، فأخذ عروسه من يدها وهو غير مصدّق أنه فعلاً عريس، وأنّ ياسمين أصبحت له وحده.
لطالما حلمت ياسمين ابنة غزة أن تحتفل بيوم زفافها في إحدى قاعات الأفراح في غزة القريبة من البحر كما فعلت صديقاتها.
كانت ياسمين قد أتمت خطبتها، وكتب كتابها على ابن جيرانها محمد قبل سنتين، وبدآ بالتحضير ليوم الزفاف متلهِّفةً لارتداء الثوب الأبيض، وأن تفرح كما هو حلم كل فتاة على هذه المعمورة.
خطيبها محمد استطاع أن يستأجر شقة في أحد الأبراج في جباليا، وتشارك مع خطيبته في تجهيز وتأثيث الشقة، وأصبح البيت جاهزاً للسكن، وتكوين أسرة فلسطينية. موعد العرس كان في الربيع المقبل بعد شهر رمضان.
كان محمد وياسمين يتجوّلان يومياً على شاطئ البحر، ونسائم البحر تداعب وجنتيهما، ويناجيان البحر، وأمواجه الهادئة، وربما يرسلان الأشواق لأحبائهما في الأفق البعيد؛ كانا يتحدّثان عن حياتهما المستقبلية وعن حلمهما المشترك رغم الحصار الذي تعيشه غزة منذ نحو سبعة عشر عاماً. كانا طفلين في ذلك الوقت، يلعبان سوية في الشارع مع أترابهما، ورغم ذلك مرّت عليهما حروب متعددة شنتها “دولة” الكيان من أجل القضاء على المقاومة، وعلى كل حلم فلسطيني في قيام الدولة المستقلة العتيدة. شاهدا الكثير من جنازات الشهداء الذين سقطوا في هذه الحروب غير العادلة. اعتادا على العيش من دون كهرباء، وعلى شحّ المياه، والندرة في المواد التموينية بفعل الحصار.
الحياة روتينية في غزة، فليس فيها أماكن ترفيه كما في رام الله وغيرها من مدن الضفة، ولكنهما كباقي أهالي غزة اعتادا على هذا الوضع وتعايشا معه، وكان حلمهما أن يزورا القدس عاصمتنا الأبدية، وأن يصلّيا في المسجد الأقصى، وأن يتجوّلا في أزقة وطرقات القدس القديمة، فمنذ الحصار لا يستطيع سكان غزة زيارة أهاليهم وأقاربهم في الضفة الغربية، كما أن الاحتلال منع معظم الفلسطينيين من زيارة القدس إلا من كان لديه تصريح للعلاج أو للحالات الصعبة، وخلافه.
في يوم السابع من أكتوبر من عام 2023، ومنذ أن سمعا بمعركة “طوفان الأقصى” وما قامت به المقاومة من اختراق للحدود عبر الجدار المنيع، وتسجيل أعظم خطوة عجزت عنها الجيوش العربية مجتمعة لتصنع بذلك تاريخاً جديداً لن ينسى على مر العصور، لم يصدّقا كالآخرين ما تراه أعينهم عبر شاشات التلفاز أو عبر شاشات الأجهزة الخلوية ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
دقّ محمد باب شقة أهل ياسمين بعنف وهو يرقص فرحاً، ويعانق “أم ياسمين” بينما ياسمين مذهولة، فهي لم تره بمثل هذه الحالة سابقاً!
عملوها الشباب، عملوها الشباب…خلص عرسنا بدنا نعمله في القدس.
شو بتقول “انجنيت”؟
“هاي المقاومة حرّرت سديروت وبئيري ومعبر ايريز ووصلت عسقلان، يعني بقي كيلومترات وسيصلون الخليل ورام الله. والله يا أم ياسمين هذا أحسن، وأحلى يوم بحياتي، وبعدها شو بصير فيّ مش مهم، المهم إني شفت إننا قدرنا على أعتى، وأقوى جيش في المنطقة ودعسنا عليه. كنا نفكّر العملية صعبة، ولكنها بسيطة بدها استعداد وإرادة”.
“هدّئ من روعك حبيبي، من تمك لباب السماء، إن شاء الله بينتصروا ونحقّق حلمنا”.
“اليوم وبهذه المناسبة، أنا حابب آكل مقلوبة من تحت إيدين حماتي، الله يسعدك يا حماتي… ست الحموات يا حماتي”.
خرج محمد إلى الشارع ليرى الفرحة على وجوه الناس. الناس غير مصدّقين، ولكن الفرح يغمرهم، وما هي إلا لحظات حتى بدأ الطيران الحربي يهدر في سماء غزة، وبدأت الصواريخ تنهال كزخ المطر على المباني، وعلى الناس الآمنين، وليعلن النتن ياهو شنّ حربه المسعورة على القطاع الجريح. بدأت صفارات سيارات الإسعاف، والدفاع المدني تصدح في المكان وتنقل الشهداء والجرحى إلى مجمّع الشفاء.
سُحُب من الدخان والغبار والصراخ أصبحت تنتشر في الفضاء الواسع والضيّق على أهل غزة، وانتشرت جثث الشهداء في الشوارع والمستشفيات ومعظمهم من الأطفال والنساء. استمرّ القصف أياماً متتالية ومن دون توقّف، وأخذ عدد الشهداء في الازدياد يوماً بعد يوم، وأخذ الأهالي في النزوح باتجاه وادي غزة، على اعتبار أنه آمن.
نجا محمد بأعجوبة عندما قصفت إحدى الطائرات المغيرة العمارة التي يسكنونها والتي ذهب ضحيتها عشرات الشهداء، منهم من استطاعت طواقم الدفاع المدني إنقاذه ومنهم من بقي محاصراً ومدفوناً تحت الركام.
أكذوبة الصهاينة لم تنطلِ على أحد، فأخذ يقصف ويقتل النازحين قبل وصولهم برّ الأمان. بعد مرور ستين يوماً على بدء الحرب نزح محمد مع ياسمين وأهله وأهلها باتجاه رفح في الجنوب، واستطاعوا أن يصلوا إحدى المدارس التابعة لوكالة الغوث “الأونروا” والتي خصّصت للجوء النازحين.
المكان كان يغصّ بآلاف النازحين، والمدرسة أصبحت مخيماً كبيراً يغص بالنازحين، وبدأت رحلة معاناة مع النزوح من حيث قلة المياه، وعدم وجود الكهرباء ليلاً مما يجعل الليل موحشاً، والاصطفاف على دورات المياه لقضاء الحاجة ولأخذ وجبة الطعام…إلخ.
أصبح لقاؤه بياسمين في ساحة المدرسة وسط هذا الكم من جمهور النازحين.
كان يحاول الترفيه عن الأطفال وتشاركه ياسمين ذلك، أصبح حلمهما بعيداً، كيف سيعيشان سوية وأين سيسكنان، وشبح الموت يلاحقهما من زاوية لأخرى. ينظر إلى النجوم في الليالي ويعدّها فالليل طويل، وربما تستطيع أن تغفو قليلاً قبل أن تسمع هدير طائرة بعد أن أفرغت صواريخ، وقتلت وجرحت المئات بل الألوف.
هذه ليست حرباً، هذه إبادة جماعية للبشر والحجر والشجر، ليس هناك مكان آمن في غزة، والكلّ ينتظر دوره، والكلّ مؤمن بانتصار المقاومة رغم فداحة الخسائر.
– “يَمّا محمد، شو رأيك نفرح فيك أنت وياسمين ونعملكم عرس في المدرسة، خلينا نفرح بعد كل هذه الآلام والأوجاع والساعات الصعبة التي نعيشها، خليني أفرح فيك يمّا”.
– “معقول يمّا، والشهداء والجرحى، شو بدها تحكي الناس علينا؟ وين بدنا نعيش وكيف بدنا نبني أسرة وسط هذا الركام”؟!
– “شاور ياسمين وأهلها بلكي بوافقوا، خليني أفرح فيك قبل ما أموت، وأنت شايف الموت ملاحقنا من قرنة لقرنة”.
ذهب إلى ياسمين مسرعاً في الطابق الثاني للمدرسة.
– ياسمين …ياسمين…
لاحظت الارتباك على وجهه، فهي تعرفه جيداً.
– “ما لك حمود؟ شو في”.
– “إنت بتحبيني والا لأ؟ …بسرعة جاوبي”.
أجابته بعد أن احمّرت وجنتاها خجلاً:
– “هاي بدها سؤال، عندك شكّ؟ طبعاً بحبك وبستنى هذاك اليوم اللي نجتمع فيه سوية في شقتنا، بعد ما تنتهي الحرب على خير”.
نظر إليها نظرة حبّ وإصرار وجدية:
– “خلص بدنا نتجوز، بكرة…حضّري حالك، وسيكون عرسنا أجمل عرس وستتناقله المحطات الفضائية وسنصبح مشهورين”.
أجابته مرتبكة:
– “شو بتقول، أنت نجنيت؟ وين بدنا نعيش، وين فستان الفرح”؟
– “إنت شايفة أن الواحد ما بيعرف إذا بصحى عليه ثاني يوم والا لأ؟ على الأقل نموت واحنا متجوزين، وكتب كتبانا موجود”.
– “طيب تعال احكي لماما ونشوف شو رايها”؟
ومشيا سوية ويداهما متشابكتان، ودقات قلبيهما تدق كما طبول الحرب.
– “خالتي أم ياسمين، إنت شايفة الأوضاع لوين رايحة، وبدي إستاذنك لو سمحت، شو رأيك نتزوج أنا وياسمين هون في المدرسة، الواحد مش عارف متى ستنتهي الحرب أو كيف ستنتهي؟ حكايتنا طويلة مع الاحتلال، على الأقل بنموت مع بعض ونحن متزوجين، وبالنسبة للفستان فأمي ولحسن الحظ أحضرت معها ثوب فلسطيني أبيض (وهذا زي رام الله) وكانت تنوي أن تهديه لياسمين يوم عرسها”.
أم ياسمين نظرت إليه نظرة استغراب وحبّ وعطف، وفكّرت لحظات.
– “إسمع أنا ماعندي مانع وبنحكي مع مدير المدرسة بلكي بدبرلكم غرفة مؤقتة، رغم أن الأوضاع صعبة، وعلى بركة الله”.
صوت هدير الطائرات والقذائف المنفجرة في خان يونس وصوت قصف الدبابات لبيوت الناس الآمنة؛ يصل إلى مسامعهم…
لم ينم محمد ليلته تلك جيداً بسبب الأفكار والهواجس وبسبب صوت الطائرات الهادرة، فغداً هو اليوم التسعين للحرب هو يوم عرسه، وأصبح يحلم بحياته المقبلة مع “ياسمين” وهل سيستطيعان أن يبنيا عش الزوجية، وأن يخرجا من مكان اللجوء وأن يعودا لجباليا مرة أخرى؟!
تكرّر السيناريو نفسه مع ياسمين وتساءلت هل سيكون محمد زوجاً صالحاً؟ وهل سيستطيع أن يؤمّن لها الاحتياجات اليومية في ظل الحصار وقلة الموارد المادية والتموينية، وهل سنرى يوماً فلسطين المحرّرة والخالية من وسخ الاحتلال؟
صباحاً بدأت حركة غير اعتيادية في المدرسة، الكلّ يهنّئ محمد العريس والذي سيتم زفافه على ياسمين في ساحة المدرسة، عليه أن يستحمّ وأن يستعدّ للعرس، وأخيراً استطاع الحصول على الماء وقامت أمه بتسخين الماء على الحطب، فليس هناك وقود إلا ما تيسّر من الحطب. ولبس بدلته والتي لحسن الحظ أحضرتها أمه معها، فقد كانت جهّزت حقيبة له قبل النزوح.
بعد صلاة العصر تجمّع الشباب في الساحة وأخذت أم محمد تزغرد لابنها العريس، وبدأ الأطفال والشباب والصبايا بالدبكة على أنغام أغنية محمد عساف “علّي الكوفية” ويردّدون أغاني الثورة، حملوه وألقوه في الهواء ليتلقّفوه كما الكرة. “وعريسنا زين الشباب، زين الشباب عريسنا…”، كذلك فعلت النسوة فبعد أن جهّزن “العروس ياسمين”، وألبسنها الثوب الفلسطيني الأبيض المطرّز ووضعن لها المكياج المتوفّر، فلا يوجد صالون تجميل وهذا ما يستطعن أن يفعلن للعروس في هذه الظروف الصعبة، زغردن لها وغنين لها أغنيات العرس الفلسطيني.
وأخيراً جاءت زفة العريس إلى جهة العروس، ونزولاً عن العادة استأذن محمد “أم ياسمين” بأن يأخذ الوديعة التي لديها، أي عروسه، فسمحت له وأخذت تبكي فرحاً وحزناً، فالمشاعر مختلطة، لا تستطيع أن تفرح كثيراً ولا أن تحزن كثيراً فالفلسطيني اعتاد الصبر والتكيّف مع كل الظروف.
كانت صليات من الرصاص المتبادل بين المقاومة والاحتلال تسمع من بعيد وكأنها تحَيّي العروسين، فأخذ عروسه من يدها وهو غير مصدّق أنه فعلاً عريس، وأنّ ياسمين أصبحت له وحده، وتوجّه إلى وسط الحلقة التي أنشاها الشباب بعد أن أزالوا الركام من حولها وأزاحوه بعيداً، وتحلّقوا حولهما، وكان مقعد الصف هو “اللوج” للعروسين، وبعد ساعة من الزمن توجّه بها إلى عش الزوجية والذي كان المطبخ الصغير في مختبر العلوم في الطابق الأرضي، وقبل أن يدخل بها توجّه للشباب قائلاً: “هذا أوّل عرس وسط الدمار والركام، وهذا العرس هو بروفة لعرسنا الكبير يوم تتحرّر فلسطين وندحر الاحتلال الواهن، الخائف والذي دانت نهايته، عندها سنرقص ونغني ونتذكّر الشهداء والمقاومة. ستبزغ شمس الحرية من جديد وسنبني غزة وتعود عروساً للبحر كما كانت”.
التعليقات مغلقة.