“حاصر حصارك”.. كيف يتنبأ الشعر بانتصار الفلسطينيين؟ / مصطفى علي
مصطفى علي – السبت 14/10/2023 م …
بعد عملية “طوفان الأقصى”، كيف استطاع الشعر الفلسطيني أن يتنبأ بانتصار الفلسطينيين؟
في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الأولى ضد الاحتلال الصهيوني، وتحديداً في كانون الأول/ديسمبر عام 1987، فيما مهَّد لأرضية هذه الانتفاضة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش في ديوانه “مديح الظل العالي”، الصادر عام 1983، وقد أطلقه درويش بعد مجزرة “صبرا وشاتيلا” وخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت.
في ديوانه، النبوءة هذا، يتناول درويش المجزرة ولعنة الخروج من الأوطان، لكن هذه المرّة بلا مرارة ولا خسارة في صوته، بل أمل وحشد شعري يرى الغد منتصراً لهؤلاء المنكوبين.
في هذه المجموعة الشعرية يضع درويش مانيفستو المقاومة، كأداء قتالي ميداني في أرض المعركة ضد قوات الاحتلال، وكنبوءة بالانتصار المحقَّق لا محالة مهما طالت المعركة.
وها هو الواقع يصدق ويطبِّق نبوءة الشعر عبر عملية “طوفان الأقصى”، التي كبّدت العدو الإسرائيلي قتلى ورهائن وتخبطاً. فبدلاً من أن تتلقَّى المقاومة الفلسطينية ضربة وتردّ عليها، ها هي اليوم بـ”طوفان الأقصى”، تبادر وتباغت بالهجوم الساحق، عبر آليات خيالية مبتكرة، يخلقها الأمل ويدعمها الحق، ويسوِّيها الشِّعر على ناره الهادئة ويُحلِّق بها الخيال كطائرة شراعية مقاتلة إلى أرض المستوطنات، فتتحوَّل ثكنات المستوطنين إلى قبور، ومَن يُكتب له الخروج منها يخرج برُتبة رهينة، مقبوضاً عليه بيد صاحب الأرض. لقد انقلبت الآية بحرفية صائغ ماهر يفجّر كلمات جديدة للمعارك المتجددة، ليصنع تغييرات تكتيكية في ميدان المواجهة، وبدلاً من أن يعيش الفلسطينيون حصاراً كذاك الذي فرضه الكيان الصهيوني دائماً على أهل البلد، فلسطين، صار المُحاصَر يُحاصِر حصاره/عدوه في عمق مستوطناته، ويطرده منها محمولًا على نبوءة واقعية، حملها الشعر الفلسطيني، لدرويش وغيره من شعراء فلسطين، الذي صار مُلهِماً حربياً أمام لصوص الأوطان:
حاصِرْ حصارَكَ لا مَفَرُّ.. اضْرب عدوَّك لا مَفَرُّ..
سَقَطَتْ ذراعُك فالتقِطْها.. وسَقَطْتُ قُرْبَك فالتقطْني، واضرِبْ عدوَّك بي.. فأنتَ الآن حُرٌّ.. حُرٌّ وحُرُّ.
قاموس جديد.. سلاح جديد
يفتح درويش نافذة ديوانه “مديح الظل العالي” ليقول لكل جيلٍ تالٍ من زملائه في الوطن: “بحرٌ لأيلولَ الجديدِ.. خريفُنا يدنو من الأبوابِ.. بحرٌ للنشيدِ المُرِّ.. هيَّأنا لبيروتَ القصيدةَ كُلَّها”، ثم يقول: “ضَعْ كيسَ العواصفِ عند أول صخرةٍ واحملْ فراغَكَ وانكساري”، كأننا نستشعر في هذه الكلمات روحاً جديدة على شاعرها، الذي ظل يبحث عن قاموس جديد لقصائده، بعد 10 دواوين سابقة سهلة، كما يبحث عن وسيلة جديدة لقوله الشعري، تماماً كما يفعل زميله المناضل القلِق على الأرض وهو يفتش عن آلة جديدة لنضاله واسترجاع حقه المسلوب.
على جناح طائرة شراعية
“وحِّدْنا بمعجزةٍ فلسطينيِّةٍ..”، قالها درويش فصدَّقتْها صورة الطائرات الشراعية التي تحمل مقاتلين مسلحين خلال عملية “طوفان الأقصى”، لينفِّذوا بها تسلُّلًا نحو أهداف داخل مستوطنات العدو، الذي تسلَّح بكل سياج منيع، وبكل غِلاف تحميه قبة حديدية إلكترونية مستوردة من أميركا لصد صواريخ المقاومة، لكن الخيال، ذلك السلاح الفتَّاك، لا شيء يصدُّه، فهو يطير على جناح سحري، يمر من دون رقابة، أو بالأوضح يمر عبر الرقابة ممتطيًا رياح المعجزة.
عمل حضاري
“لا يوجد عمل أدبي جاد في التاريخ القديم أو الحديث، يخلو من سمة المقاومة”.. هكذا يقول الناقد محمد عبد الباسط عيد لـ”الميادين الثقافية”، لافتاً إلى أن “فعل المقاومة مقترن بالسلوك الإنساني الحُر في حالة تجمُّع، لا في حالة فُرقة وشتات، وهذه بالذات صفة تجعل من المقاومة عموماً عملاً حضارياً لا يمكن أن يكون منبوذاً أو مكروهاً إلا لدى المُغرضين أو فاسدي الرأي، بل على العكس، هو عمل مشرِّف مبني على عقيدة حق لا يمكن أن يتزحزح صاحبها عن عتبتها، لأنه يختار مثلاً أن يدفع حياته ثمناً لهذه العقيدة، تماماً كما نرى في شاعر يسمونه (شاعر مقاومة) لأنه يبدع نصوصه في إطار حداثي متحضِّر خالٍ من النَّزوات، يخاطب الإنسانية كلها وليس شعبه وحده، ويجتهد في مسار تلميع هذه النصوص وتنقيتها لتكون سلاحه وسر بقائه في تاريخ الإنسانية، متخلّياً عن كل سهولة في القبض على نصوص بسيطة وسطحية نحو خطف مغامرة أخرى تستحق التضحية، من هنا تصبح قصيدته مُلهِمة لنضالٍ من نوع آخر، كالنضال الميداني ضد المحتل وما شابه”.
وأوضح عيد أن “شعر المقاومة الفلسطينية بهذا المفهوم التقدُّمي ربما هو أسبق على فعل حَمل السلاح لردع العدو، وفي هذا لا ينجح إلا شعراء الأمم الراسخة، التي تعرف كيف تلد شاعراً بدرجة مناضل، ومناضلاً برُتبة شاعر، ليس كهؤلاء العابرين على هامش الأوطان”.
وتابع أن “شعب فلسطين حباه الله هديَّتين، الأولى أنه أُوتي شعراء مُجيدين يمثلون صوته الفني الإنساني من دون صخب أو افتعال، كما أُوتي صبر النبوة على مأساة تاريخية طالت حلقاتُها، وأغمض العالم عينيه عنها، وآن لغُمَّتِها أن تنكشف، وهذا لن يكون إلا بأيدي أبناء فلسطين، مدعومين بصوت وقلب وهمَّة كل حيٍّ ذي ضمير، فلا يجب أن نعوِّل على ما يسمى (المجتمع الدولي)، الذي ركن ضميره على رفِّ المصالح وصار يحكم بمبادئ تُجافي العدالة والموضوعية”، مؤكداً “وحدها المقاومة هي السلاح الناجع الأبقى”.
إلى مستوى النبوءة
الناقد المصري غالي شكري كان من المهتمين بأدب المقاومة، وفرَّق في كتابه “أدب المقاومة” بين أدبٍ مقاوِم يُكتب قبل المعركة، وآخر يُكتب في أثنائها أو بعدها، لافتاً إلى أن النوع الأول، الذي يُنتج قبل وقوع المحنة، هو الذي يرتفع “إلى مستوى النبوءة”.
يقول الشاعر الفلسطيني توفيق زياد في قصيدته “هُنا باقون”: “كأننا عشرون مستحيلْ.. في اللد والرملة والجليلْ.. إنَّا هنا باقون.. فلتشربوا البَحْرا.. نحرس ظل التين والزيتون.. ونزرع الأفكار كالخمير في العجين.. برودة الجليد في أعصابنا.. وفي قلوبنا جهنمٌ حَمرا.. إذا عطشنا نعصر الصخْرا.. ونأكل التراب إنْ جُعنا.. ولا نرحل”..
من آخر مفردتين في هذا المقطع، “لا نرحل”، يتجلَّى صخر المقاومة المنحوت وفنُّها الأسمى المحفور في الوجدان، فإذا أراد الاحتلال عبر عدوانه وأسلحته المحظورة إبادة الفلسطينيين أو ترحليهم إلى مكان آخر خارج وطنهم، كما يزعم سياسيو الكيان الصهيوني وقادة جيشه المهزوز، يأتيه الرد الشعري قبل الرد الفعلي على الأرض بمبدأ “لا نرحل”، ليكون ختام المانيفستو الشعري وبداية الخلود بالتَّمتْرُس أجساداً تحمي فكرة البقاء على هذه الأرض، أرض الوطن، ولو في شكل جُثَّةٍ، لكنها بالتأكيد جثة لا تُقدَّر بثمن.
التعليقات مغلقة.