متابعات، نشرة أسبوعية – العدد السّابع والثلاثون / الطاهر المعز

360

الطاهر المعز ( تونس ) – السبت 16/9/2023 م …

 يحتوي العدد السابع والثلاثون على فقرة تندرج ضمن سلسلة محاولات تبسيط وتعميم مفاهيم الإفتصاد السياسي، وتتناول آليات التضخم كجزء من تكتيكات الشركات الكبرى والمصارف لزيادة أرباحها وللقضاء على الشركات الصغيرة، تليها فقرة، قد تكون مُمِلّة لبعض القارئات والقُرّاء، لكنها تُحاول إبراز التّلاعب بأسعار الأغذية، بين الإنتاج والبيع بالتجزئة، وفقرة عن مساوئ السياحة في تونس، وفقرة عن بعض مُستجدّات إفريقيا بعد الإنقلابات في مالي والنيجر، وعن تواجد بعثة الأمم المتحدة بالكونغو الدّيمقراطية منذ عِقْدَيْن، وفقرة عن بعض مظاهر الحرب التجارية والإقتصادية والتكنولوجية بين الولايات المتحدة والصّين، وفقرة عن قمة مجموعة العشرين التي التأمت بنيودلهي (عاصمة الهند) يومي السبت 09 والأحد 10 أيلول/سبتمبر 2023 وفقرة عن بعض تأثيرات حرب أوكرانيا على الإتحاد الأوروبي

 

محاولة تبسيط مفاهيم الإقتصاد السياسي

التضخم

تتواصل موجة ارتفاع الأسعار منذ بداية سنة 2021، لأن العديد من الشركات المُهيمنة على بعض القطاعات تنْقُلُ، وبشكل مَنْهَجِي، الضغوط التضخمية لجائحة (كوفيد-19) إلى زبائنها، من خلال زيادة سعر بيع إنتاجها، مما أتاح لهذه الشركات تحقيق أرباح كبيرة، فيما عمدت المصارف المركزية إلى رَفْع أسعار الفائدة على قُرُوض الأفراد والأُسَر (قروض الإستهلاك وشراء التجهيزات المنزلية أو السيارات أو المَسْكن) والشركات الصغيرة، بذريعة مكافحة التضخم، مما يؤدي إلى تثبيط الطلب الكلي في الاقتصاد، وهذا يعني بشكل ملموس توليد البطالة لدى الأُجَراء وإفلاس صغار الحِرفِيِّين والفلاحين، ويقترح بعض الاقتصاديين التقدميين وكذلك من تلاميذ جون مينارد كينز (John Maynard Keynes – 1883 – 1946 ) ومن يسار تيار الديمقراطية الإجتماعية، فرض ضوابط استراتيجية على الأسعار تديرها الدولة، بدلا من رفع أسعار الفائدة، ووصف التيار النيوليبرالي هذه المقترحات بـ«الغبية»، قبل الاعتراف بفائدتها في إنعاش الاقتصاد الرأسمالي خلال فترات الأزمات التي تعدّدت وتسارعت وتيرتها، لأن التحكم في الأسعار ليس إجراء «اشتراكيا»، بل إجراء رأسماليا «كينزيا».

نشر صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والبنك العالمي والمصارف المركزية للدول الغنية منذ الربع الثاني من سنة 2022، العديد من الدراسات التي تؤكد أن الشركات الكبرى والمصارف مسؤولة عن التضخم باستخدام عدة حيل تسمح لها بتخفيض القيمة الحقيقية للأجور، وزيادة الأرباح، بدعوى شُحّ المواد الأولية وارتفاع أسعارها مثل المحروقات، ما يُؤَدِّي إلى زيادة تكاليف الإنتاج، بالإضافة إلى استغلال هذه الشركات أحداث أخرى طارئة أو ظروف مناخية مثل الجفاف أو الفيضانات، لِرَفْع الأسعار، وعلى أية حال، فإن أصحاب رؤوس أموال الشركات ليسوا أعضاء متطوعين في جمعيات خيرية، بل هم مُدافعون شرسون عن مصالحهم، من خلال حماية أو زيادة هوامش ربحهم بواسطة رَفْع الأسعار، وبذلك يُسَدّدُ المواطن، زبون سلسلة متاجر البيع بالتجزئة سعرًا أعلى من ذي قَبْل، بينما لا يرتفع الراتب سوى بنسبة ضئيلة أو يَضَلُّ راكدًا، مما يعني انخفاض قيمة الراتب من شهر لآخر، أما الشركات في الاقتصاد الرأسمالي (اقتصاد السوق) فإنها تضطرّ، بسبب المنافسة، إلى زيادة هوامش ربحها إلى أقصى حد، وتستخدم كل الوسائل لتحقيق الأرباح التي وأوّلها زيادة الأسعار وخفض قيمة الرواتب، ضمن خفض حجم الإنفاق، وفَرْض علاقات اجتماعية جديدة داخل المؤسسات الإقتصادية ومكاتب وشركات الخَدَمات، من خلال العقود الهشة والعمل بدوام جُزْئِي، أي خفض عدد المُنْتَسِبين لنقابات الأُجَراء التي يتم إِضْعافُها وتحجيم دورها لكي تُصبح غير قادرة على التفاوض من أجل الدّفاع عن تحسين ظروف العمل وزيادة الرّواتب، ولذا ونظرًا لدور رأس المال في تدهور الوضع المادّي للعاملين والمواطنين بشكل عام، فإن العمال على حق في المطالبة بأجور أعلى للتعويض عن فقدان “قدرتهم الشرائية” لأن الرواتب – في معظم البلدان – لم تواكب ارتفاع معدلات التضخم، فقد انخفضت الأجور الحقيقية أي ما يمكن للأجير شراءه أو إنفاقَه بقيمة الراتب من شهر إلى آخر.

  تهيمن الشركات الكبيرة التي تسمى “الشركات التنافسية” على الأسواق، ويتشاور المُشرفون على تسييرها ويتفقون على الأسعار والهوامش، وبالتالي يمكنهم زيادة أسعارهم دون خوف من الشركات المنافِسَة التي قد تصطاد بعض زبائنهم بفعل خفض أسعار السّلع، لأن الإنخفاض والزيادة لا يتجاوزان نسبة ضئيلة متّفق عليها، قد تتراوح بين خمسة أو عشرة بالمائة، وتتعزز مثل هذه الاتجاهات الإحتكارية عندما تهيمن شركة كبيرة أو مجموعة اقتصادية أو مالية على السوق، بحسب الرئيس التنفيذي لشركة تايسون فودز، أكبر شركة أمريكية منتجة للحوم، والذي كشف، سنة 2022، خلال اجتماع للمساهمين، أن جميع منافسي الشركة اضطروا إلى ممارسة نفس النهج التجاري وطبقوا نفس الزيادات في الأسعار التي أطلقتها “تايسون فودز”، بحكم مكانتها المُهَيْمِنَة، كما تعترف التقارير الصادرة عن صندوق النقد الدولي والمصرف المركزي الأوروبي بوجود مثل هذه الممارسات بين الاحتكارات، ونشر البرلمان الأوروبي تقارير ودراسات عديدة، شملت شركات صناعة السيارات ومجال مشتقات الحليب وإصلاح مصاعد العمارات وشركات تجارة البيع بالتّجزئة وشركات المختبرات والأدوية وغيرها، عن اتفاق الشركات فيما بينها لفرض أسعار وشروط بيع متقاربة، وما التّضخم سوى أداة إضافية لحصول الشركات الكبرى والمصارف على معدلات ربح أعلى، والتّذَرّع بارتفاع التكاليف لزيادة أرباحها من خلال زيادة أسعار البيع في عدة قطاعات تشمل الزراعة وصيد الأسماك والبناء وتجارة الجملة والفنادق والنقل وما إلى ذلك. وتسمح قوة تحديد الأسعار على المدى القصير للشركات بحماية نفسها من المخاطر، مثل الإرتفاع المفاجئ لسعر بعض المواد المستوردة ما يخفض الأرباح ولذلك تستبق المخاطر (بعضها موجود بالفعل وبعضها الآخر وَهْمِي) لزيادة الأرباح التي تساهم ( بشكل يفوق بكثير حصة الأُجُور ) في ارتفاع الأسعار، بحسب المصرف المركزي الأوروبي، مما يشير إلى أن زيادة الخلل في توزيع الدخل بين رأس المال والأجور، ويصب هذا الخلل في صالح رأس المال وأرباحه.

 

غذاء

تنخفض أسعار الحبوب والمحاصيل الزراعية والأغذية أحيانًا في الأسواق الدّولية، ولكنها لا تنخفض على مستوى تجارة التجزئة، بل يُعاني مواطنو العالم من ارتفاعها المُستمر، ولذلك نورد بيانات منظمة الأغذية والزراعة أو المنظمات الدّولية الأخرى، كمؤشّر ليعرف المواطن إن عدوّه الرئيسي هو رأس المال الإحتكاري الذي يشتري الحبوب والأغذية بثمن بَخْسٍ، لا ينعكس على أسعار التّجزئة، وأوردت بيانات منظمة الأغذية والزراعة (فاو) التابعة للأمم المتحدة، انخفاض أسعار السّلع الغذائية بنسبة 2,1% خلال شهر آب/أغسطس 2023 (مقارنة بالشهر السابق)، باستثناء الأرز والسّكّر، وانخفضت بمعدّل 24% عن أسعار شهر آذار/مارس 2023 ، بينما ارتفعت أسعار الأرز بنسبة 9,8% عن مستوى أسعار شهر تموز/يوليو لتصل إلى أعلى مستوى خلال 15 سنة، وذلك بعد إعلان الهند  أكبر مصدر للأرز الأبيض في العالم، تقييد تصدير أرز “إنديكا” الأبيض، وأدّى ارتفاع الأسعار إلى غياب الأرز من أسواق العديد من البلدان مثل تونس ومصر… كما ارتفعت أسعار السّكّر بنسبة 1,3% عن شهر تموز/يوليو 2023، لكنه بقي أعلى بنسبة 34,1% من السّعر المُسجّل في آب/أغسطس 2022، بفعل تأثير ظاهرة النينيو في محاصيل قصب السكر، وهطول الأمطار بكمية دون المتوسط في آب/أغسطس 2023، واستمرار الجفاف في تايلاند، واستخدام جزء من محاصيل السّكّر في صناعة الوقود (الإيثانول ) وارتفعت أسعار الزيوت النباتية بنسبة 12,1% خلال شهر تموز/يوليو 2023، لذلك تبقى مرتفعة رغم تراجع أسعار في الأسواق الدولية، بنهاية شهر آب/أغسطس 2023، بنسبة 3,1% وانخفضت الأسعار الدولية للقمح بنسبة 3,8% بفعل الارتفاع الموسمي للكميات المتاحة منه، كما كانت محاصيل الذّرّة قياسية في البرازيل والولايات المتحدة، كما انخفضت الأسعار الدّولية لمنتجات الألبان بنسبة 4% ( الحليب المجفف والزبدة والأجبان) وأسعار اللحوم بنسبة 3% (لحوم الغنم والدواجن والأبقار)…

بالنسبة للحبوب، تتوقع منظمة الأغذية والزراعة أن يزيد الإنتاج العالمي من الحبوب، بشكل عام، سنة 2023 بنسبة 0,9% عن العام 2022، ليبلغ 2,815 مليون طن، لِيُعادلَ الإنتاج القياسي لسنة 2021، لكن عندما نتأمّل التفاصيل، نجد إن هذه التوقعات تُشير إلى تراجع الإنتاج العالمي من القمح بنسبة 2,6% عن سنة 2022، على أن يرتفع إنتاج الذرة ليبلغ رقما قياسيا جديدا، بفعل وفرة المحاصيل في البرازيل وأوكرانيا.

من المتوقع أن ترتفع المخزونات العالمية من الحبوب في نهاية مواسم التسويق للفترة 2023/2024 بنسبة 2,2% لتصل إلى نحو 878 مليون طن، وأن تصل المخزونات العالمية من الأرز إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق عند 198,1 مليون طن…

أطلب منكن ومنكم المعذرة على الغَوص في بعض التفاصيل التي قد تفيد الباحثين والدّارسين والمُهتمين بموضوع السّيادة الغذائية، لأن هذه التفاصيل تُظْهر أن أسعار البيع بالتجزئة لا تعكس مستوى الإنتاج الغذائي العالمي ولا مستوى أسعار الأسواق الدّولية، ما يضطرنا إلى التساؤل: ما ذا يحصل بين عملية الإنتاج والإستهلاك؟ ومن يستفيد من الفارق في الأسعار؟

 

تونس، كثرة السائحين وشُحّ الإيرادات

الخَبَر: أظهرت بيانات وزارة السياحة، إن البلاد استقبلت 6,232 ملايين زائر خلال الفترة من 1 كانون الثاني/يناير إلى 31 آب/أغسطس 2023، بزيادة قدرها 62,4% مقارنة بنفس الفترة من سنة 2022، وفيما يتعلق بالسياح الأجانب (غير العرب)، يأتي الفرنسيون على رأس القائمة يليهم الألمان والإيطاليون والسويسريون والإسبان، بالإضافة إلى عدد قليل من الأمريكيين والكنديين، إلا أن الجيران الليبيين والجزائريين يشكلون منذ عدة سنوات حوالي 50% من إجمالي عدد الزائرين، وبلغت إيرادات السياحة 5.4 مليار دينار (1,73 مليار دولار) حتى العاشر من كانون الأول/ديسمبر 2023، بارتفاع ملحوظ قدره 46% مقارنة بنفس الفترة من سنة 2022.

التّعليق: هذه البيانات مبتورة، تنقصها بعض المعطيات الهامة، منها متوسط فترة إقامة السائح، ومتوسط الإنفاق اللّيلة الواحدة (overnight stay )، وتتميز السياحة في تونس بعدة عيوب منها إن الدخل منخفض جدا ولا يغطي الأضرار الناجمة عن السياحة الجماعية الرخيصة التي تلحق أضرارًا دائمة بالشواطئ والثروة البحرية والمواقع الأثرية التاريخية والزراعة وهدر المياه وما إلى ذلك، بالإضافة إلى الأضرار الثقافية، فالنّسبة الأعلى من السائحين الأوروبيين الذين يزورون تونس لا يختارون الوِجْهَة ولا يهتمون بتونس ولا بتاريخها ولغتها بل يختارون الوجهة الأرخص ثمنًا ويُسدّدون المبلغ للوكالات الأوروبية التي تضغط على الفنادق التونسية لخفض الأسعار (أي خفض رواتب العاملين وثمن الإنتاج الزراعي واللحوم والأسماك…) ويأتي السائحون فلا يخرجون من الفندق سوى نادرًا للتنزه في الأسواق ومُساومة البائعين لخفض ثمن الهدايا الرخيصة المُصنّعة خارج إطار الصناعات التقليدية، ويُرَوّج العاملون بقطاع السياحة نوادر عن بُخْل (بمفهوم الجاحظ) السياح الأوروبيين واحتقارهم المواطن التونسي والثقافة والحضارة واللغة، خلافًا لسياحة الجيران الليبيين والجزائريين فهي في معظمها سياحة عائلية، ويندمج معظم السائحين المغاربيين (خلافًا للأوروبيين والخليجيين) في المجتمع، وتستفيد من زيارتهم فئة أوسع من السكان، فالعديد منهم يستأجرون المساكن، بدل الذهاب إلى الفندق (ينتج عن ذلك ارتفاع أسعار الإيجار صيفًا)، ويرتادون الأسواق والمتاجر المحلية الشعبية والمجاورة لمحل سكنهم الخ

على مستوى الإيرادات، تشير المقارنة البسيطة (غير المُتعمّقة) إن عائدات السائح الواحد أعلى بكثير في الأردن أو مصر أو حتى المغرب، بمتوسط 50% فالسائح الواحد ينفق في المتوسط 120 دولارا في الليلة الواحدة، بين إقامة وغذاء، بدون احتساب النقل، في الضفة الجنوبية والشرقية للبحر الأبيض المتوسط ولا ينفق سوى 80 دولارا في تونس، ولذا من الأفضل التركيز على سياحة الجيران العرب وعلى العمال المهاجرين من شمال إفريقيا وعلى السياحة الثقافية للأجانب، بأعداد قليلة، أي سياحة شعبية للمهاجرين و”نخبوية” لأوروبيين (وغير العرب عمومًا) وأكثر ربحية وأكثر احتراما لتراثنا وحضارتنا وتاريخنا.

 

إفريقيا

قدّمت الدّول “الغربية”، خلال الأسبوع الأول من أيلول/سبتمبر 2023، مشروع قرار لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بهدف توسيع العقوبات ضد بعض قادة “مالي” المتهمين بتهديد السلام في البلاد، واستخدمت روسيا حق النقض (الفيتو) لمنع تمديد العقوبات، فيما امتنعت الصين عن التصويت، فيما أعلن جيش مالي يوم السادس من أيلول/سبتمبر 2023، تعرّضت قافلة عسكرية وموقع عسكري لهجوم إرهابي بمنطقة “غاو” بشمال مالي، وقُتِلَ عشرات الجنود والمدنيين، وردّ الجيش بعملية جوية وبرية على منطقة الهجوم التي خضعت – بشكل متأخّر – لعمليات تمشيط ومراقبة…  

يبدو أن مشروع القرار الغربي لتمديد العقوبات على قادة مالي، يُشكّل ردّ فعل على قرار مالي حَظْرَ تصدير الليثيوم الخام، وذلك بعد حوالي ستة أشهر من قرار زيمبابوي (خامس أكبر منتج عالمي لليثيوم ) وقف تصدير الليثيوم الخام، بهدف “تعزيز السيطرة على الثروات المعدنية ومكافحة التهريب”، ويندرج قرار مالي ضمن مخطط الحكم العسكري “زيادة قيمة الصادرات من خلال معالجة الليثيوم الخام ابتداء من سنة 2024” في منطقة “كايس”، التي تحتوي على احتياطي كبير من الليثيوم الذي يُعَدّ معدنا استراتيجيا لبطاريات السيارات الكهربائية والحواسيب والهواتف “الذكية”، ويُشكّل تصديره خامًّا حرمانًا لدول فقيرة مثل بوليفيا في أمريكا الجنوبية، أو مالي وزيمبابوي ( في إفريقيا) وهي بلدان تمتلك احتياطيات كبيرة وتتحكم شركات عابرة للقارات باستخراجه ومعالجته ما يحرم اقتصاد هذه البلدان الفقيرة من قيمة مضافة كبيرة، خصوصًا بعد ارتفاع الطلب وارتفاع الأسعار.

تحاول الدّول الإمبريالية عرقلة معالجة الليثيوم محليًا، لكي لا تتمكن البلدان المنتجة، مثل مالي أو زمبابوي، من تحفيز التنمية الصناعية، وخلق وظائف وزيادة عائداتها الصناعية، خصوصًا وإن التوقعات تُشير إلى احتمال زيادة إنتاج الليثيوم في أفريقيا بأكثر من 30 ضعفًا بحلول سنة 2027. وقد تُشكل صادرات إفريقيا نحو 12% من العَرْض العالمي لليثيوم.

تتفق الدّول الإمبريالية على فرض الحَظْر على الصين أو روسيا، ولكن هذا الإتفاق لا يمنع صراعًا بين الإمبريالية بشأن تعزيز مواقع كل منها على حساب الإمبرياليات الأخرى، وعلى سبيل المثال استغلت الإمبريالية الأمريكية العداء الشعبي للإمبريالية الفرنسية في إفريقيا، لتحاول الحلول محلها ففي النيجر، أعلنت وزارة الحرب الأمريكية (البنتاغون) نَقْلَ جزء من القوات العسكرية الأمريكية من العاصمة نيامي إلى أغاديس شمالا، غير بعيد من الحدود الجزائرية، في عملية “إعادة تموضع وقائي”، رغم عدم وجود تهديد فوري ضد القوات الأمريكية ( 1100 جندي وضابط – رسميا- فضلا عن قاعدة ضخمة للطائرات الآلية)، ويُعتَقَدُ أن “إعادة التموضع” مرتبطة باحتمال انسحاب الجيش الفرنسي (1500 جندي وضابط رسميا) ضمن مُطالبة المجلس العسكري بالنيجر بإنهاء العمل باتفاقيات الدفاع التي تربط فرنسا بالنيجر وبانسحاب القوات الفرنسية من البلاد، وبعد إعلان طرد السفير الفرنسي الذي أدلى بتصريحات متعجرفة ووقحة، بدأت فرنسا التفاوض حول ظروف انسحاب قواتها العسكرية من النيجر، وقد تنقلها إلى تشاد، وتجدر الإشارة إن “مكافحة الإرهاب” شكلت ذريعة لتواجد القواعد العسكرية للدّول “الغربية” في بلدان إفريقيا الواقعة جنوب الصّحراء الكبرى، وتحاول الولايات، في الفترة الحالية، تجنب التصعيد في المنطقة للحفاظ على وجودها العسكري، والحلول محل الإمبريالية الفرنسية، عبر برامجها ومخططاتها العديدة من بينها “أفريكوم”…

أما في منطقة وَسَط إفريقيا، فإن جمهورية الكونغو الدّيمقراطية طلبت من الأمم المتحدة سَحْب قواتها (القُبّعات الزُّرْق) المُرابطة في البلاد من عِقْدَيْن، لأن “وجودها المُطَوَّل على أراضيها يُشكل عائقا أمام سيادتها وسيطرتها الكاملة على شؤونها الداخلية، خاصة في مواجهة صعود الجماعات المسلحة والتوترات الإقليمية”، واعتبرت حكومة الكونغو الدّيمقراطية إن وجود قوات الأمم المتحدة وإنفاق مليارات الدّولارات لم يمنع الجماعات المُسلّحة من السيطرة على جزء هام من البلاد – بدعم من جيش رواتندا – في المناطق الغنية بالمعادن، ما عرقل عملية التنمية بفعل انعدام الأمن، وجاء إعلان الحكومة بعد احتجاجات المواطنين في منطقة “غوما” ضدّ بعثة الأمم المتحدة والتصرفات الشائنة لبعض عناصرها… وأعلنت حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية إنها تدرس آليات تعاون جديدة مع بعثة الأمم المتحدة، أكثرَ مُلاءَمَةً للواقع الذي تواجهه البلاد..

 

الحرب الإقتصادية والتجارية

طلبت الحكومة الصينية من مؤسسات الدّولة، سنة 2022، استبدال أجهزة الكمبيوتر الأجنبية ببدائل “صنع في الصين”، في إطار معاملة الدّول الأخرى التي انخرطت وراء الولايات المتحدة، بالمثل، وفي إطار إرادة حكومة الصين الترويج لتقنياتها الخاصة، كما حَظَرَت الصين، في بداية شهر أيلول/سبتمبر 2023، استخدام جهاز “آيفون” ( من إنتاج شركة آبل الأمريكية) من قِبَل المسؤولين الحكوميين في بعض مؤسساتها وشركاتها العامة، فضلا عن فرض قُيُود على دخول الهواتف “الذكية” إلى مكان العمل، وأدّى هذا القرار – وما هو سوى رد جُزْئي على قُيُود عديدة فرضتها الولايات المتحدة وأوروبا على شركة هواوي الصينية منذ عدة سنوات-  إلى انخفاض سعر أسهم شركة أبل في أسواق المال بنسبة 3% تقريبًا خلال يوم واحد وبنسبة 6% على مدار يَوْمَيْن متتاليين، لأن الصين أحد أهم مراكز إنتاج شركة آبل وأحد أهم أسواقها.

حاولت الصين الإندماج في الإقتصاد الرأسمالي المُعَوْلَم، وتجنّب الصّدامات، غير أن الولايات المتحدة فرضت حُدُودًا على جميع منافسيها، تتمثل في عدم مزاحمة المصارف والشركات الأمريكية في أسواقها الدّاخلية، وعدم تجاوزها في مجال التقنيات المتطورة والصناعات الحربية وصناعة الطيران والفضاء والإتصالات وما إلى ذلك، وخصوصًا خلال فترة رئاسة باراك أوباما ( 2009 – 2017 ) وبالأخص فترة رئاسة دونالد ترامب ( 2017 – 2021) التي أطلقت إدارته حربًا تجارية وتكنولوجية شاملة ضد الصين، واستمرت هذه الحرب، بل زادت حِدّتها خلال فترة رئاسة جوزيف بايدن، ما يعني إن الولايات المتحدة، رمز الرأسمالية لا تؤمن بالمنافسة الحرة ولا بقانون السّوق، بل تتدخّل لدعم المؤسسات الأمريكية بالمال العام وتحمي الأسواق الدّاخلية وتتدخّل عسكريا، منذ عقود عديدة، لحماية مصالح الشركات الأمريكية العابرة للقارات، واستمرت الولايات المتحدة في تنظيم الإنقلابات وفرض الحَظْر  والحصار والتهديدات والحرب، فضلاً عن زيادة التعريفات الجمركية على الواردات والقيود التجارية، وعندما لم تتمكن الولايات المتحدة من تركيع الصين لجأت إلى توسيع الحرب إلى المجال التكنولوجي، وحظرت شراء اللوحات الشمسية الصينية، ومنعت وجود شركة “هواوي” الصينية التي كانت سباقة في ابتكار الجيل الخامس ( جي 5 ) للإتصالات ليس بالولايات المتحدة فحسب بل في كافة الدّول الأعضاء بحلف شمال الأطلسي، وفي آسيا وكافة الدّول الحليفة، وإبعاد الصين عن التكنولوجيا والأسواق العالمية، بالتوازي مع محاولات خنق الصين اقتصاديا وتجاريا، وتهديدها عسكريا…

 

مجموعة العشرين

انطلقت بنيو دلهي، عاصمة الهند، أعمال قمة مجموعة العشرين ( التي تضم كافة أعضاء مجموعة بريكس ) يومي السبت 09 والأحد 10 أيلول/سبتمبر 2023 وتضُمّ هذه المجموعة التي انطلقت سنة 1999 (على هامش قمة مجموعة الثمانية التي أصبحت سبعة بعد إقصاء روسيا) 19 دولة، من الدّول الرأسمالية المتطورة وبعض اقتصادات الدّول المَوْصُوفة ب”النّامية”، وكان الهدف المعلن عند تأسيسها يوم 25 أيلول (سبتمبر) 1999 على هامش قمة “مجموعة الثمانية” في واشنطن، “معالجة الأزمات المالية”، بعد الأزمة المالية الحادّة بنهاية القرن العشرين (بداية من سنة 1997) في جنوب شرق آسيا والمكسيك وغيرها.

تدرس القمة “أهَمّ القضايا الدّولية” السياسية والإقتصادية، وكان شعار هذه القمة “أرض واحدة – أُسْرَة واحدة – مستقبل واحد”، وهو مجافٍ للواقع، حيث  لا تهتم الدّول الرأسمالية المتطورة ولا شركاتها العابرة للقارات بمشاغل الدول والشعوب الفقيرة والطبقات الكادحة ومن بينها التنمية المستدامة والسيادة الغذائية ومكافحة الفقر والتلوث الذي يضر بالفُقراء والعاملين في الصناعة والزراعة، كما يتضرر الكادحون والفقراء، أكثر من غيرهم، من الأزمات ومن التغيرات المناخية ومن اضطراب سلاسل التوريد وتضم مجموعة العشرين ( G20 ) بالترتيب الأبجدي اللاتيني: السعودية والأرجنتين وأستراليا والبرازيل وكندا والصين وفرنسا وألمانيا والهند وإندونيسيا وإيطاليا واليابان وجمهورية كوريا والمكسيك وروسيا وجنوب إفريقيا وتركيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأُمم المتحدة وصندوق النقد الدّولي والبنك العالمي، وكانت المجموعة تجمع عند تأسيسها وزراء المالية ومحافظي المصارف المركزية للدّول المُشاركة، لمناقشة قضايا المال والأعمال والاقتصادية، وبعد أزمة سنة 2008، تحولت إلى منتدى لرؤساء الدول والحكومات التي يُشكل ناتجها المحلي الإجمالي نحو 78,5 تريليون دولارا، سنة 2022، أو ما يعادل 78,4% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ونحو 75% من التجارة العالمية، ونحو ثلثي سكان العالم.

تم إقصاء روسيا من كافة اللقاءات الدّولية، وتغيب رئيس الصين، وتجدر الملاحظة إن اقتصاد روسيا تَقَدَّمَ في ترتيب الاقتصادات العالمية – رغم الحصار والحَظْر و”العقوبات” – مركَزَيْنِ لتصبح ترتيبه الثامن سنة 2022، بعد أن كان ترتيبه العاشر سنة 2021، متجاوزة إيطاليا وكندا، كما تقدمت البرازيل للرتبة الحادية عشر متجاوزة كوريا الجنوبية.

تُهيمن الولايات المتحدة الأمريكية على حلف شمال الأطلسي وعلى مجموعة السّبْع وعلى مجموعة العشرين، لأنها القُوّة الأعْظَم، حيث بلغت قيمة الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي 25,46 تريليون دولار أو ما يعادل 25,4% من الناتج العالمي، تليها الصين بنحو 18,1 تريليون دولار، أو ما يعادل 18,06% من الناتج العالمي، وتأتي اليابان في المرتبة الثالثة، بناتج محلي يبلغ 4,23 تريليون دولار ( 4,2% من الناتج العالمي)، تليها ألمانيا، أول دولة أوروبية، بناتج محلي قدره 4,08 تريليون دولار، أو ما يُعادل يمثل 4,1% من الناتج العالمي، وتأتي الهند، الدّولة التي استضافت دورة أيلول/سبتمبر 2023، في المركز الخامس بناتج محلي قدره 3,39 تريليون دولار يمثل 3,4% من الاقتصاد العالمي، وتقهقر ترتيب الدّولَتَيْن الإمبرياليّتَيْن اللّتَيْن سيطرتا على العالم، طيلة القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الثانية، حيث حلت بريطانيا في المركز السادس بناتج محلي قدره 3,07 تريليون دولار (3,1% من الناتج العالمي) وفرنسا في المركز السّابع بناتج محلي قدره 2,78 تريليون دولار (2,8% من الناتج العالمي)، ثم روسيا بناتج محلي قدره 2,22 تريليون دولار، ما يشكل 2,2% من الناتج العالمي، تليها كندا وإيطاليا والبرازيل وأستراليا وكوريا الجنوبية والمكسيك وإندونيسيا والسعودية وتركيا والأرجنتين وجنوب إفريقيا…

 

الإتحاد الأوروبي- تكاليف حرب أوكرانيا

تم الإتفاق بين بلدان الإتحاد الأوروبي، سنة 2020، على تخصيص 1,1 تريليون يورو لميزانية الإتحاد، على مدى سبع سنوات، لكن كاد المبلغ ينفذ بعد عامَيْن فقط، أي قبل الموعد بخمس سنوات، بسبب ضخ الأموال في خزائن الشركات العابرة للقارات وبسبب ضخ السلاح و”المساعدات” (وهي قُرُوض وليست مساعدات) لأوكرانيا، كما تَقَرَّر أن يُخَصّص الإتحاد الأوروبي 620 مليار يورو لتنفيذ “الصفقة الخضراء” وهي خطّة تهدف القضاء على صافي انبعاثات الكربون بحلول سنة 2050، لكن تقارير “يورو- إنتِلِّيجنْس” تُشير إلى تراجع العديد من الدّول الأوروبية عن التّدابير “الخضراء” مثل خفض انبعاثات الكربون، وتُشير إلى نقص بقيمة 82,5 مليار يورو في تمويل “الأجَنْدَة الخضراء” بسبب المساعدات “السخية” لأوكرانيا التي فاقت 72 مليار يورو، خلال سبعة أشهر، وبسبب ضخ 15 مليار يورو لمراقبة وقمع المهاجرين غير النّظاميين، ولذا طلبت رئيسة المفوضية الأوروبية من الدّول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي تقديم مساهمات إضافية لميزانية الإتحاد الأوروبي لسنة 2023، يبلغ مجموعها 66 مليار يورو أخرى، وأنفقت المفوضية بدورها جميع المبالغ الاحتياطية المخصصة لميزانية الاتحاد الأوروبي لسبع سنوات أيضًا، وطلبت 18 مليار يورو إضافية سنويا لدعم ميزانية أوكرانيا واحتياجات البنية التحتية بين سنتَيْ 2024 و 2027، ومن المفترض أن تتم الموافقة على التغييرات في ميزانية الاتحاد الأوروبي بقرار بالإجماع من جميع الدول الأعضاء، لكن بعض الدّول لا تريد أو لا تستطيع تسديد مبالغ إضافية، وفق تصريح وزير المالية الألماني “كريستيان ليندنر”  لصحيفة “دي فيلت” (16 حزيران/يونيو 2023) التي أشارت إلى الفجوة المالية البالغة عشرين مليار يورو، بنهاية أيار/مايو 2023، وإلى انكماش اقتصاد ألمانيا، أقوى اقتصاد أوروبي، وخفض حجم الإنفاق في مجالات الصحة ورعاية الأطفال والنقل العام والطاقة، بعد توقف وصول الغاز الروسي الرخيص وعالي الجودة، وارتفاع الإنفاق على توريد الغاز الصخري الأمريكي، رديء الجودة وعالي الثمن…

يعسر حصر حجم الإنفاق الأوروبي ( الذي يتحمل سُكّان الإتحاد الأوروبي) على الحرب في أوكرانيا، كما يعسر توقّع نتائج الحرب، خصوصًا إذا خرجت روسيا منتصرة، فهي منتج كبير للطاقة ولعدد من المعادن وكذلك للحبوب، وتمكنت روسيا من الصمود في وجه الحظر و”العقوبات” والحصار،  بينما باعت أوكرانيا البنية التحتية (خصوصًا في الجنوب الشرقي ) والمؤسسات والأراضي الزراعية إلى شركات أمريكية وأوروبية وإلى المصارف وصناديق التقاعد والتّحوّط، ولن تكون عمليات إعادة الإعمار مجانية أو عملاً خَيْرِيًّا، بل “بزنس”، فالعديد من الشركات الغربية بدأت تصطاد فُرَصَ “سوق إعادة الإعمار”. أمّا “المساعدات” العسكرية التي يقدمها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لأوكرانيا فهي قروض وجب على المعاقين والأيتام والأرامل والأوكرانيين تسديد قيمتها، في بلاد مُدَمَّرَة تم بَيْع الأراضي والصناعات والموانئ والبُنْيَة التّحتِيّة التي كانت قائمة بها بفضل الإتحاد السّوفييتي…

قد لا تكتفي الولايات المتحدة بهذه الحرب (التي تضررت منها أوروبا)، فهي ما انفَكّت تستفز الصين وتتحرّش بها، وسوف تُشارك دول أوروبا طوعًا أو كُرْهًا في أي حرب عدوانية تشنها الولايات المتحدة من أجل مصالحها، دون استشارة أي “حليف”… 

التعليقات مغلقة.