الديموقراطية.. قوّة للمستقبل العربي / ساسين عساف

327

د. ساسين عساف* ( لبنان ) – الخميس 14/9/2023 م …

في هذا البحث:

مفهوم الديموقراطية

أوّلاً: الديموقراطية قوّة بناء الدولة وتحرير المجتمع

  1. الديموقراطية قوّة بناء لدولة المستقبل العربي:
  • واقع “الدولة” في الوطن العربي ربطاً بمفهوم الديموقراطية
  • دولة حديثة في مجتمع متعدّد
  • دولة حديثة عمادها ديموقراطية الأفراد
  1. الديموقراطية قوّة تحرير للمجتمعات العربية:
  • من مجتمع تقليدي إلى مجتمع جديد
  • من مجتمع معرفي وثقافي مغلق إلى مجتمع معرفي وثقافي مفتوح
  • من مجتمع مستلب إلى مجتمع مقاوم

 

ثانياً: الديموقراطية قوّة إصلاح إيديولوجي وفكري، قومي وديني

  1. إصلاح قومي:
  • عروبة الإيديولوجيا وعروبة الوقائع
  • عروبة الوحدة
  • الفكر القومي العربي
  1. إصلاح ديني:
  • الإسلام المؤدلج: فقه المشاركة والإنخراط في ىليات الديموقراطية الغربية
  • الفكر الديني الإسلامي

تأمّل أخير في ديموقراطية المستقبل العربي (إستنبات الديموقراطية)

***

 

مفهوم الديموقراطية

 

إنّها قاعدة من قواعد العلم الأخلاقي/التربوي والعلم السياسي/ القانوني.

عمادها في العلم الأخلاقي/التربوي حرية الانسان وكرامته.

هذا المفهوم هو اسكولاستيكي/أخلاقي (مدرسي) مستمدّ من أدبيات “اللاّهوت السياسي” التعليمي أو “الأخلاقيات السياسية” فالديمقراطية لا تنهض على القوانين وحدها بل هي تنهض كذلك، لا بل تؤسّس، على تطوّر التربية السياسية التعدّدية وعلى القلق حيال العنف وعلى مفهوم حديث للعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص وإلا ظلّت الحياة الديمقراطية مهدّدة بعدم التسامح الديني أو القومي أو الطبقي، وبالإكراه والتهميش والاستئصال والقضاء على “المختلف” أو “المتمايز..”

 

أمّا عمادها في العلم السياسي/ القانوني فحقوق الإنسان وواجباته.

مفهومها متطوّر:

  • من الديمقراطية العددية المستندة الى النظرة اليعقوبية في المجتمع المتجانس والآيلة الى حكم الأكثرية، الى الديمقراطية التوافقية في المجتمع المتعدّد والآيلة الى ضمانات الأقلية..
  • من التمثيل الأكثري في الديمقراطية البسيطة الى التمثيل النّسبي في الديمقراطية المركّبة..
  • من المفهوم البسيط في المجتمع المتجانس الى المفهوم المركّب في المجتمع المتعدّد ..
  • من ديمقراطية المواطنين، الديمقراطية الجمهورية، الى ديمقراطية الجماعات، الديمقراطية التوافقية التي ابتدعها الفكر السياسي التعاقدي عن طريق التراضي. فالديمقراطية الرّضائية أو التوافقية تفترض وجود اتّفاق سياسي يتناول شروط المواطنة والمشاركة السياسية الحرّة والمتساوية. وهو اتّفاق بين “أشخاص عقلاء” يعترفون بصحّة معتقدات الآخر وخصوصياته ومنظومات قيمه ما يفترض وجود جماعات متعقّلة ومتسامحة تجمعها الديمقراطية التوافقية في السلطة بصيغة ائتلافية نتيجة ما يعرف “بالتسويات التاريخية.”

هذا، وقد يتّضح مفهوم الديمقراطية في ضوء نقيضه، مفهوم التوتاليتارية..

عناصر النظام التوتاليتاري هي الآتية:

  • حزب واحد يحتكر الحياة السياسية.
  • الدولة تستند الى ايديولوجيا الحزب فتكون دولة الحزب الواحد والايديولوجيا الواحدة أو العقيدة الكليانية.
  • خطاب الدولة لا يناقش ولا يفحم، فالدولة تحتكر الحقيقة وحقّ القوّة فيتمّ تأبيد السلطة بيد الحاكم المطلق.

أمّا عناصر النظام الديمقراطي عملاً بنظرية “النقيض يحدّد نقيضه” فهي الآتية:

تعدّدية الأحزاب والقوى السياسية. فضلاً عن النقابات والاتّحادات والهيئات الأهلية وسائر قوى المجتمع المدني، انّ التعدّدية السياسية تجسّدها الأحزاب التي توفّر للمواطنين فرص المشاركة السياسية  والتي تعدّ قيادات البلاد وتصنع سياساتها. لا ديمقراطية بدون أحزاب سياسية.

 

  • الدولة لا تستند الى عقيدة كليانية بل الى مجموعة قواعد دستورية قابلة للتعديل.

خطاب الدولة يقابله خطاب معارض من داخل المؤسسات الشرعية والدستورية ومن خارجها (في الشارع) لتستقيم عملية تداول السلطة في ضوء صراع أو تنافس سياسي سلمي/حضاري حيث لا مجال للإكراه وفرض الرّأي. من هنا نفهم أهمّية تشكّل قوى الضّغط وأهمّية المعارضة في الشارع في المجتمعات والأنظمة الديمقراطية. وهكذا تكتسب التعدّدية السياسية معناها الوظيفي..

 

للديمقراطية عيوب ونواقص ولكن الديمقراطية تداوي نفسها بنفسها. 

انّ نواقص الديمقراطية والسلبيات المرافقة لها لا تعالج برفض الديمقراطية بل بالمزيد منها وترجمة ثقافتها أفعالا” نضالية بهذه العناوين:

  • الاعتراف بالآخر.
  • مقاومة السلطة المطلقة.
  • صيانة الحرية الشخصية.
  • المشاركة في التعبير عن الارادة العامة.
  • الانتماء الى جماعة سياسية.
  • الانخراط في قوى المجتمع المدني.

والمبدأ المؤسّس لهذه العناوين هو: لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين.

 

خلاصة المفهوم هي الآتي:

 

الديموقراطية في الميدان السياسيهي نقيض سياسة التسلّط والقهر وإلغاء الآخر بالعنف والاكراه المعبّر عنها بالديكتاتورية والفاشية والأوليغارشية التي تقوم على إلغاء الإرادة الجماعية والقوانين العامة والدساتير والأنظمة المؤسساتية، خصوصاً القضاء، والعمل بقانون الطوارئ.

* الديموقراطية في الميدان الإجتماعيهي نقيض الرأسمالية الفاجرة أو المتوحشة المعبّر عنها في كتاب كورنبرغر “صورة الحضارة الأميركية” بالآتي: “يصنعون الشحم من الماشية والمال من الناس.”

 

 

ملاحظات عامة:

  1. قد يبدو الحديث عن الديموقراطية قوّة للمستقبل العربي واقعاً في غير لحظته التاريخية والواقعية بالنظر إلى ما يتهدّد الوطن العربي من فتن وحروب واحتلالات وأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية، وما يتهدّد دوله من تفكيك وتحلّل وتجزئة وثرواته من نهب منظّم وشعوبه من حصار وإفقار وهجرة وتهجير..

الحقيقة هي أنّنا نعي كلّ هذا ونعي أن الوطن العربي من محيطه إلى خليجه يتلوّى فوق صفيح ساخن ولكن إنطلاقاً من وعينا هذا نرى إلى مستقبله.

حديثنا إذاُ عن الديموقراطية قوّة للمستقبل العربي يأتي في هذا السياق.

 

  1. هذا الحديث ليس بحثاً نظرياً أكّاديمياً في الديموقراطية لا لجهة المفاهيم ولا لجهة المضامين ولا لجهة الأشكال أو النماذج ولا لجهة المنظّرين لها من علماء سياسة واجتماع وقانون وأخلاق بل لجهة وظائفها قوّة للمستقبل العربي ربطاً باحتياجات المجتمعات العربية الراهنة والمستقبلية.

بهذا المعنى تكون الديموقراطية قوّة أو طاقة توظّف في تلبية هذه الإحتياجات  أي وسيلة أو آليّة  لتغيير الواقع لا غاية في ذاتها نسعى إلى تحقّقها.. وعليه،

ننطلق منها بوصفها معطى إفتراضياً يسهم بفاعليّة مطلوبة لبناء المستقبل العربي.

 

  1. منظومة القيم الديموقراطية وآلياتها لها ما يعادلها داخل التراث العربي الإسلامي، لذلك: أيّ بحث في الديموقراطية قوّة للمستقبل العربي يبقى مبتوراً ما لم يعمد إلى مراجعة هذا التراث ودرسه باعتماد منهج الدراسات المقارنة، وتبقى الغاية منه غير مجدية ما لم يبن المستقبل العربي من داخل بنيته الخاصة وذلك بالتفاعل مع الوافد إليه من تراثات الشعوب..

الديموقراطية هي من المصطلحات الوافدة إلى ثقافة العرب السياسية وبنيتهم الفكرية ومنظومتهم المعرفية. ما مدى تىآلف مضامينها وآليات تطبيقها مع ما يمكن أن يعادلها في التراث العربي؟

هنا نسأل: هل المصطلح الوافد يشكّل خطراً على البنية الفكرية أو المنظومة المعرفية والقيمية والسلوكية لدى من يفد إليه؟

جوابنا هو الآتي: إنّه لخطر شديد له عواقب إستلابية في حال تبنّيه من دون تبصّر ويقين معرفي ونقد وتكييف حفاظاً على خصوصيّة الهويّة فالتبنّي المطلق إنكار للخصوصيّة.

 

  1. بنية المجتمعات العربية ليست واحدة في كلّ الأقطار ما يجمع بينها تنوّعها الإتنولوجي أو القومي الهويّاتي، والديني الطوائفي، والجماعاتي المديني والصحراوي والريفي ما يجعلها بنية غير متماسكة وقابلة للإختراق (مادّته في نظر الغرب هي الأقلّيات لتمرير مشاريعه التقسيمية..)

ممّا يعزّز هشاشة بنية المجتمعات العربية هو الآتي:

  • وفرة الهويّات الفرعية المقموعة.
  • إزدياد الدعوات الإنفصالية (التقسيم والفدرلة والحكم الذاتي)
  • إشتداد النزاعات والحروب الأهلية الداخلية واهتزاز الوحدات الوطنية (من سلبيات ما سمّي الربيع العربي)
  • تعثّر الحركة القومية العربية وتراجع الدعوات إلى الوحدة العربية والتزام مقتضيات الأمن القومي العربي.
  • تعاظم قوّة الإسلام السياسي بشقّيه السّلمي والعنفي.
  • كثافة الوجود الأجنبي والإحتلالات العسكرية والحصارات.
  • الحروب الإسرائيلية المستمرّة على الشعب الفلسطيني بما يقترب من حروب الإبادة.
  • الإنخراط في صراع المحاور الإقليمية والدولية.

 

  1. القوى الحيّة والناشطة  في المجتمعات العربية تناضل تحت شعار الديموقراطية بغية تحويله إلى واقع سياسي يجعل السلطة إنتاجاً مجتمعياً ويكرّس مبدأين: الشراكة والمحاسبة.

هذه القوى وضعت المجتمعات العربية على سكّة التطوّر الديموقراطي وضخّت فيها ديناميّة سياسية عالية الفعالية أسقطت مقولة: “المجتمعات العربية صحراء الديموقراطية.”

 

  1. الديموقراطية المجلوبة (النموذج العراقي)
  • ديموقراطية الحصار وقتل أطفال العراق.
  • ديموقراطية الإحتلال وسجن ابو غريب ومعتقل غوانتانامو.
  • ديموقراطية الإعدامات الميدانية.
  • ديموقراطية الفدرلة وتمزيق هويّة العراق العربية.
  • ديموقراطية الجماعات المتصادمة والحروب الداخلية.
  • ديموقراطية الإقصاء والإجتثاث وقتل وتهجير آلاف العقول والأدمغة العراقية.
  • ديموقراطية نهب الثروات العراقية.
  • ديموقراطية “داعش” وما تلاها من تنظيمات إرهابية هي صنيعة الإدارة الأميركية..     

أوّلاً: الديموقراطية قوّة بناء الدولة وتحرير المجتمع

 

  1. الديموقراطية قوّة بناء لدولة المستقبل العربي

 

  • واقع “الدولة” في الوطن العربي ربطاً بمفهوم الديموقراطية

 

إنّ الديمقراطية هي الأساس الذي تقوم عليه دولة القانون والأمن الاجتماعي.

دولة القانون بفعل الديموقراطية لا تكون مستبدّة بل قويّة، والسّلطة فيها للمواطنين.

أمّا دولة الأمن الاجتماعي فتقوم على الديمقراطية المجتمعية، ديمقراطية الضمانات وشبكات الأمان الاجتماعي، وهي تقوم، تالياً، على ارساء علاقة وطيدة بين الديمقراطية والتنمية. فالتنمية والديمقراطية تسميتان لمسمّى واحد. لا وجود لديمقراطية بدون تنمية بشرية.

هذا، وللدولة أن تصون المصلحة العامة وتحفظ العيش الحضاري، وذلك عبر سنّ القوانين والشرائع بالاستناد الى المبادئ الانسانية في التسامح والاحترام المتبادل، وعليه:

انّ الدولة بفعل الديمقراطية تكون مبادرة وفعّالة.

والفعل أي الوظيفة الديمقراطية في دولة مبادرة وفعّالة هو نظام من التوسّط الدائم بين الدولة وقوى المجتمع، وذلك لتأمين مصالح المجتمع أي مصالح الإرادة العامة. والإرادة العامة ليست دائماً إرادة الأكثرية، فهي إرادتها فقط في ديمقراطيات الوهم أو الدجل الديمقراطي، ديمقراطيات ال 99,99 % التي تدّعيها دولة الحاكم الأوحد أو الحزب الواحد.

على أيّ أساس ترتكز فكرة الدولة في الوطن العربي؟.. أو ليست ترتكز في غالبيتها على فكرة السيادة للحاكم وشخصنة الدساتير؟

الفكر الطغياني هو السائد في غير دولة.. وقليلة هي الدساتير التي هي من صنع الشعب وله.. فالدساتير الديمقراطية تكاد تكون، لا بل هي، معدومة..

انّ فكرة الدولة لغياب الديموقراطية لم تعد موجودة.. فصارت الدولة هي الحاكم.. فقدت دستورها لصالحه.. وحصل تماه بينهما  (نابليون: أنا الدولة)

وصارت الدولة تعني على حدّ تعبير غرامتشي “الآلة الحكومية وآلة الإكراه”..

هل الدولة في الوطن العربي هي أفهوم حيادي يخصّ كلّ الناس؟!..

انّنا نرى أنّ الدولة من حيث هي مؤسسات عامة يملكها الشعب صارت آلة قمعية بيد الحكام.. وهي وفق تصنيف ألتوسير باتت تضمّ جميع عناصر الطغيان والهيمنة.. فهي تهيمن بواسطة آلتها الإيديولوجية (الإعلام والتربية).. وبواسطة آلتها المادية (الجيش والقوى الأمنية والقوى شبه الميليشيوية الحليفة أو الرديفة)  وبواسطة أنظمة وأجهزة وسلطات تمارس أفعال القهر والإستبداد.

عرفت الدولة في الوطن العربي أشكال السلطة كافّة: الحكومة الملكية والأوليغارشية، الحكومة الجمهورية والعسكرية، الحكومة الشعبية والديمقراطية.. والجامع بينها هو أنّها مارست “الهيمنة التقليدية” (سلطة القهر التاريخي) المرتكزة على الاعتقاد أنّ الشعوب العربية غير مهيّأة، بحكم أطباعها البدوية، لنيل حرياتها العامة وخصوصاً الحريات السياسية.. فالحرية في رأي “الحكام” تعني المزيد من الصراعات والخلافات “اللاّحضارية”.. وفي رأيها أنّ الوعي السياسي هو أساس تشكيل الحرية السياسية.. وفي غيابه لا لزوم للتمتّع بهذه “النعمة الحضارية”!!.. وفي رأيها كذلك أنّ التفاوت في درجات الوعي يسوّغ الاستمرار في احتكار التقرير في الشّأن السياسي!!..

فالسياسة هي من عمل الحكام ووظائف السلطة ومسؤولية الأجهزة.. فهي تعي بحكم تكوينها “الطبيعي” و “الطليعي” المصلحة المشتركة لجميع أبناء الشعب.. وهي الحاكمة باسمه.. وله أن ينصرف الى شؤون معاشه وتحسين أوضاعه.. فهو في بال من يشغلون مراكز السلطة!!..

قليل من السياسة كثير من الاستقرار العام.. هذه هي المعادلة التي تحكم ذهنية الأنظمة والسلطات والأجهزة الحاكمة في الوطن العربي!!..

السياسة ليست من اختصاص الناس بل من اختصاص “حكامهم” والأنظمة!

هل الحكام في السلطة هم فيها بارادة الناس أو بالعنف والاستيلاء والغصب والارادات الخفيّة والغيبيّة؟

لهذا،

سادت دولة الإستبداد والقهر التاريخي في معظم الأقطار العربية فبات الوطن العربي مجموعة تشكّلات جغرافية/سياسية تحكمها أنظمة وأجهزة وسلطات متنافرة في البنية والعقيدة ، متوافقة في الوسيلة والنّهج: التحكّم بمصائر الشعوب ونهب ثرواتها حتى بات من الصّعب على الشعوب المقهورة أن تحرّر ذاتها بالوسائل الديموقراطية (ظاهرة الربيع العربي)

وبات الوطن العربي يختزل التجربة التاريخية الأشدّ تعبيراً عن واقع العلاقة بين الدولة المستبدّة والشعب المقهور..

أين هي الدولة العربية الوحيدة التي لا تنتهك فيها حقوق الانسان ؟!.. في كلّ يوم انتهاكات جسيمة وفي رأسها انتهاك الحقّ في الحياة .. قانون الطوارئ هو المعمول به.. الاعتقالات تتمّ بالمئات والآلاف.. والمحاكمات قلّما راعت شروط العدالة .. أين هو القضاء العربي المستقلّ ؟!.. أين هي المحكمة العربية العليا الناظرة في انتهاكات حقوق الانسان العربي ؟!..

فالدول توسّع صلاحيات أجهزتها الأمنية وتقيّد الحرّيات الأساسية وفي مقدّمتها حرّية الرأي والتعبير والتنظيم السياسي تطبيقاً لمبدأ التعدّدية السياسية وتكريس المشاركة الشعبية في تكوين السلطة وصنع السياسات..

بالنظر الى واقع ” الدولة ” في الوطن العربي والأجهزة الحاكمة والأنظمة السائدة وتكوين السلطة، ندرك كم هو واقعي ومنطقي الكلام على الديموقراطية قوّة بناء لدولة المستقبل العربي.

نحن ندرك أنّ موازين القوى راجحة بكل المقاييس لصالح الدولة المستبدّة أو الدولة الأمنية.. هذا صحيح.. والصحيح كذلك هو أنّ ثمّة إرادة مجتمعيّة حرّة لم تهزم ولم تكسر.. وهذا هو الرّهان في تعديل موازين القوى لصالح دولة المستقبل العربي ..

 

  • دولة حديثة في مجتمع متعدّد

في الوطن العربي حتى تاريخه لم تقم دولة حديثة. تلك واحدة من أزمات الواقع العربي الراهن خصوصاً وهو يشهد تحوّلات بنيوية في هياكله كافة السياسية منها والإقتصادية والإجتماعية والثقافية. حول هذا الواقع المتحوّل طرحت أسئلة كثيرة حول مآله ومآل دوله وأنظمتها السياسية. من هذه الأسئلة واحد يتناول إمكان قيام دولة عربية حديثة في مجتمع متعدّد وقبول الآخر في ظلّ نظام سياسي ديموقراطي.

معاينة الواقع العربي الراهن تقرّر عدم الإقفال على الممكن ذلك أنّ الأمر يتوقّف على صراع القوى السياسية والثقافية والإجتماعية.

الحقيقة تفقد معناها ووظيفتها ما لم تجد لها إسناداً في الواقع الملموس. ومن دون أن أتبنّى أيّ موقف مسبق أو منحاز لا أدّعي إمتلاك إجابة حاسمة عن السؤال المطروح لأنّ الظواهر السياسية والثقافية والإجتماعية حالات متماوجة ومتدافعة خصوصاً في مجتمعات متعدّدة وغير مستقرّة كالمجتمعات العربية.

على قاعدة التحدّي والإستجابة، القاعدة التي تحكم مجرى التاريخ، قد تكون الديموقراطية واحدة من الإستجابات الوظيفية التي تستدعيها تحديات إعادة تكوين الدول وأنظمتها وسلطاتها في زمن التحوّلات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية الكبرى أو الإنعطافات المصيرية. ما يعزّز هذا الإحتمال أنّ الديموقراطية ظاهرة تاريخية خاضعة للتحوّل التاريخي المستمرّ فتتّخذ أشكالاً ومسارات ووظائف تتناسب وطبيعة المجتمعات المعنية وقوى الصراع فيها، فهي ليست شكلاً ناجزاً أو مساراً نمطياً واحداً أو وظيفة محدّدة تطبّق أو لا تطبّق في كلّ زمان ومكان. إنّها فعل بشري تحقيقه أو عدم تحقيقه رهن صراع القوى السياسية والثقافية والإجتماعية التي تؤيّده أو ترفضه.

المجتمعات الغربية اعتمدتها منهجاً في إدارة شؤون الدولة الحديثة لتحريرها من سلطة المؤسسة الدينية  وتسليمها إلى سلطة  الإرادة العامة أو الإرادة الشعبية. وهو منهج يفترض فصل مؤسسات الدولة عن المؤسسات الدينية إطلاقاً لهذه الإرادة في التعبير عن نفسها ما أكسبها مفهوماً حقوقياً  وسياسياً وثقافياً واجتماعياً واحداً تجسّده تلك الإرادة التي لها وحدها إمرة تشكيل السلطات التنفيذية والتشريعية، وهي إمرة لا ينازعها فيها أحد. فالأحكام تنبثق من الشعب وتستمدّ شرعيتها ومشروعيتها من إرادة الشعب وحده. وهذا ما أدّى دوراً حاسماً في تطوير مفهوم الديمقراطية ووظائفها في المجتمعات الغربية حيث قامت أنظمة سياسية تحترم التعدّدية بتعبيراتها كافة، أنظمة لا تسمح للأحاديات أن تفرض سلطتها  وسيطرتها على المواطنين والدولة فمؤسسات الدولة ملك لجميع مواطنيها الذين لهم الحقوق نفسها والواجبات نفسها بصرف النظر عن تعدّدياتهم كافة. وهي أنظمة تجسّد عقداً إجتماعياً  بين المواطنين كأفراد يعترف بتعدّدياتهم ويحترم حقوق المواطنة.

قوام الدولة الحديثة ومرتكزها الدستور المدني أو القانون الوضعي الذي يترجم العقد الإجتماعي. 

العقد الإجتماعي في مجتمعات متعدّدة التكوين كالمجتمعات العربية يشكّل الإطار الدستوري والقانوني المحايد لحماية حقوق المواطنة وتأمين المصالح العامّة.

هنا نسأل: هل وصل الوعي السياسي في المجتمعات العربية إلى درجة الإعتراف بالتعدّدية واقعاً إجتماعياً وثقافياً وسياسياً متعدّد المكوّنات تتطلّب حمايته نهجاً ديموقراطياً لبناء دول حديثة؟

أمام العقل العربي مسار متدرّج لتغيير “الفقه الدستوري” وجعله يستند إلى الحقائق النسبية التي له وحده أن يقرّرها في التشريع  السياسي والإجتماعي والثقافي. الإقتراب من هذه الدرجة  في سلّم الوعي السياسي ينبئ باقتراب قيام مثل تلك الدول، دول المواطنة والمساواة أمام القانون في مسألتي الحق والواجب إستجابة تاريخية لاختيارات  العقل الحرّ.

 

  • دولة حديثة عمادها ديموقراطية الأفراد

 

الحرية الفردية هي حرية المواطن في وجوده السياسي والمجتمعي والثقافي. الأنظمة السياسية هي التي تتيح له ممارستها أو تمسكها عنه إنطلاقاً من نظرتها إليه وجوداً مكتملاً في ذاته (هوية)  أو وجوداً غير مكتمل إلّا بسواه (إنتماء) نظام الدولة الحديثة ينظر إلى الفرد وجوداً مكتملاً في ذاته، والأنظمة التي تنظر إليه وجوداً غير مكتمل إلاّ بسواه تعتدي على كيانية الفرد وتذيبها في كيانية الجماعة وتلغي حرّيته التي هي قوام الديموقراطية الأرسطية (ديموقراطية الأفراد)

ديموقراطية الأفراد هي نقيض ديموقراطية الجماعات التي، وفق الأنظمة السياسية  تحمي حقوق الجماعات، وتجعل الفرد سجين كيانية الجماعة.

من وظائف ديموقراطية الأفراد العبور بالنظام من نظام تعاقدي بين جماعات إلى نظام تعاقدي بين مواطنين في مجتمع لا تصنيف فيه للناس على أساس التباين الديني أو العرقي أو السلالي أو الجندري أو المناطقي أو الطبقي/الإجتماعي:

  • قوانينه وضعية (بخاصة القوانين الإنتخابية وقوانين الأحوال الشخصية)
  • تمثيله شعبي لا طوائفي أو عشائري.
  • دولته وحدوية لا واحدية ولا إتّحادية.
  • كيانه الإجتماعي يجمع بين الوحدة والتنوّع (لا تعدّدية تنافرية ولا وحدة إنصهارية)
  • كيانه السياسي تعدّدية أحزاب وتيارات وتوجّهات عقائدية أو فكرية (لا أحزاب طليعية قائدة تحتكر البنية ولا تنظيمات فئوية تدمّرها)
  • نزاعاته غير قاتلة وتبقى قابلة للإحتواء من طريق العدالة الإجتماعية والقضائية (العدالة الإجتماعية تفي الجميع حقوقهم والأحكام القضائية العادلة تسهم في إرساء السلم بين الناس)
  • قضاياه الأساسية يحسم الخلاف بشأنها بالإحتكام إلى الإرادة العامة إمّا بالإستفتاء الشعبي إمّا بالإنتخابات وإمّا باللجوء إلى مجالسه التمثيلية.
  • أزماته لا تختزن أزمات وجودية/كيانية تهّدد مصيره أو تطرح عليه بصورة دائمة سؤال الهويّة أو تدفعه إلى تسويات غير مرضية وقائمة على مبدأ التنازلات والخسائر المتبادلة وتقاطعات المصالح.
  • أفراده يصنعون يومياً سلامهم الداخلي بموجب عقد إجتماعي وهم في حوار سياسي دائم، عبر مؤسساته الدستورية والشعبية..

ديموقراطية الأفراد هي نقيض “الديموقراطية التوافقية” وتعبيراتها (الميثاقية الصيغوية، مثلاً) ومن وظائفها جعل المواطنين الأفراد، فرداً فرداً، أعضاء حيّة في مجتمع عضوي فتتبدّل طبيعة الحياة المجتمعية من أفاهيم “العيش المشترك بين جماعات” إلى أفاهيم الحياة معاً بين مواطنين، ومن دولة جماعاتية مركّبة ومعرّضة للتشظّي في أيّ لحظة (وهذا ما هي عليه الدولة اللبنانية بحالتها الراهنة) إلى دولة وحدوية بسيطة، دولة المواطنة التي تنتجها إرادات المواطنين الفردية.

 

 

  1. الديموقراطية قوة تحرير للمجتمعات العربية

 

  • من مجتمع تقليدي إلى مجتمع جديد: 

المجتمع التقليدي يسوده “عقل مجموعي”، المجتمع الجديد يسوده عقل فردي. في الأوّل تتّسع حدود الشخصية الجماعية، في الثاني تتّسع حدود الشخصية الفردية. (ديموقراطية الأفراد)  

  • المجتمع التقليدي تتحكّم به قيود وأعراف وشرائع تلقائية تحكّماً مقدّساً ومطلقاً، المجتمع الجديد تحكمه دساتير وقوانين اشتراعية تقبل المناقضة والتحدّي.(ديموقراطية الدساتير)
  • في المجتمع التقليدي الحقّ الالهي في اختيار الحاكم هو حقّ حصري، في المجتمع الجديد الحقّ الحصري في انتخاب الحكّام هو للشعب.( الديموقراطية الشعبية: حكم الشعب للشعب وبالشعب) 
  • الدولة في المجتمع التقليدي تمثّل الإرادة الإلهية وتستمدّ شرعيّتها من الدين أو من رجاله وعلمائه ومصدر تشريعها ديني، الدولة في المجتمع الجديد تمثّل “الارادة العامّة” وتستمدّ شرعيّتها من الشعب ومصدر تشريعها وضعي (ولاية الأمّة على الأمّة..)
  • الناس في المجتمع التقليدي يتطلّعون الى “قائد ملهم” ( زعيم تاريخي) لا يراقب ولا يساءل ولا يحاسب، الناس في المجتمع الجديد يتطلّعون الى مؤسّسات تنبثق من  “الارادة العامة” وتخضع للمراقبة والمساءلة والمحاسبة.. (ديموقراطية المؤسسات)
  • في المجتمع التقليدي يقوم عهد بين الله والجماعة يحكم حياتها العامة وهو عهد ثابت بارادة الله وخضوع الجماعة، في المجتمع الجديد يقوم “عقد اجتماعي”  بين أبناء الجماعة أنفسهم كأفراد ينظّم حياتهم العامّة وهو متبدّل وفق الإرادة العامّة وخياراتها الحرّة. (ديموقراطية العقود بين مواطنين)

 

من خلال هذه التوصيفات الوظيفية للفعل الديموقراطي تتشكّل قاعدة عصرية ومجتمعية وعلمية لبناء مجتمعات عربية جديدة  ماثلة في العصر والتاريخ ومشدودة عن فلسفة اجتماعها السياسي الغيبي.. (الفلسفات العقلانية والوضعية قواعد الإنتظام السياسي والإجتماعي وفهم الوقائع والتعامل معها في المجتمع الجديد) 

  

        • من مجتمع معرفي وثقافي مغلق إلى مجتمع معرفي وثقافي مفتوح:

 

  • المجتمع العربي يعيش في إشكالية ناتجة عن علاقة “السلطة المستبدّة” بمجتمع المعارف والثقافات..

من نتائج الإستبداد السلطوي في هذا المجتمع هجرة الأدمغة والكفاءات العلمية والمعرفية والتكنولوجية العالية.. وهذا ما أدّى ويؤدّي إلى اتّساع الفجوة بينه والمجتمعات المتقدّمة في هذه المجالات وإلى استنزاف موارده وضعف استثماراته وتعميق تبعيّته وارتهانه للمركزية الغربية.

  • المجتمعات المتقدّمة بفعل انفتاحها وعدم حصريّة مصادرها وروافدها المعرفية والثقافية هي جاذبة للأدمغة التي هي العنصر الأهمّ بين عناصر الانتاج وتنمية الهويّات الحضارية..

المجتمع العربي مجتمع طارد ونابذ لعقول أبنائه.. وذلك لأسباب جمّة.. أمّا رأسها فهو الاستبداد وتقييد الحريات الفكرية والبحثية.. هل تسمح إيديولوجيا الإستبداد  حاكميّة الفكر الديني بمجتمع معرفي وثقافي مفتوح؟ هل تسمح بتفلّت الهويّة الثقافية من قوانينها وأحكامها؟ هل تتخلّى حاكميّة الإستبداد عن دورها في ضبط “الشخصيّة الحضارية” أو الهوية التاريخية للأمّة؟ هل تتخلّى عن “حقّها” في صناعة الانسان العربي وفبركته وفق مقاييس تؤمّن لها الاستقرار والديمومة؟

السلطة السياسية المؤدلجة على الفكر الأحادي أو الواحدي تستسيغ النمط المعرفي والثقافي المنسجم مع توجّهاتها وتحارب النمط المعارض .. فكيف اذا كانت هذه السلطة التي تمارس الاكراه السياسي تحكم باسم الدين؟! هل المجتمع العربي قادر على أن يتحوّل إلى مجتمع أنماط معرفية متعدّدة، بمواجهة “سلطة الاستبداد”؟!

غياب الفعل الديمقراطي يشكّل عائقاً أمامه ويعجزه عن فعل المواجهة..

  • في الوطن العربي إمكانات اقتصادية وبشرية وحضارية بدّدتها سياسات أنظمة لم تؤمن يوماً بأنّ الانسان العربي هو قيمة في ذاته وأنّه صاحب  الحقّ في التفاعل مع نهضة العالم المتقدّم وثورته العلمية والتكنولوجية من موقع المنتج والمشارك لا المستهلك والمتلقّي..
  • المجتمع العربي ليس مجتمعاً بسيطاً بل مركّب إتنياً ودينياً ولغوياً وثقافياً .. والتفاعل الثقافي  بين عناصره التكوينية ما زال ضئيلاً وهذا ما يضعف الهويّة.. ليست كلّ الثقافات حاضرة في وسائل التعبير والنشر والتعليم في المجتمع العربي.. فالكلّ يعيش هلعاً تاريخياً من الكلّ (فوبيا) ويجد فيه على الدوام مصدر مؤامرة عليه أو خطر.
  • الهويات الثقافية المقموعة موجودة بوفرة في هذا المجتمع وهي من ضحايا ممارسات سلطة الإستبداد.. غير أنّها في العديد من المجتمعات العربية تقف بشجاعة وتقاوم وترفع بقوّة شعار الحرّيات العامة وحقوق الانسان ومنها حرّياته وحقوقه الثقافية.

الديموقراطية هي وسيلتها إلى تظهير عافيتها المكنونة والعصيّة على التطويع والقادرة على فتح باب الحرّية..

 

إنّ معركة الحرّيات بالوسائل الديموقراطية في الوطن العربي هي معركة مفتوحة وشاملة لتحرير المجتمعات وهي غير منفصلة قطعاً عن معركة بناء الدولة لما بين المجتمع والدولة من ترابط عضوي. وهذه هي حقيقة لا يمكن عزلها أو فصلها عن مجاريها التاريخية ..

 

  • من مجتمع مستلب إلى مجتمع مقاوم:

حماية حقوق المجتمعات من انتهاكات التسلّط الحكومي واستلاباته هي من مسؤولية القوى المنتظمة ديموقراطياً في هيئات المجتمع المدني (هيئات مهنية ونقابات وأحزاب واتّحادات وروابط ومنتديات ثقافية واجتماعية، طلاّبية وشبابية ونسائية..) على قاعدة المواجهة المفتوحة مع الأنظمة المستبدّة.

هذا لا ينفي وجود هيئات مجتمع تقليدية، تركيباُ ودوراُ، على علاقة ذيلية أو تخادمية بأنظمة القهر .. وكثيرة هي الأنظمة السياسية التي تجد فيها خير داعم ونصير لقاء تحقيق بعض المكاسب الفئوية على حساب وعيها للصالح العام .. غير أنّ رقعة التباعد بين الأنظمة والحكومات المستبدّة من جهة والقوى الحيّة التحرّرية من جهة أخرى تزداد يوماً بعد يوم، وبالقدر الذي تطرح فيه مسألة الحريات العامّة والخاصّة وبالقدر الذي تتعاظم فيه ظواهر الإستلاب العربي.

وجه الايجاب في هذا “التباعد السلمي” حتى اليوم التمكّن من تعميم الثقافة الديموقراطية وتعميقها وتحويلها إلى مناهج عمل وسلوك في تنظيمات المجتمع المدني فتقترب من ساعة تحرّرها. 

هذا ما نراه في التحليل الأخير للاتّجاه العام في ضوء ما هو مرجّح ومرتقب ومنشود. فتحدّيات الأنظمة المستبدّة المتفاقمة  قد تضع القوى الحيّة أمام  السؤال المصيري كيف للمجتمعات العربية أن تقاوم لضمان تحرّرها بعيداً من حبائل الأنظمة الدموية..؟ كيف لها أن تتحاشى العنف والعنف المضادّ؟ 

انّ حركة المجتمعات العربية باتت محكومة بهذه المعادلة: كيف التحرّر من عنف ودم؟ وكلّ حركة مقاومة تنطلق من خارج هذه المعادلة لا مستقبل لها سوى الفشل..

انّ حدود حركا ت المقاومة من أجل مجتمع عربي آمن تحمى فيه حقوق المواطنين  وتصان فيه الحرّيات باتت واضحة : التصدّي لارتكابات الأنظمة القهرية بمزيد من الإصرار على استخدام الوسائل الديموقراطية..

 

 

ثانياً: الديموقراطية قوّة إصلاح إيديولوجي وفكري قومي وديني

 

  1. إصلاح قومي

 

  • عروبة الإيديولوجيا وعروبة الوقائع

 

تحوّل فكرة العروبة من المجال الثقافي الى المجال السياسي/الايديولوجي ومن المجال الفكري الى المجال الحركي/العملاني الدولاتي أو السلطوي هو تحوّل طبيعي يضع الفكرة على محكّ التجربة العملية لفحص مدى واقعيّتها وقابليّتها للترجمة والحياة، شأنها في ذلك شأن جميع الأفكار الاذهانية التي لا حكم لها أو عليها، ايجاباً أو سلباً، ما لم تتحوّل الى حركات اعيانية.. هذا التحوّل الطبيعي بالأفكار من الاذهان الى الاعيان هو الذي يسمح باخضاعها الى اعادة نظر وفحص ونقد ومراجعة وتصويب..

فالمقدّمات النظرية تشهد لها أو عليها نتائج تحويلها الى وقائع.. 

عروبة الوقائع غير عروبة الايديولوجيا.

عروبة الوقائع مسؤولة عن الهزائم العربية.

أنظمة وحكومات قطرية مستتبعة واستبدادية باسم العروبة لا تصنع لشعوبها انتصارات بل هزائم..

ورأينا أنّ عروبة الوقائع أنتجت محنة الديموقراطية وحقوق الانسان في الوطن العربي ، بلاد “الراعي” و “الرعيّة” والمجتمعات المستباحة لتسلّط الحزب الواحد والحاكم الأوحد والعسكر باسم العروبة!.. 

عروبة الايديولوجيا قاتلت وتقاتل بالديموقراطية والتعددية السياسية والحقّ في الاختلاف والمواطنة وحكم القانون والعدالة ودولة المؤسسات والمجتمعات المدنية..

عروبة الوقائع لم تعتن  ببناء نظام سياسي حديث (والحداثة هنا نعني بها  حداثة الثقافة السياسية التي تدير أجهزة النظام) بل رسّخت أنظمة كلاّنية منغلقة  في وجه التعددية السياسية والتداول الديموقراطي للسلطة. أخفقت في انتاج دولة المؤسسات بديلاً من كاريسما القائد والشخصنة السياسية.

هذه النواقص في عروبة الوقائع آذت صورة المشروع القومي العربي وقدّمته للناس لا بل مارسته سلطة استبدادية تديرها أجهزة الأمن والمخابرات على حساب النخب القومية.. الدولة الأمنية أطاحت بالمشروع القومي الديمقراطي..

أدبيات العروبة في الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان والاصلاح السياسي والاجتماعي بدّدتها “الدولة الأمنية “والمشروع النّهضوي الرّحب قلّصته “مكتسباتها”.

المشروع تاريخي حضاري في أصله حوّلته هذه “الدولة” الى مشروع سلطة. كان مشروعاً للمجتمع والأمّة فصيّرته مشروعاً للقائد!..

عروبة الايديولوجيا أنتجت مشروعاً فكرياً حضارياً ولكن عروبة الوقائع  قزّمته ونالت من اعتباره التاريخي.. والإنساني..

هنا نسأل:

أيّ مستقبل لعروبة الايديولوجيا ما لم تعد بناء نفسها وتجديد مشروعها النهضوي المستفيد من وظائف الديمقراطية في إنجاز الوحدة والتحرير والتنمية المستقلّة والعدالة الإجتماعية والتجدّد الحضاري؟

ألم يواجه مشروع النهضة العربية في بدايات القرن الماضي فقهياً وفكرياً وسياسياً وسلطوياً برفض الديموقراطية بحجّة أنّها مستجلبة ولا تتواءم وحكم الموروث في التراث العربي؟

هذه الحجّة فعلت فعلها في سياقات العروبة التقليدية حتى ترسّخت فكرة استنبات  ثقافة سياسية ديموقراطية من داخل التراث.

وهنا أجدني أمام إشكالية فكرية وعملية في الوقت نفسه: رفض الإقتباس المعتلّ يقابله العجز عن الإستنبات المجدي.  

ما نحتاجه بوجود هذه الإشكالية بغية التأسيس المعرفي لإعادة بناء عروبة  الإيديولوجيا في منحاها ونهجها الديموقراطي هو نظام فكري سياسي تعدّدي ترتضي عروبة الوقائع الجديدة أن تكون واحدة من قواه وليس قوّته الوحيدة.

ما نحتاجه هو القاعدة السوسيو/ثقافية المفتوحة أمام تعدّدية المسالك والأفاهيم والمناهج في العمل الديموقراطي القائم على الحقّ في التمايز قاعدة للصراع الفكري والسياسي.

ما نحتاجه هو الحرية التي بدونها لن يتاح لعروبة الايديولوجيا أن تجدّد مشروعها الحضاري..

الحرية الفكرية هي المجال الأصحّ والأوسع لاعادة التأسيس المعرفي بالتخلّي والتأصيل والاكتساب واقتحام اللاّمفكّر فيه أو المحرّم التفكير فيه..

اختراق “المقدّس الفكري” هو بداية الطريق الأصوب الى تجديد مشروع النهضة وفتح بناه على المناحي والمناهج الديموقراطية فيتمكّن من مواجهة الأنظمة الاستبدادية التي يرفدها الفكر الطغياني السلطوي من جهة والتكفيري التحريمي من جهة أخرى.

هذا، والقاعدة الفكرية التي تنطلق منها مقاربتي لاصلاح العروبة هو التمييز بين عروبة الايدولوجيا (عقائد ومبادئ وتعاليم واعتبارات قيمية) وعروبة الوقائع أو التاريخ (وقائع وأفعال وأنماط وسلوكات ونماذج تطبيقية ..)

  • عروبة الوحدة
  • الوحدة العربية تحتّم وجود أحزاب إيديولوجية وتيّارات قومية تعتمد النهج الديموقراطي سبيلاً إلى الوحدة لا بل شرطاً لها فالحدود بين الدول العربية ليست حدوداً جغرافية بقدر ما هي حدود سياسية.
  • المشروع الوحدوي في خمسينيات وستّينيات القرن الماضي ولد على يد (أو على الأقلّ حملت لواءه) حركات تحرّر وطني/قومي وراحت تحشد له القوى الشعبية خصوصاً قوى الشعب العامل والنّخب بين المثقّفين والعسكر، لمواجهة الأنظمة العاجزة عن مواجهة واقع التفكيك والتجزئة الذي خلّفه الإستعمار وكرّسه بزرع الكيان الصهيوني فاصلاً بين بلاد النيل وبلاد الشام. 
  • فكرة الوحدة المتلازمة والديموقراطية الشعبية فكرة إستقطابيّة تعبويّة طرحتها حركة التحرّر العربي فاستهوت الجماهير الواسعة من المحيط إلى الخليج في معاركها مع قوى الاستعمار في الخارج وقوى الاستتباع في الداخل.
  •  قيادات حركة التحرّر تسلّمت السلطة في عدد من الأقطار وأقامت أنظمة سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة فحقّقت من خلالها إنجازات ملحوظة على صعيد التنمية والإصلاح وتصفية بعض المواقع الإستعمارية، ولكنها لم تتمكّن من إعطاء الديموقراطية السياسية (تعدّدية أحزاب وحدوية وتداول سلطة وحريات سياسية)  بعدها ومعناها الحقيقيين فقامت أنظمة فئوية مسؤولة عمّا أصاب المجتمع من اختلالات بنيوية وتناقضات مصلحية أفضت إلى الحكم الإستبدادي.
  • بفضل ذلك أضاع العرب فرصة البناء السياسي الديموقراطي، أي بناء الدولة الديموقراطية: من دولة القائد والحزب الطليعي الفئوي إلى دولة المؤسسات وتعدّدية الأحزاب والمواطنة.
  • كان من المنطق الطبيعي وحتميات أو ضرورات البناء الوطني المتكامل أن يرافق تحقيق الديموقراطية الاقتصادية/الاجتماعية تحقيق الديموقراطية السياسية، فالديموقراطية، أصلاً، هي نظام للحكم أي إنها سياسة قبل أيّ أمر آخر. ولكن الأمور سارت بعكس منطقها، وليس من الغرابة أن يحصل ذلك لأنّ التغيير الذي لا يتمّ عبر المؤسسات الديموقراطية وبالوسائل الديموقراطية يصعب عليه لا بل يتعذّر عليه أحياناً أن يؤسّس لتغيير ديموقراطي لاحق.

وعليه،

  • نطرح التساؤل الآتي الذي يحتاج إلى مبحث آخر: أين نحن اليوم من حركة تحرّر وطني/قومي شبيهة بتلك التي عرفناها في الخمسينيات والستينيات تنبئ بصعود قيادات ونشوء أحزاب قومية من حجم الوطن العربي وقضاياه وفي رأسها وصلبها تحرير فلسطين وطرد قوى الإحتلال الأجنبي والتصدّي لواقع التفكّك والشرذمة.
  • أيّاً  كان الجواب إنّ العرب يستطيعون بناء وحدتهم متى توافرت لهم قيادات الوحدة ومؤسساتها الديموقراطية وأفكارها ومناهج تطبيقها. وليس لنا أن نيأس فالوحدة مسيرة متتابعة وإنجاز متواصل. المهمّ أن تبقى إرادة الوحدة أقوى وأصلب من إرادة الإستسلام للحروب علينا والفتن في ما بيننا.
  • بالرغم من الحروب المستمرّة على فلسطين وسوريا والعراق وليبيا واليمن  ولبنان، ومن إثارة النزاعات العرقية والسلالية في المغرب العربي الكبير، وبداية تنفيذ مخططات التفتيت والفدرلة والتقسيم، تتحرّك إرادة الوحدة في الوطن العربي عبر خطّ تاريخي/تراكمي تجسّدها قوى ديموقراطية وحدوية تقرأ بوعي تام نواقص التجارب الوحدوية السابقة لحسن افادة واعتبار، وبعقل وحدوي متفهّم لواقع النظام العربي الرّسمي ومساره  الإنهزامي، ولواقع المتغيّرات في الوطن العربي التي أحدثتها حركات الإسلام السياسي بتفرّعاتها كافة، وتدعو إلى قراءة إرثنا الوحدوي الذي ليس من حقّنا أو من حقّ أجيالنا اللاّحقة أن تعبث به أو تبدّده باسم ما يعرف في معاجم المنهزمين “الواقعية السياسية.”

 

  • الفكر القومي العربي

 

الفكر القومي العربي الراهن والمتجدّد هو نتيجة انتكاسات منيت بها تجارب الوحدة وفشل الثورة القومية التحرّرية وذلك بتأثير من الضّغط الأميركي المتواصل على الوطن العربي منذ منتصف القرن الماضي وبالحروب الإسرائيلية على بعض دوله واحتلال أجزاء من أراضيه، وبتأثير من التنافر المصلحي والمتبدّل بين الأهداف والوسائل التي أعلنها واستخدمها أصحاب التجارب الوحدوية والتحرّرية..

الثابت في هذه المرحلة هو بلورة فكر قومي داخل منهجه الأصلي وفي التزام مبادئ القانون العام في التطوّر الطبيعي حيث ينتفي الارتداد التعسّفي الى الذات والقفز في المجهول أو غير المحسوب الى الالتحاق بالآخر. وذلك بتأصيل الهوية وتعزيز بعديها القومي والديني بمزيد من  الحرّيات والديموقراطية والتنمية فيعاد بناء “الفكر القومي” من مفردات الذاتية والخصوصية واستنهاض المكنون الديموقراطي المقموع في بنيته الأصلية..

المكنون الديموقراطي الوحدوي والتحرّري  المقموع يعاني أزمة تنظيم سياسي يحرّره من قيود الأنظمة القمعية.. المشاريع الوحدوية فشلت وتراجعت أمام المشاريع القطرية.. والسبب هو أنّ تلك المشاريع ادّعتها لنفسها قيادات وحكومات وأنظمة غير ديمقراطية.. هناك ارتباط وثيق بين المسألة الديموقراطية والمسألة الوحدوية.. فالديمقراطية هي شرط لازم لتحقيق الوحدة .. والوحدة شرط وحيد لتحقيق أفعال التحرّر الشامل.. أفعال التحرّر الجزئي والمحلّي تحاصر وتضرب وتشلّ قدرتها بسهولة.. أمّا أفعال التحرّر القومي فهي الأقدر على الثبات والإنجاز.

تنظيم المكنون الديموقراطي الوحدوي والتحرّري يستدعي صياغة بديل ايديولوجي ما. وعندما نسأل ما هو البديل الايديولوجي فالسؤال يعني:

– التأصيل المعرفي النقدي بقوميّة الخمسينيات والستينيات بدون استنساخها  أو تبخيسها.

–  تحديث الاشتراكية العربية..

– صياغة فكر مقاوم للفكر الإنهزامي الذي تجسّده أنظمة الدخول في شرطيّات السلم الإسرائيلي.

والسؤال نفسه يلقي أصحابه في ضبابية فكرية كثيفة ورخاوة ايديولوجية مطّاطة.. فالفكر البديل غير جاهز..

-مراجعات نقدية صارمة وبقراءات موضوعية لواقع التحوّلات في المنطقة والعالم هي مسألة ضرورية لبلوغ تشكّله النهائي والمتماسك..

ولكن، على ضبابية الأفكار ورخاوتها بالامكان أن نتلمّس بعض أركانه:

– الوطن العربي هو اطار سياسي وثقافي عام للشعوب العربية، يحتضن خصوصياتها ويحترم حرّية الأفراد والجماعات..

–  التخلّي النهائي عن فكرة الوحدة العربية على الطريقة البسماركية..

–  فهم العروبة انطلاقاً من شروط تكوّنها الذاتي وعناصره الذاتية.

وهذا يعني نفي العروبة/النموذج المتشكّلة في قيادة عربية ما أو في حزب عربي سياسي ما أو في دولة عربية ما أو في نظام سياسي عربي ما.. فالعروبة هي مشروع حضاري/انساني ديموقراطي ينهض به العرب جميعاً على قاعدة التصدّي للمشاريع العنصرية كافّة، وفي مقدّمها العنصرية الصهيونية..

الفكر القومي لم يسقط بالتّأكيد.. وهو بالتّأكيد ناشط في اتّجاه التعبير عن ذاته في بنية ايديولوجية جديدة أساسها الحرّيات وحقوق الإنسان.

  • الانسان العربي هو قبل الأنظمة والحكومات وحتى الدول.. والإنسان العربي حرّ بالتكوين.. والمطلوب إعطاؤه أو نيله فرصة التعبير عن ذاته بحرّية..

 

  1. إصلاح ديني فقهي وفكري

 

  • الإسلام المؤدلج، فقه المشاركة والانخراط في آليات الديموقراطية الغربية 

فقه المشاركة الديموقراطية وفق آلياتها الغربية تخطّى ثنائية الديموقراطية والشورى ( فهمي هويدي، الخطاب الاسلامي في عالم متجدّد، منشورات منتدى عبد الحميد شومان الثقافي، شباط 1998 ) (فتاوى الشيخ يوسف القرضاوي المدافعة عن الديموقراطية)

فالأصل عند أهل هذا الفقه  هو المشاركة، والشورى درجة من درجاتها، كذلك الديموقراطية.

الشورى في الاسلام هي الدرجة الأعلى أو الأكمل والديموقراطية هي درجة تمهيدية لها.

قبول المشاركة أو الانخراط في الحياة السياسية من موقع الاعتراف بمشروعية التعدّد السياسي والاقرار بوجود الآخر المختلف يعدّ تطوّراً مهمّاً في فهم خريطة الطريق الى السلطة. وهذا ما بات يعرف ب “فقه المشاركة.”

فقه المشاركة يعني تحرّر الأحزاب الدينية من حاكمية الفكر الديني وأحكام منظوره السّلفي. هنا السلطة تكتسب قوّتها من أرض الواقع البشري وليس من قانون إلهي. 

هل يوجد نظام سياسي إسلامي حاكم ومقيّد لجميع المسلمين في كلّ الأمكنة وكلّ الأزمنة؟

البيعة تغيّرت آليّتها، التولية تغيّرت طرقها، الخلافة تغيّرت أسانيدها وذلك في زمن الخلفاء الراشدين الأربعة، فكيف يكون الأمر على امتداد أربعة عشر قرناً ويزيد؟!

فقه المشاركة يفصل بين الدولة والسلطة. فالدولة دينية شرعاً والسلطة مدنية دنيوية حكماً وادارة وهي تستمدّ شرعيّتها من إرادات البشر.. والمشاركة تكون من أجل الوصول إلى السلطة والهدف الأبعد من ذلك هو إقامة الدولة الدينية. 

فقه المشاركة يردّ الأمر إلى أصحابه أي إلى الشعب. والقاعدة الفقهية في ذلك: “أنتم أعلم بأمور دنياكم.”  الديموقراطية هنا من حيث هي تظهير لإرادة الشعب وعلمه، من حيث هي منهج، تتّفق مع قواعد الاسلام.  الحكم بمفهومه الشرعي هو لله والأمر بمفهومه السياسي هو للشعب.

فقه المشاركة أو الفقه السياسي الجديد تحرّك نحو فهم الديموقراطية الغربية واعتمادها سبيلاً إلى السلطة. وهذا ما كان شأن الحركات الاسلامية في مصر والأردن وفلسطين ولبنان فتجاوزت هذه الحركات مطلبها المبدئي في القبض على السلطة كاملة وارتضت مبدأ المشاركة.

هذا المبدأ يطرح إشكالية التعددية السياسية بعد التمكين.

التعدّدية السياسية مطلوبة في مرحلة ما قبل وصولهم الى السلطة (مرحلة الدعوة)  ولكن، متى تمكّنت الأحزاب الاسلامية من الحكم (مرحلة التمكين) فهل تبقى التعدّدية السياسية أمراً مشروعاً ومعمولاً به؟

بعد انتصار الجبهة الاسلامية للانقاذ في الانتخابات الجزائرية قال أحد خطباء الجمعة ” إنّ التعدّدية السياسية ستصبح أمراً محظوراً .. ( من منشور ” الاسلام والديموقراطية “، محمّد سليم العوّا، منتدى عبد الحميد شومان الثقافي، الأردن، 1998 )

هنا يطرح سؤال إشكالي معقّد:

ماذا يحدث اذا تسلّم الاسلاميون السلطة وفق الآليات الديموقراطية؟

هل تصبح لهم قضيّة ضدّ الديموقراطية؟

هل يمنعون النظام السياسي الديموقراطي من الانزلاق إلى ممارسة الاستبداد؟

الحركات الأصولية، في نظر الأنصاري، ” استطاعت إسقاط مصداقية عدد غير قليل أيضاً من الأنظمة في البلدان العربية والاسلامية لكنّه يصعب القول انّها قدّمت نموذجاً ناجحاً مشعّاً وجاذباً للآخرين سواء على صعيد تجاربها الحزبية التنظيمية أو تجاربها السلطوية الرسمية” (الأنصاري، م.س. ص43-44 )

ثمّ يتساءل الأنصاري: ” لماذا لا يتحوّل ” الثائر ” أو ” المناضل ” العربي والمسلم – بعد انتصاره في معركة تغيير النظام – إلى رجل دولة .. ورجل مجتمع مدني .. ورجل تأسيس حضاري .. ورجل تنمية .. ورجل تقنية .. “

( المرجع نفسه ، ص44 )

ثمّة قانون تاريخي يقول: انّ السلطة تبتلع الايديولوجيا.. مرحلة التمكين تلغي مرحلة الدعوة.. مرحلة الدعوة هي مرحلة ” الانقلاب على الدولة ”  (مرحلة الايديولوجيا ، الجهاد والاستشهاد)  ومرحلة التمكين هي مرحلة “بناء الدولة ” (مرحلة السلطة وإشراك الآخر المختلف فيها)      

الإسلاميون يفرّقون بين مرحلة الدعوة (مرحلة التعدّد الايديولوجي) ومرحلة التمكين (مرحلة فرض الايديولوجيا الواحدة) 

فقه المشاركة والتعدّدية السياسية يطرح اشكالية المشروع السياسي الاسلامي والحقّ في الاختلاف بعد تمكّنه من السلطة ..

هل للديموقراطية الغربية، بوصفها آليّة من آليات فقه المشاركة، اشكالية مستعصية على الحلّ مع الاسلام؟

” ليس للديموقراطية إشكاليات مستعصية على الحلّ مع الاسلام لأنّها ليست ثقافة بديلة ولا مطمع لها في تنظيم عادات الناس وتقاليدهم ومراسم ولادتهم وزواجهم ودفنهم وطريقة أكلهم وأخلاقياتهم الاجتماعية وتصوّر مصيرهم بعد الموت..” ( منصف المرزوقي، الاستقلال الثاني، من أجل الدولة العربية الديموقراطية الحديثة، دراسات سياسية، دار الكنوز الأدبية، بيروت 1996)

ليس للديموقراطية قضيّة ضدّ الدين . والفقه الجديد ليس له قضيّة ضدّ الديموقراطية .         

حماس في فلسطين، حزب الله في لبنان، الاخوان المسلمون في مصر والأردن، وقبلهم جميعاً جبهة الانقاذ في الجزائر أنقذوا مشروعهم وشرّعوه بانخراطهم في تطبيق الآليات الديموقراطية فكراً وعملاً .. الديموقراطية هنا خدمت الدين ..

 شارك الاخوان المسلمون في الانتخابات المصرية وكان حليفهم فيها آنذاك أعرق حزب علماني في مصر هو حزب الوفد. لقد مارسوا ايمانهم الفعلي بالتعدّدية السياسية واقتناعهم بضرورة الانخراط في اللعبة الديموقراطية .

وتبقى تجربة حركة الاتجاه الاسلامي في تونس (حركة النهضة حالياً) النموذج الأرقى في عدم الانزلاق إلى وضع الدين في مواجهة الديموقراطية. راشد الغنوشي ، زعيم الحركة، يعتبر أنّ حركته ليست وصيّة على المجتمع بل هي فيه طرف سياسي/فكري يستمدّ مشروعيّته من قوّة الحجّة والاقناع. الاسلاميون التونسيون لا يقدّمون أنفسهم على أنّهم فوق المجتمع بل انّهم يعملون ضمن اطار المجتمع المدني.. أعلنوا قبولهم الصريح والواضح بالتعدّدية السياسية.. ( علي العميم : العلمانية والممانعة الاسلامية، محاولات في النهضة والحداثة ، دار الساقي ، بيروت ، ط 1 ، 1999 ص 18 …. )

الاسلام السياسي التونسي ظاهرة حديثة تنافي في كثير من منطلقاتها الفقهية ومناهج تحرّكها عن ظواهر اسلامية سابقة وهذا ما يؤكّده المفكّر المغربي سعيد بنسعيد العلوي بقوله: “القرآن يتضمّن المبادئ الشمولية الكبرى للحكم في الاسلام ..” ويعني بذلك العدل والشورى. ( علي العميم ….. ص 39 ) والقاعدة لديه العمل بالحديث النبوي الشريف: ” أنتم أعلم بأمور دنياكم.”

وعلم المسلمين بأمور دنياهم  هو القاعدة الذهبية  التي يبنى عليها أفهوم التحكيم في الاسلام. والتحكيم يعني طلب رأي الجماعة أو الأمّة في النظام الاجتماعي/السياسي الذي تريد أن تعيش في ظلّه. هنا طلب رأي الجماعة يشكّل دعوة لها للمشاركة في إدارة شؤونها. إنّ هذا المنهج التحكيمي أو الاحتكامي إلى الأمّة هو المنهج الأقرب إلى الممارسة الديموقراطية الحديثة  والشورى الملزمة في الفقه السياسي الحديث.. (ولاية الأمّة على الأمّة: الشيخ محمد مهدي شمس الدين.. الشعب مصدر السلطة: الرئيس محمّد خاتمي.) 

 

  • الفكر الديني

 

السؤال المطروح اليوم بشأن الفكر الديني هو الآتي:

هل بإمكان الفكر الديني أن يقدّم حلولاً لأزمة الحرّيات والديموقراطية في الوطن العربي أو هو أعراض للأزمة ومآزق؟

لقد بات واضحاً أنّ الاسلام السياسي المتعدد الوجوه يقود الحركات الاحتجاجية في الوطن العربي.. هذه القيادة بخطّيها الجهادي والفكري ترفدها اجتهادات دينية لتصويب خطّ التحليل المعرفي للوقائع الجديدة والتحدّيات المطروحة عليها وفي مقدّمها تحدّي الحريات والديموقراطية.

أمّا أن تقوم قيادة باسم الإسلام تستغلّ الوجدان الديني الصافي لتحقيق مآرب مشبوهة ليست من مقاصد الدين وتعليمه وسموّ أغراضه فذلك، بالطبع، هو تعقيد إضافي لأزمة الحرّيات في الوطن العربي..

حركات الإسلام السياسي تحوّلت بالفعل الى قوّة سياسية وازنة وذات شأن تقريري في غير بلد عربي.. أمّا السؤال العام الذي يطاول أحوالها في جميع البلدان فهو:

أين هي من مسألة الحرّيات وحقوق الإنسان؟

لا نريد أن نعثر على جواب في الاسلام نفسه أو في النصّ القرآني.. فنحن ندرك أنّ الاسلام هو دين التعارف والحوار والجدال بالتي هي أحسن والتواصي بالرّحمة والعدل والأخوّة وعدم الاكراه والاعتراف بالآخر..

ونحن ندرك، تالياً، أنّ النصّ القرآني يتضمّن العديد من الآيات البيّنات والشاهدة على القيم الانسانية والتعليم الأخلاقي وتهذيب المسالك.. ونحن ندرك كذلك أنّ الحديث والسيرة وما تركه لنا السّلف الصالح يشكّل نهجاً مميّزاً في احترام الحرّيات ونصرة المستضعفين وبسط العدالة والمساواة بين الناس الذين خلقتهم أمّهاتهم أحراراً.

إنّنا في الواقع نريد جواباً عن السؤال المطروح مستمدّاً من نهج الممارسات الراهنة ونمط التفكّر الديني الراهن في المسائل السياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية..

انّ سياسة العنف والعنف المضادّ تضيّع الحقائق على متتبّعيها.. وحال التداعيات والفوضى في الوطن العربي تغيّب الخطّ الفاصل بين الحركة الاسلامية التي تواجه باسم الحرّيات وبين الأنظمة السياسية التي تتعقّبها خوفاً منها على الحرّيات..

هذا في الشكل والمنهج.. أمّا في المحتوى فمن حقّ الحركة الاسلامية أن يكون لها برنامجها السياسي وأن يكون لها تصوّر خاص بشأن الدولة وفلسفة النظام السياسي ومسألة حقوق المواطنين وواجباتهم.. فذلك هو من باب المطارحات الايديولوجية أو الفكرية التي قد تحظى بتأييد الناس أو رفضهم.. والمسألة، في الواقع، ليست عند الاسلاميين الذين يرفضون فرضها بالاكراه والعنف ويسعون الى تسييرها وتيسيرها بالاقناع والجدل الديموقراطي والحوار الحرّ شأنهم في ذلك شأن جميع الايديولوجيين من ماركسيين أو قوميين أو ليبراليين.. انّما المسألة هي عند الأنظمة السياسية الحاكمة والرافضة لمبدأ التعدّدية السياسية، تعدّدية الأحزاب والحركات والتجمّعات والاتّجاهات والعقائد والأفكار والآراء وحتى الأحاسيس والأنفاس … والحركة الإسلامية، بدورها، نسأل عن مدى التزامها الحرّيات السياسية قاعدة في العمل السياسي والصراع على السلطة بالوسائل الديمقراطية.

الجواب عو أنّ الصورة مختلفة بالملموس عمّا نتمنّاه قاعدة للحكم على بنية الفكر الديني انغلاقاً أو انفتاحاً على الحرّيات.. فثمّة أنظمة تشدّد قبضتها.. وثمّة أخرى منفتحة جزئياً على الحرّيات والديموقراطية..

فهل هذا الإنفتاح الجزئي على الحريات والديموقراطية  يساعد على إصلاح الفكر الديني في اتّجاه عقلاني إجتهادي يعبّر حقيقة عن جوهر الدين الإسلامي ويبتعد به عن فقه الممارسات العنفية؟ 

 

تأمّل أخير في ديموقراطية المستقبل العربي (إستنبات الديموقراطية)

 

الفكر البراكسي كما يوصّف غرامتشي هو الفكر المراجع لمرحلة انقضت مستخلصاً من سلبها وإيجابها نوافع تأسيس لمرحلة قادمة.

إتجاه تطوّر حقلي الاجتماع والسياسة في الوطن العربي راهناً بات يقترب من حقائق العالم المعاصر لجهة تعاظم حركة النضال السياسي والاجتماعي من أجل ارساء الديموقراطية واحترام حقوق الانسان.

الوطن العربي يعيش راهناً في ذروة صراع القوى في الميادين كافة .. وقوى التغيير والتنوير والديموقراطية هي في صلب المواجهة ..

محنة الديموقراطية وحقوق الانسان في الوطن العربي سببها المجتمعات المستباحة للحكم الإستبدادي الواحدي الأحادي.. وثمّة أمل في الخروج من هذه المحنة  فثمّة من يقاتل من أجل الديموقراطية والتعددية السياسية والحقّ في الاختلاف والمواطنة وحكم القانون والعدالة ودولة المؤسسات والمجتمعات المدنية.

هذا الحكم الواحدي الأحادي لم يسع لبناء نظام سياسي حديث. والحداثة هنا نعني بها حداثة الثقافة السياسية المتحرّرة من كلاّنية أو شمولية النظام وانغلاقه في وجه التعددية السياسية والتداول الديموقراطي للسلطة.

هذا الحكم الواحدي الأحادي بدّد أدبيات الفكر الحديث في الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان والاصلاح السياسي والاجتماعي.

يقوم هذا الحكم على الفكرة الكلّانية:

يقول الدكتور عبدالإله بلقزيز في كتابه من العروبة إلى العروبة :

” .. فالتجربة القومية عجزت، في الفكر وفي الممارسة، عن ارساء المشروع القومي العربي على الفكرة الديموقراطية الحديثة. فقد جنحت الى تشييد السياسة على قوام الفكرة الكلاّنية المغلقة..”  لذلك،

واجهت التجربة القومية بدءاً من السبعينيات اشكالية الديموقراطية. هنا نسأل:

ألم يواجه المضمون التقليدي للديموقراطية بعدم قابليّة الثقافة العربية لاقتباله بحجّة أنّه مستجلب ولا يتواءم وحكم الموروث في بابه؟

التعليقات مغلقة.