ماهي الشيوعية التحررية ؟ / سعود سالم

366

سعود سالم –  الإثنين 31/7/2023 م …

كل اكتشاف ، كل تقدم ، كل زيادة ونمو في الثروة البشرية هي نتيجة عمل بدني وفكري تم إنجازه في الماضي وفي الحاضر. فبأي حق يمكن لأي شخص أن يستحوذ ولو على أصغر جزء من هذا الكل الهائل، ويقول: هذا لي ، وليس لك ؟ “
كروبوتكين ، Kropotkine, La conquête du pain, Paris, 1892

“الشيوعية – التي يجب تجنب الخلط بينها وبين” الحزب الشيوعي ” هي عقيدة اجتماعية تقوم على إلغاء الملكية الفردية وعلى تعميم كل وسائل الإنتاج وكل ما يتم إنتاجه، وتميل إلى أن تستبدل التيار أو النظام الرأسمالي بشكل من أشكال المجتمع المتكافئ والأخوي. وهناك نوعان من الشيوعية : الشيوعية السلطوية le communisme autoritaire التي تتطلب الحفاظ على الدولة والمؤسسات التي تنبثق عنها، والشيوعية التحررية le communisme libertaire التي تتطلب زوال الدولة والمؤسسات المنبثقة عنها”.

سيباستيان فور ، موضوع “الشيوعية” ، الموسوعة الأناركية ، المجلد. 1.
‏Sébastien Faure, art. “Communisme”, Encyclopédie anarchiste, vol. 1

ما هي الشيوعية التحررية ؟
لا تزال الرأسمالية تهيمن اليوم على العالم وعلى نطاق أوسع بكثير مما مضى. وطوال القرن العشرين أظهر هذا النظام الاقتصادي فشله وعدم قدرته على إزالة أوجه عدم المساواة والفقر والاستغلال، بل بالعكس من ذلك، هذا النظام اللاإنساني يتغذى من هذه الكوارث ويولدها : الحروب والمذابح والكوارث والمجاعات تتضاعف على الأرض كما لم يحدث في أي وقت سابق . سنوات عديدة من الاستعمار والاستعمار الجديد ضاعفت من سرعة نهب موارد شعوب الجنوب أو ما يسمى بالعالم الثالث وسارعت في إبادة مجموعات كاملة من السكان وقضت على العديد من الشعوب والثقافات العريقة. التنمية التكنولوجية والصناعية المسعورة كمورد للربح أدت إلى تدمير بطيء ولكن مؤكد ومستمر ولا رجعة فيه للنظام البيئي على كوكب الأرض. ويزداد اليوم في كل مكان، استغلال الالطبقة العاملة البروليتارية من قبل أقلية من الأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال في خدمة البرجوازية التي تشتري بأرخص الأثمان خدمات جيوش العمال الخاضعة لمرونة التشغيل، والمهددة بالبطالة في كل لحظة. وهدف الشيوعية التحررية او الشيوعية الأناركية هو تدمير هذا النظام الرأسمالي لأنه ليس أبديا، ولا أفضل العوالم الممكنة وليس إنسانيا، وبالعكس مما يريد إقناعنا به دعاة هذا النظام والمدافعون عنه من المثقفين والصحفيين ورجال الأعمال مهما كانت توجهاتم الرأسمالية الليبرالية.
يربط التيار الأناركي الشيوعي أو “الشيوعي الليبرتاري أو التحرري” “communiste libertaire” بين مصطلحين يبدوان للعديد كأنهما متناقضين ويلغي أحدهما الآخر، اللاسلطوية anarchisme من جهة، والشيوعية communisme من جهة أخرى. الأناركية مفهوم يحدد الحركة الليبرتارية من ناحية التنظيم السياسي والإجتماعي، وتدافع عن الحرية السياسية للأفراد والمجتمع، وتنظيم السلطة السياسية بطريقة أفقية بدون قيادة وبدون تمثيل برلماني، نوع من الديموقراطية المباشرة والتفويض الضروري mandatement impératif ، ووتدافع كذلك عن الفيدرالية ، ورفض الدولة والإنتخابات، والنضال ضد جميع أشكال الاضطهاد. أما الشيوعية communisme فتتعلق بالنظام الإقتصادي وتنظيم الإنتاج، انطلاقا من مبدأ “لكل فرد حسب احتياجاته ولكل حسب قدراته” تريد الحرية الاقتصادية بدءا من احتياجات الأفراد وإلغاء الإستغلال وتراكم الثروة. يتم سرد الاحتياجات حسب البلدية والمنطقة أوالتشاركية والجمعية، ومن هذا التعداد ، يجب بعد ذلك تنظيم الإنتاج وبدون قيود حسب قدرات واحتياجات الأطراف المعنية أفرادا أو مجموعات. إن نموذج الأناركية الشيوعية هو مجتمع مكون من اتحادات حرة من التجمعات الحرة والمساواة التامة في إتخاذ القرارات المهمة. بمعنى آخر ، شبكة واسعة النطاق من التجمعات المحلية الصغيرة حيث العضوية مجانية وغير مقيدة.
تسعى الأناركية الشيوعية، التي تسمى أيضًا الشيوعية التحررية ، والتي يمثل باكونين وكروبوتكين ممثلين رئيسيين لها ، إلى إقامة مجتمع اشتراكي قائم على المساواة التامة بين المواطنين إجتماعيا وإقتصاديا. الشيوعيون اللاسلطويون، على عكس اللاسلطويين الفردييين أتباع مدرسة Max Stirner، “يهتمون بشكل أساسي بأشكال الإنتاج ومتطلبات الحياة الجماعية”، وأيضا على عكس الشيوعيين السلطويين، فإنهم بصفتهم ليبرتاريين معادون لجميع أشكال الدولة ولأي نوع من أنواع السلطة السياسية والتراتبية الهرمية، وبالتالي يعارضون في الشكل والمضمون “الاستبداد” الماركسي اللينيني الستاليني المبني على سلطة الحزب والدولة.
لا علاقة بين الشيوعية الأناركية بأي حال من الأحوال بالشيوعية السوفيتية أو ممارسات الأحزاب الشيوعية الماركسية اللينينية أو الماوية، حيث الهدف هو خلق مجتمع قائم على المساواة والتكافل والأخوة من خلال الارتباط الحر والفيدرالية على المستوى المحلي والإقليمي والوطني والدولي، أي استبدال الدولة برابطة الاتحادات والتجمعات الحرة. وتناضل الشيوعية التحررية من أجل ثورة عالمية واجتماعية واقتصادية وثقافية، وترفض فكرة الأحزاب عموما والأحزاب التي تدعي “الطليعية” بالذات..
لذلك لا توجد مركزية اقتصادية أو سياسية كما تصورها الجماعيون الماركسيون، لأن الشيوعية اللاسلطوية تدعو إلى تنظيم حر للأفراد (النقابية ، الفيدرالية ، إلخ). هذا يعني إمكانية إقالة “الممثلين” الذين هم أعضاء في هيكل شيوعي أناركي في أية لحظة إذا لم يحققوا المهام المفوضين بتحقيقها.

الشيوعية …

تناضل من اجل مجتمع تكون فيه وسائل الإنتاج والتبادل لا تدار من قبل مالكيها “القانونيين” الحاليين ولا 
بواسطة بيروقراطيي الدولة، ولكن مباشرة من قبل الناس المعنيين بالدرجة الأولى، أي المنتجين. إدارة تنفذها تجمعات قاعدية للمجالس conseils في المصنع، في الحي، في القرية، في المدينة أو المنطقة ، والتي تتألف من أولئك الذين يعيشون ويعملون فيها رجالا ونساءا، لكي تتاح لهم الفرصة ليتوحدوا بحرية ويحددوا كمية ونوعية الإنتاج وكيفية استخدامه. المجتمع الذي سيكون فيه المبدأ الأساسي ” من كل واحد وفقا لإمكانياته ولكل واحد وفقا لاحتياجاته “: مجتمع شيوعي اقتصاديا بدون طبقات وبدون دولة وبدون ملكية خاصة لوسائل الإنتاج. أما الأحزاب والنقابات فإنها لا يمكنها إدارة هذا الشكل الجديد من أشكال تنظيم الإنتاج والتوزيع، ولكنها فقط يمكن أن تبقى كمصدر للاقتراحات. في هذه الهياكل الجديدة ، كل الأشكال الدائمة لتفويض السلطة للحزب أو للبرلمان أو لهياكل الدولة ومؤسساتها بدون مهمة محددة ودقيقة وبدون إمكانية إلغاء هذا التفويض وفي أية لحظة ، ستترك جانبا لإفساح المجال للتنظيم الذاتي للبروليتاريين. أما وسائل تطبيق التحررية الشيوعية فإنها ليست محددة مسبقا : فهي تعتمد على الأوضاع العامة والخاصة، وعلى الأشكال المحلية للثقافة، والفرص المتاحة والرغبات. ومع ذلك ، فإن التحررية الشيوعية ليست يوتوبيا غامضة أو مبهمة. فتاريخ الانتفاضات والمحاولات العديدة للثورة يعج بأمثلة للتطبيق الفعلي للمشروع الأناركي الثوري، متكيفا مع الأوضاع والمواقف الخصوصية لكل فترة ولكل مكان : كميونة باريس 1871، السوفييت في روسيا سنة 1917 ، والتمرد الماكنوفيستي makhnoviste في أوكرانيا من 1918 حتى 1921 ، الشيوعية الجماعية collectivisation في أسبانيا 1936 ، ومجالس العمال les conseils ouvriers في المجر عام 1956 ، الخ. إن المشروع الشيوعي التحرري هو نقيض لشيوعية الدولة التي سادت الدول الشرقية، والتي تهاوت أخيرا ولا يسعنا إلا أن نبتهج لهذا الانهيار! ذلك أنه أكثر من ثمانين عاما ، لم يكف التيار التحرري من التنديد بهذه الدول المسماة شيوعية باعتبارها دكتاتوريات دموية تمارس رأسمالية الدولة ، مستعاضة عن الشكل التقليدي للملكية الخاصة بهيمنة طبقة بيروقراطية تدير الإنتاج والتبادل لحسابها. أما النموذج الاشتراكي الديمقراطي ، الذي يهدف إلى تحقيق الاشتراكية من خلال سلسلة من الإصلاحات والاستيلاء على سلطة الدولة عن طريق الانتخابات ، فإنه اصطدم بالقوة الطاغية للنموذج الرأسمالي والذي يمارس تارة لعبة القمع وتارة أخرى مناورات الدمج والاحتواء. فمنذ زمن بعيد، تخلى “الاشتراكيون” عن الكفاح من أجل مجتمع المساواة، الخالي من الاستغلال.

الأناركية

لكن الاضطهاد الذي تناضل الأناركية لإزالته لا يقتصر على المجال الاقتصادي وحده، لأنه يلمس جميع العلاقات المرتبطة بالسلطة. الأناركيون يريدون مجتمعا تحرريا من الناحية السياسية أيضا، بدون هيمنة أو تسلط من أي نوع. يحاربون كل أنواع التوحيد والتنميط (طرق الحياة، والثقافة، والإنتاج والاستهلاك) والتي يفرضها التطور الرأسمالي. ويناضلون من أجل إقامة علاقات جديدة بين الرجال والنساء ، حتى نتخلص نهائيا من إعلاء قيمة الذكورة والفحولة من ناحية، والوداعة والخضوع من ناحية أخري. لأن أي مجتمع من دون طبقات لا يؤدي بالضرورة إلى القضاء على النظام الأبوي patriarcat ( نظام هيمنة الرجال على النساء) : هذا النظام يستحق لوحده نضالا خاصا به لأنه يخترق ويتواجد في جميع الطبقات الاجتماعية ويسبق وجوده الرأسمالية. النضال ضد النظام الأبوي هو الكفاح من أجل تفكيك مقولة الجنس المذكر والمؤنث التي أنشئت وفرضت على جميع المجتمعات الموجودة سابقا. إن استعادة الهوية الشخصية، هو رفض الاندماج في قالب اجتماعي يتحدد بنوع الجنس، ورفض المعايير الحالية ( حصر العلاقات الجنسية مع الجنس الآخر فقط hétérosexualité، الزوجة الواحدة أو الزوج الواحد monogamie…) لتكون رموز لحياة الأفراد. الإنسان يريد أن يعيش بحرية وبدون قيود على جسده ورغباته وعلاقاته العاطفية والإجتماعية. نحن لم نعد نريد هذا المجتمع الذي يكون فيه العمل، ليس نشاطا إنسانيا تشاركيا تحدد فيه الاحتياجات بحرية، وإنما عبودية مأجورة موجهة لإنتاج أي شيء يباع ويكفل للرأسماليين تحقيق الأرباح. ونحن بحاجة ملحة إلى تحطيم أسس “المعتقدات القديمة” التي هي ضرورة التنمية ، والإنتاجية ، وأولوية “الاقتصاد” على النشاطات الإنسانية الأخرى. فالعديد من التيارات الاشتراكية ربطت إمكانية الشيوعية بتحقيق الوفرة والبحبوحة. ولكن أيدلوجية النمو المضطرد الاقتصادي والديمغرافي ، هو سباق خاسر سلفا ، أنها لا تفعل إلا تعزيز عدم المساواة بين الناس ، وتخفيض نوعية الحياة ، فكوكبنا الأرضي لا يمكنه أن يسمح لكل سكان العالم بلوغ أنماط الاستهلاك التي تتمتع به الطبقات العليا في البلدان الغنية. البدائل المحلية لأنماط الاستهلاك والإنتاج والتي تحاول في جميع الأنحاء أن تجد مكانها وتتموضع يبدو أنها تشير إلى الحاجة إلى إعادة تملك الفضاء الجماعي لحياتنا الذي يتقلص بشكل متسارع بواسطة دعاة المزيد من الإنتاج، حتى لو كانت هذه البدائل لا تزال محدودة في إمكانيتها وقدرتها على التغييرالحقيقي للحياة ، نظرا لغياب نضال شامل وكلي ضد النظام، ولعدم وجود مشروع سياسي. ولأن المشروع السياسي الشيوعي الأناركي مبني تاريخيا في قلب الحركات الاجتماعية والثورات والمحاولات العديدة لإنشاء علاقات اجتماعية قائمة على المساواة، ففي وسط هذه الحركات يجب مواصلة النضال، بما في ذلك ضد بعض جوانبها التي تسعى لتكرار النظام القديم (أو خلق نظام جديد) للهيمنة. إنه في عمق التناقضات والصراعات المعاصرة للمجتمع ، تغوص جذور شكل أخرمن أشكال التنظيم الاجتماعي والذي تنبثق أحيانا بوادره تلقائيا في بعض المواقف الحاسمة.ونعتقد بأنه عندما يكون الناس “في حراك” ،و في قطيعة ولو جزئية مع النظام ، فإنهم في هذه اللحظات الحاسمة يكونون حاملين للأفكار والممارسات الأكثر تناسبا مع تطلعات الجماهير..

“يجب أن يتشكل التنظيم الاجتماعي المستقبلي فقط من أسفل إلى أعلى ، من خلال التجمع الحر واتحاد العمال ، في الاتحادات أولاً ، ثم في الكومونات ، وفي المناطق ، وفي الأمم ، وأخيراً في اتحاد أممي كبير. والاتحاد العالمي “.
‏Bakounine, Œuvres, t. IV, p. 264.

التعليقات مغلقة.