التضخم… واقعٌ، خططٌ وقيادات / غازي أبو نحل
غازي أبو نحل* – الجمعة 30/9/2022 م …
* رئيس مجلس إدارة مجموعة شركات: Nest Investments (Holdings) L.T.D
والرئيس الفخري لرابطة مراكز التجارة العالمية …
تلقى اثرياء العالم ضربة قوية خلال الشهرين الماضيين، عقب تقارير التضخم الذي اجتاح الولايات المتحدة ومعظم الدول الاوروبية والعالمية، وتسبب بزلزال كبير في الاسواق، بعد ان اظهرت بيانات رسمية غير متوقعة، ارتفاعاً في نسب التضخم، مما دفع بالفيدرالي الاميركي مجدداً الى رفع اسعار الفائدة بـ0.75 نقطة مئوية، بعد رفع مماثل اتخذه المصرف المركزي الأوروبي.
اسواق الاسهم الاميركية مُنيت باسوأ خسائر تتكبدها في يوم واحد منذ اکثر من عامين، حیث لم تشهد هزة بهذا الحجم ولا هبوطاً بهذه المستويات منذ شهر حزيران/ يونيو2020، مما ادى الى ان يتكبد أثرى الاثرياء في الولايات المتحدة واوروبا خسائر بالمليارات، وتتراجع ثرواتهم بشکل کبیر متأثرين بخسائر الاسواق، وبحسب تقرير نشرته وكالة بلومبرغ الأميركية، فقد انخفضت ثروات اغنی الملیارديرات خلال يوم واحد بمقدار ۹۳ مليار دولار، وتراجعت ثروات مارك زوکربیرغ ولادي بيدج وسيرجي برين وستیف بالمر باکثر من 4 مليارات دولار لكل منهم، بينما خسر وارن بافیت 3.4 ملیار دولار وتكبد بیل غيتس خسائر بنحو 2.8 ملیار دولار. وبشكل عام تراجعت ثروة 500 شخص في العالم بنحو 1.2 تریلیون دولار عما كانت عليه بداية العام الحالي.
انه التضخم أيها السادة!
منذ أن بدأت جائحة كوفيد_19 وبدأت معها سياسات التحفيز المالي المتخذ من قبل حكومات عدة، كتبنا محذرين من موجة تضخم ستضرب اقتصادات العالم. وها هي كبريات الاقتصادات في مواجهة اعتى موجة تضخم تضربها بعنف.
يحدث نشوء التضخم عادة عندما يرفع مقدمو السلع والخدمات اسعارهم بسبب زيادة الطلب الكلي المتجسّد في الطلب على جميع السلع والخدمات في الاقتصاد، كما هو راسخ في ادبيات علم الاقتصاد عندما يزداد اجمالي الطلب الكلي مقارنة بالعرض الكلي، وهو عرض جميع السلع والخدمات في الاقتصاد، تزداد الاسعار كلما زادت الزيادة في الطلب الكلي بالنسبة للعرض الكليّ زاد معدل التضخم.
العوامل التي تؤثر في اجمالي الطلب معقدة، لكن دور النقود مهم وقد درس الاقتصاديون دور متغيرات النقود كأسباب للتضخم، وخاصة عرض النقود وسرعتها. نمو النقود هو سبب رئيسي للتضخم وضروري لكنه غير كافٍ لاحداث التضخم. يجب ايضاً مراعاة سرعة النقود، حيث لا يمكن أن يكون هناك تضخم ما لم يتم انفاق النقود.
هناك العديد من النظريات والتفاصيل في هذا الشأن. المؤكد ان رفع سعر الفائدة يقلّص عرض النقد وبالتالي ينخفض التضخم، ولكن رفع سعر الفائدة يقلص الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي وبالتالي يرفع التضخم، هذه العلاقة مهمة لمعرفة اثر رفع سعر الفائدة في التضخم، وتحتاج البنوك المركزية الى تحقيق التوازنات بين الاثر في عرض النقد والاثر في الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي، لتحقيق هدف التضخم الذي يحدده البنك المركزي في كل بلد.
استمر «التضخم الكبير» في الولايات المتحدة الاميركية نحو عقدين من الزمن (من 1965 إلى 1982). وقد أدى التضخم الكبير إلى قيام الاقتصاديين بإعادة التفكير في سياسات الاحتياطي الفيدرالي والبنوك المركزية الأخرى. في هذه الفترة، وتحديداً في شهر آب/ أغسطس 1971، تم التخلي عن النظام النقدي العالمي الذي تم إنشاؤه بنهاية الحرب العالمية الثانية، وكان هناك أربع حالات ركود اقتصادي، ونقص حاد في الطاقة، وتنفيذ غير مسبوق في وقت السلم لضوابط الأجور والأسعار. في عام 1964، بلغ معدل التضخم أكثر بقليل من 1٪ في السنة. لقد كان قريباً من هذا المستوى على مدى السنوات الست السابقة. بدأ التضخم في الارتفاع في منتصف الستينات ووصل إلى أكثر من 14 في المائة في عام 1980. وانخفض في النهاية إلى متوسط 3.5 في المائة فقط في النصف الأخير من الثمانينات.
كان مصدر التضخم الكبير هو السياسة النقدية التي سمحت بنمو مفرط في عرض النقود (سياسات الاحتياطي الفيدرالي). يذكر أن الكونجرس الامريكي حوّل انتباهه إلى السياسات التي كان يأمل في أن تعزز الاستقرار الاقتصادي. كان من أبرز القوانين التي ظهرت قانون التوظيف الكامل لعام 1946. ومن بين أمور أخرى، أعلن القانون أنه من مسؤولية الحكومة الفيدرالية «تعزيز الحد الأقصى من العمالة والإنتاج والقوة الشرائية»، ونص على قدر أكبر من التنسيق بين السياسات المالية والنقدية. ويعتبر قانون التوظيف هو الأساس للتفويض المزدوج الحالي للاحتياطي الفيدرالي المتمثل في «الحفاظ على نمو طويل المدى للمجاميع النقدية والائتمانية من أجل الترويج الفعال لأهداف الحد الأقصى من العمالة والأسعار المستقرة ومعدلات الفائدة طويلة الأجل المعتدلة».
في سبعينات القرن العشرين، في عهد الرئيس الامريكي جيرالد فورد، ارتفعت نسبة التضخم إلى مستويات مقلقة في ظل ركود اقتصادي حيَّر الاقتصاديين والسياسيين بمعالجتها. الاقتصادي الامريكي بول ساملسون أطلق تعبير «Stagflation» المكون من كلمتي «Stagnation» و«Inflation» أي الركود المصحوب بالتضخم. الرئيس جيرالد فورد تبنى حملة شعبيه عنوانها كلمة WIN (فائز) المكونة من الحرف الاول من كلماتWIP Inflation Now أي اضرب التضخم الان.
كانت بداية البرنامج سريعة. قال راسل فريبورغ، منسق البرنامج في البيت الأبيض، إن طاقمه الصغير أصيب بفيض من استفسارات المواطنين. وقال لصحيفة نيويورك ديلي نيوز إن الشركة كانت تتعامل مع «1000 مكالمة هاتفية في اليوم وأكثر من 200000 رسالة موجهة إلى شركة فورد». بدأت أزرار WIN في الظهور في جميع أنحاء البلاد. وكان محور حملة فائز يرتكز على استجابة الناس إلى دعوة الرئيس فورد لتقليص مشترياتهم لتقليص الطلب الاستهلاكي. استجاب الرئيس فورد للتحدي الاقتصادي في خطاب ألقاه أمام الكونجرس يوم 8 أكتوبر 1974، واقترح خطة اقتصادية لمكافحة التضخم والبطالة المتزايدة تحمل كلمة واحدة «فوز». قال الرئيس: رفاقي الأمريكيون.. إن الفوز في معركتنا ضد التضخم والهدر ينطوي على تعبئة كاملة لأعظم موارد أمريكا – العقول والمهارات وقوة الإرادة للشعب الأمريكي – إليك ما يجب أن نفعله، ما يمكن لكل فرد منكم فعله للمساعدة في زيادة الطعام وخفض الأسعار، قم بزيادة النمو وتقليل الهدر.. للمساعدة في توفير الوقود الشحيح في أزمة الطاقة، قم بقيادة أقل وتسخين أقل. خطة الرئيس فورد نجحت وتمكنت الولايات المتحدة بعدها من ضبط معدلات التضخم.
تجربة الرئيس الاسبق جيرالد فورد يبدو انها لن تتكرّر في مواجهة معدلات التضخّم الحالية في الولايات المتحدة، لكن محاولة جدية قيد التجربة حالياً. اذ أقر مجلس الشيوخ الأمريكي يوم الأحد 7 آب/ أغسطس 2022، قانون خفض التضخم، بميزانية ضخمة 430 مليار دولار، إنما بصعوبة بالغة، حيث تعادلت أصوات المؤيدين الحزب الديمقراطي، مع أصوات المعترضين من الحزب الجمهوري على القانون بواقع 50 صوتاً لكل حزب، ورجح صوت نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس، تمرير القانون الذي عرض وتم التصويت عليه في مجلس النواب الجمعة 12 أغسطس، بهامش 220-207، حيث أيده جميع الديمقراطيين وعارضه كل الجمهوريين.
معظم مواد القانون مكرسة لخطة إخراج الاقتصاد الأمريكي من مأزقه التطوري عبر حزم مالية موجهة لإطلاق ورشة إعادة إعمار وتحديث البنية التحتية المتقادمة بمقاربات قائمة على الطاقات المتجددة، وتدابير لتشجيع المرافق والشركات والأفراد على المشاركة في خطة التحول الطاقوي، وتوفير حماية جزئية للسكان من تغول شركات إنتاج الأدوية وشركات التأمين الصحي وقطاع الصحة الخاص. حيث يعتقد مهندسو الخطة، بأنها ستحقق الهدف الذي ينتظره الديمقراطيون ومعظم مؤسسات الحكم في واشنطن التي يحكمون قبضتهم عليها.
تشتمل الخطة على ما يدعو إليه دائماً اقتصاديو المدرسة الكينزية الجديدة في أمريكا، ومنهم الفائزان بنوبل، جوزيف ستيغليتز وبول كروغمان، وهو التدخل الحكومي لضبط السوق عبر دالة الأسعار، وتحديداً فيما خص أسعار الأدوية التي ظلت ترتفع على مدى السنوات الماضية بشكل كبير، وفقاً لمؤسسة Kaiser Family Foundation ويأمل الديمقراطيون ومناصروهم في وسائط الإعلام السائد، مثل واشنطن بوست، أن يسهم قانون خفض التضخم في الحد من تكاليف الأدوية لكبار السن، ويجبر شركات الأدوية على دفع خصم في حال رفعت الأسعار بشكل أسرع من معدل التضخم، وتوفر لقاحات مجانية لكبار السن.
إنه إذن التدخل الحكومي Government intervention الذي يشكل أساس نظرية عالِم الاقتصاد البريطاني جون مينارد كينز، والذي لطالما دعا إليه أنصاره من الكينزيين والكينزيين الجدد في أمريكا خصوصاً، من خلال تقوية وتفعيل نشاط ودور أجهزة الدولة المعنية كمنظم للاقتصاد، باعتباره ضمانة لإحداث التوازن ومنع الاختلالات في السوق. والمثير أن هذا النوع من التدخل الحكومي المنصوص عليه في قانون خفض التضخم، يعترف ضمنياً بأن الشركات يمكنها الاستمرار بكل سلاسة في تصنيع الأدوية وتحمل كلفة «تصنيع التضخم في المنبع»، حتى عندما تواجه ضوابط على أرباحها المفرطة. وهذا يعني أنه إذا كانت الأسعار ترتفع، فبوسع المنظّم أن يمنع أولئك الذين يحددون الأسعار من القيام برفعها. وإذا كان بالإمكان تطبيق مثل هذا الشيء على أسعار الأدوية، كما يُفهم من نصوص قانون خفض التضخم، فهذا يعني أنه بالإمكان تطبيق نفس التدابير على سلع الغذاء والغاز وغيرهما من الأساسيات.
بعد الفيدرالي الاميركي، تسعى الحكومة الى خطط تهدف الى الحد من التضخم وكبح جماحه والحؤول دون تأثيراته السلبية على الاقتصاد… فهل تنجح؟
العالم بعد جائحة كوفيد-19، بات متعدد الازمات: ديون، فقر، تضخم… وصولاً الى الحروب والانقسامات، انه في حاجة الى قادة يرسمون خططاً للانقاذ وينجحون.
التعليقات مغلقة.