كي لا ننسى من ضحّوا بحياتهم من أجل الكرامة العربية … المناضل الوطني المصري ” سعد إدريس حلاوة ” .. الذي استشهد واقفا كالطود في وجه الخائن السادات
مدارات عربية – الجمعة 25/6/2021 م …
وكأنه قدرنا الذي لا مفر منه، طالما تهمة الجنون جاهزةٌ تلاحق كل هؤلاء الذين يجاهرون بالتغريد في أوقات الجهامة، وما أطولها في ليل العروبة المُهانة.
يقذفون بكل ما في أيديهم من حصًى في وجوه الطغاة والمغتصبين، علّها تخمش وجوههم الملعونة، ولا يحصدون إلا التصفية أو سنوات السجن والنسيان، وقد قال أحدهم قديماً “عقل الثورة هو جنون الثوار”، لكنه لم يكمل كيف يكون الحال حين يصبح مصير الثورة هو النكران؟
وما “سعد إدريس حلاوة” إلا أحد زعماء الجنون النبيل، وعلى الرغم من رحيله هو ومن سبقوه على الطريق، إلا أن نسلهم لا يتوقف. وها هو اليوم، وفي اتجاه مقاومة المعتدي الغاشم الصهيوني، يواجه بكل ما أوتي من حلمٍ وصبر وغضب محاولات انتزاع القدس.
فما أشبه اليوم بالبارحة، وما نملك غير الكتابة عنهم والتذكرة بهم، والوجع.
يصبح هجيراً ولو كان شتاءً جميلاً
لم يكن يوم الثلاثاء في السادس والعشرين من شباط/ فبراير عام 1980 يوماً عادياً كسائر الأيام، تشرق شمسه ثم تغيب بغير أن يحفل به أحد. أراد أن يسجل أثره في تاريخنا الحزين كجرح ممتد بطول الوطن وعرضه.
في ذلك اليوم، سعى “إلياهو بن أليسار” على أرض مصر لتقديم أوراق اعتماده إلى الرئيس السادات كأول سفير لإسرائيل في القاهرة. اللحظة جاءت كنهاية حتمية منذ أن وقف السادات في مجلس الشعب معلناً أنه على استعداد أن يذهب إلى آخر العالم.. إلى الكنيست ذاته! خطوته الدرامية أذهلت العالم، وتلقفتها إسرائيل بمزيج من الحذر والدهشة. ذهب السادات إلى إسرائيل متّسقاً مع ذاته التي سعت إلى هذا الصلح منذ بواكير فترة حكمه. سعى إليه بمغازلة أمريكا، حتى وهو يتوسد أعلى درجات انتصاره. كان يظن أن إسرائيل سوف تذهلها الصدمة بزيارته، فيتم بطرفة عين حل جميع القضايا المعلّقة، بما فيها القضية الفلسطينية. لم تفعل إسرائيل. خططت لما كانت تسعى إليه دوماً: أن تضع مصر في ذلك الصندوق المحكم الغلق، ثم تعزلها تماماً عن محيطها العربي والإقليمي في مقابل عودة سيناء – والتي هي أرض مصرية بالأساس – من خلال مفاوضات بدت متراخية وغير محترفة من الجانب المصري، وشرسة وغير ودية كما كان يأمل “رجل السلام” من الجانب الإسرائيلي.
حضر إلياهو بن أليسار إلى القاهرة بابتسامته المزهوة، وهو يصافح رئيس أكبر دولة عربية كي يدشن ذلك الطريق الطويل الذي بدأ بـ”كامب ديفيد” وسوف يَعرف بعدها اتفاقات “وادي عربة” و”أوسلو” ويصل في محطة غير نهائية إلى التفريط بجزيرتي تيران وصنافير… قبل أن يحكم الخليج مجموعةٌ من الأمراء الجدد، الذين لا يجدون أدنى حرج في التعامل والتنسيق المباشر مع إسرائيل، باعتبارها جاراً طبيعياً مأمون الجانب، ربما أكثر بكثير من جيرانها العرب. فكأنها متلازمة ستوكهولم: سقط العرب في أسر خاطفيهم .
السادات يصافح إلياهو بوجه يحاول أن يبدو صارماً. الصحف تحاول أن تسوّق الخبر للمصريين بأقل قدر من الاستفزاز. في الوقت الذي قرر “سعد إدريس حلاوة” أن يقول كلمته .
يحيا سعد ولو أردوه قتيلاً
سعد مصري عادي ولد في عام 1947 لأسرة من الفلاحين في قرية أجهور الكبرى التابعة لمحافظة القليوبية. حصل على بكالوريوس الزراعة، ثم عمل بعدها في الجمعية الزراعية بالقرية، وكان أيضاً يرعى مجموعة أفدنة زراعية لأسرته. كل من عرفه يقول إنه كان شخصاً هادئاً تماماً، ومثقفاً لا يكف عن القراءة. ثم تبدو كل المعلومات عن سعد بعدها غائمةً وغير مكتملة.
خرج سعد من بيته ذلك الصباح بعد أن قرأ الصحف، وقرر كل شيء. جهز حقيبته. استقل “موتوسيكلاً” يقوده “سليمان عبد العزيز عبد المؤمن” ثم توجه رأساً إلى الوحدة المحلية للقرية. اجتاز بابها بشكل طبيعي للغاية، وهو يحمل حقيبته الضخمة. في الداخل كان هناك سبعة موظفين. ربما كانوا قد قرؤوا صحف الصباح أيضاً في ذلك اليوم، وربما كانوا يدركون بشكل غامض تداعيات ما يحدث في القصر الجمهوري في تلك اللحظة، وربما كان الأمر لا يعنيهم بالمرة .
وقف سعد في وسط الحجرة التي تضم الموظفين، ثم أخرج بندقيةً رشاشة، وأشهرها في وجوه الموظفين قائلاً بهدوء، ومن خلال ابتسامة حاول أن تبدو واثقة: “أنتم مخطوفون”. ثم أردف بسرعة: “لن يصيبكم أي أذًى، أنتم أخوتي، وأنا أعرفكم جميعاً وتعرفونني. لن يمسكم أي ضرر. أعدكم بذلك. فقط أريد أن تصل رسالتي اليوم إلى أنور السادات شخصياً. يجب أن يعرف أن هناك من يرفض ما فعله. يجب ألا يمر ما يحدث الآن في القصر الجمهوري مرور الكرام، وكأنه حدثٌ عابر تطويه الأيام. أرجو أن تسامحونني، فرسالتي لن تصل إلى القصر من هذه القرية الصغيرة إلا بهذه الطريقة.
أنهى كلمته القصيرة، ثم شرع في إخراج محتويات حقيبته: مكبر صوت. مسجل صغير. بعض الساندوتشات التي وضعها أمام المخطوفين .
قام سعد بفتح شباك الوحدة المحلية، ثم أعلن من خلال مكبر الصوت عن بيانه الأول. أخبر القرية، وعلى رأسها عمدتها “نور حلاوة”، عمُّ سعد شخصياً برسالته: أن الموظفين في الوحدة المحلية مخطوفون لحين طرد السفير الإسرائيلي من مصر. خَيّر السادات في عبارة قصيرة بين الحفاظ على أرواح الرهائن، أو طرد السفير الإسرائيلي في الحال. أنهى سعد بيانه الذي سمعه الجميع، ثم قام بتشغيل بعض أغنيات عبد الحليم حافظ الوطنية من خلال مكبر الصوت، وعاد إلى رهائنه كي يطمئنهم بعد أن استبد بهم الذعر. عرف الخبر طريقه بسرعة، كان أول من تلقفه هو العمدة الذي هرول إلى مقر الوحدة المحلية مستعطفاً سعد أن يراجع قراره، ولكن سعد أخبره أن الأمر لا يخصه، وأن عليه إبلاغ الجهات المسؤولة باعتباره رجل الإدارة في القرية. هاتف العمدة مأمور المركز على الفور، الذي قام بدوره بإبلاغ مدير الأمن، والذي شعر أن تلك القضية لها حساسيتها الخاصة، فقام بإبلاغ السيد نبوي إسماعيل وزير الداخلية شخصياً الذي أسقط في يده، وهو يعلم أن حدثاً كهذا على صغره يمكن أن يعكر الأجواء السياسية التي سعى إليها السادات على مدى شهور طويلة، وجاءت لحظة تتويجها أخيراً. فلم يجد بدّاً من إبلاغ السادات شخصياً بالأمر كي يتلقى أمراً مباشراً بطريقة التصرف.
يأتيك القناص حين تكون وحيداً
تلقى السادات الخبر بغضب عارم كما يليق بصاحب العرس الذي وجد متطفلاً يقتحم عليه عرسه ويفسد فرحته. أصدر أوامره الفورية لوزير الداخلية بسرعة التصرف قبل أن يتفاقم الأمر، ثم أغلق الهاتف بسرعة.
ولأن الأوامر جاءت من رأس الدولة، فكان على وزير الداخلية شخصياً أن ينتقل بنفسه إلى القرية، للإشراف على إسكات ذلك الصوت الذي بدا وكأنه يعزف لحناً جنائزياً مغايراً.
أصدر النبوي إسماعيل أوامره بإحضار أم سعد من منزلها، فحضرت مرتجفةً وباكية، وهي ترى تلك الحشود الغليظة من “الحكومة”. أمسكت الميكروفون، وهي تستحث سعد باكيةً أن يتراجع عما يفعله، ولكنه أخبرها أنهم سوف يقتلونه على أي حال. واستعطفها أن تكف عن البكاء، وتدعو له، وتعلم أنه يحب هذا الوطن كما لم يحبه حكامه، وأنه يريد أن تصل رسالته كصرخة في أذن الحاكم، أو وصمة على جبينه .
في الداخل، كان الأسرى قد توحدوا تماماً مع سعد. كان ثمة متلازمة ستوكهولم أخرى، ولكنها التوحد مع الخاطف النبيل، الشعور الجارف أنهم أرادوا أن يقولوا ما يقول، ولكنهم عجزوا .
كان النبوي إسماعيل يدرك أهمية عنصر الوقت في حسم المسألة، ويدرك أن كرامته أصبحت على المحك، بل ومنصبه ذاته، وهو أهم من كرامته بطبيعة الحال!
كانت زخات الرصاص الأولى التي خرجت من رشاشات الجنود كافيةً لأن تصيب كل الواقفين بالهلع. انبطح كل الموجودين بالوحدة المحلية أرضاً. توقفت الزخات بينما أشار العمدة نور حلاوة إشارةً خفية لأحد الضباط أنه يرى سعد من خلال خصاص النافذة، فأشار الضابط إلى أحد القناصين الذي سارع بإطلاق رصاصة واحدة كانت كافية أن يسقط “سعد إدريس حلاوة ” قتيلاً، بينما لم يصب أيٌّ من المخطوفين بأي ضرر.
سقط سعد بعد أن قال كلمته العاجلة والملحة، وهو يعلم أن ثمنها لن يكون أقل من حياته. فهل كان سعد إدريس مجنوناً حقاً كما تبارت جميع التقارير الطبية في إعلانه؟
***
رثاه “نزار قباني”، فقال: مجنون واحد فقط خرج من هذه الأمة العربية الكبيرة العقل المتنحسة الجلد الباردة الدم، العاطلة عن العمل.. فاستحق العلامة الكاملة.. في حين أخذنا كلنا صفراً كبيراً. مجنون واحد تفوق علينا جميعاً، واستحق مرتبة الشرف في ممارسة الثورة التطبيقية، في حين بقينا نحن في نطاق التجريد والتنظير.
جمجمة مصرية كانت بحجم الكبرياء، وحجم الكرة الأرضية.. أنه خنجر سليمان الحلبي المسافر في رئتي الجنرال كليبر..
هو كلام مصر الممنوعة من الكلام.
وصحافة مصر التي لا تصدر.
وكتّاب مصر الذين لا يكتبون.
وطلاب مصر الذين لا يتظاهرون.
ودموع مصر الممنوعة من الانحدار.
وأحزانها الممنوعة من الانفجار.
التعليقات مغلقة.