د. أمين محمود يكتب: صندوق استكشاف فلسطين

562

د. امين محمود* ( الأردن ) – الإثنين 13/7/2020 م …
* وزير أردني أسبق …

كان لصندوق استكشاف فلسطين Palestine Exploration Fund الدور الأكبر في تقديم صورة تفصيلية واضحة عن فلسطين واثارة مزيد من الاهتمام بالاستيطان اليهودي فيها . وقد انشىء هذا الصندوق في لندن عام ١٨٦٥ برعاية الملكة فيكتوريا ورئاسة رئيس أساقفة كانتربري، ولعب الصندوق دورًا هامًا في تزويد الساسة والعسكريين البريطانيين بالمعلومات الجغرافية والتاريخية والسياسية التي كانوا يحتاجونها لمد نفوذهم الاستعماري على المنطقة، ففلسطين منذ أواسط القرن التاسع عشر بدأت تشغل حيزًا هامًا في سياسة التوسع البريطاني بعد ان تبين ان هنالك قوى أخرى كانت تطمع في استعمارها كفرنسا وروسيا ، لا سيما بعد ان وقعت في قبضة محمد علي فترة من الزمن قاربت على عشر سنوات . وإذا كان لبالمرستون ودزراىيلي وغيرهما من الساسة والعسكريين البريطانيين أي فضل في إبراز مشروع توطين اليهود في فلسطين فلا شك ان فضلا اكبر يعود إلى صندوق استكشاف فلسطين الذي أمد المستعمرين البريطانيين بالدراسة التفصيلية لجدوى المشروع وأهميته معتمدًا في ذلك على العديد من خبراء الآثار والتاريخ والجغرافيا والجيولوجيا والمناخ . وبالرغم من ان القائمين على أمور الصندوق كانوا يصرون على ان منطلقاتهم طابعها ديني علمي ، الا انه اصبح واضحا فيما بعد ان نشاطاتهم تجاوزت تلك المنطلقات وأخذوا يلعبون دورًا رئيسًا في المجالين الاستعماري البريطاني والاستيطاني اليهودي.

ويتضح هذا فيما لو القينا نظرة سريعة على طبيعة عمل الأشخاص الذين اشرفوا على عملية التنقيبات والاكتشافات، حيث نجد ان غالبيتهم كانوا من العسكريين الإنجليز ومن سلاح الهندسة الملكي بالذات . وكان من ابرزهم الكابتن كوندر Cpt. Condor والكابتن وارين Cpt. Warren والكابتن ويلسون Cpt. Wilson والكابتن نيوكومب Cpt. Newcombe ورجل الاستخبارات المعروف لورانس T. E. Lawrence واللورد كتشنر Lord Kitchener الذي عين فما بعد معتمدا بريطانيا في مصر ( اسعد رزوق ، اسرائيل الكبرى ،ص٤٢ ) .

وكانت غالبية التقارير والدراسات الصادرة عن الصندوق تشير باستمرار إلى أهمية فلسطين وضرورة “عودة ” اليهود اليها ، وإقامة كيان استيطاني لهم فيها تحت الحماية البريطانية . وقد نشر الكابتن وارين عدة مجلدات كان أهمها احياء القدس Recovery of Jerusalem ومذكرات عملية مسح فلسطين الغربية Memoirs of the Survey of Palestine بالإضافة إلى كتاب ارض الميعاد The Land of Promise (علمًا ان التعبير الدارج هو The Promised Land ) الذي نشره عام ١٨٧٥ ودعًا فيه إلى تولي شركة الهند الشرقية تنمية موارد فلسطين وخاصة مواردها الزراعية والتجارية وتدريب المستوطنين اليهود على إدارة شؤونهم تمهيدًا لتسلمهم حكم فلسطين وإدارة شؤونها ( خيرية قاسمية ، نشاطات صندوق استكشاف فلسطين ، ص ٩٣ ) .كما ان أعماله كانت تشجع عملية الاستيطان اليهودي بتقديم صورة مغرية ومفصلة عن فلسطين.

وشارك الكابتن ويلسون في عدة عمليات بحث وتنقيب في بعض المناطق السورية واللبنانية ، ولكنها تركزت في النهاية على مرج ابن عامر والقدس ونابلس والخليل، وكان ويلسون يحاول الوصول إلى هذه المناطق. ولا سيما الأماكن التي شهدت تنقلات واستقرار “شعب اسرائيل” كما ورد في تقريره “التاريخ التوراتي” المقدم للصندوق . وقد ذهب ويلسون فيما بعد إلى السودان ضمن الحملة البريطانية التي أرسلت لإنقاذ غوردن باشا .

ومما يسترعي الانتباه الذي قدمه كوندر حول عملية “مسح فلسطين الغربية” التي استغرقت مدة ست سنوات ، اهتمام الباحثين بدراسة جغرافية فلسطين والتركيز على مصادر المياه فيها والتثبت من أماكن هذه المياه وحجمها . هذا بالإضافة إلى احياء التسميات التوراتية القديمة وتحديد مواقعها الحديثة . ويورد نورمان بنتويتش في دراسته Anglo -Jewish Travellers to Palestine in the Nineteenth Century ان صندوق استكشاف فلسطين قد تولاه ضباط سلاح الهندسة في الجيش البريطاني للقيام بنشاط مزدوج تتكامل فيه المصالح الدينية التوراتية من ناحية والمصالح السياسية من ناحية أخرى .

وقام الصندوق عام ١٨٩٢ بإصدار كتاب بعنوان “المدينة والأرض” The City and the Land وهو عبارة عن مجموعة من الدراسات والتي كان من أهمها دراسة لوولتر بيسانت Walter Basant جاء فيها قوله : ” نعمل على استعادة مجد فلسطين في عهد هيرودس ،واستعادة بلاد داود كما نعمل على اعادة اسماء المدن التي تم تدميرها آلى الخارطة . لقد أعدنا إلى القدس مكانتها ومجدها وفخامتها ، واعدنا *بلادنا * إلى خارطة العالم واعدنا الاسماء كما وردت أصلا في التوراة . وعندما وضعت الاسماء في.اماكنها اصبح في وسعنا تتبع سير الجيوش وتحديد الأماكن.التي وصلت اليها” .

أما كوندر فكان عنوان دراسته “مستقبل فلسطين” حيث أشار فيها إلى ان المستوطنين اليهود هم العنصر الفعال الوحيد الذي بمقدوره ان ينهض بفلسطين ومدينة القدس خاصة ، وركز على التزايد المستمر في عدد هؤلاء المستوطنين : ” … اذ لم يتجاوز عددهم في مدينة القدس عام ١٧٩٣ بضع ميات في حين بلغ عددهم أربعين ألفا في عام ١٨٩٢ ، كما اصبحوا يسيطرون على التجارة في المدينة ولم يعودوا أقلية مضطهدة على الهامش ،بل اصبحوا الان سادة المدينة ” . ثم انتقل كوندر في حديثه عن مستقبل فلسطين قائلا : ” …وبات من المتوقع ان يحدث تزايد تدريجي في عدد السكان المزارعين وانتشار في حجم المستوطنات المزدهرة . ولن يتمكن الأتراك من الحيلولة دون استمرار هذا النمو وان كان من الممكن ان يحدوا من سرعته”، وأضاف قائلا انه : “كلما ازداد تدفق راس المال الأوروبي وتزايد عدد المستعمرين الأوروبيين في البلاد فان دخولها في داىرة. الدول التي ستنفصل عن جسم الدولة العثمانية اصبح قاب قوسين أو ادنى” وأسهب كوندر في سرده حول كيفية بداية صندوق استكشاف فلسطين وطبيعة عمله ، مبينا ان هدفه الاهم هو إلقاء الضوء على الحقائق التاريخية والتراثية لفلسطين وأرض الميعاد كما وردت في التوراة ، وذلك كي يصبح هذا الهدف بعد تحقيقه اداة رئيسة لمساعدة المهاجرين الذين سيفدون إلى هذه البلاد. في المستقبل ( ويقصد بهم المستوطنين اليهود ) في الحصول على الحقائق الثابتة والدقيقة عن طبيعة هذه البلاد وإمكانياتها الحياتية ( C. M. Warren, Fifty Years Work in the Holy Land ,p. 88 ).

وقد اصدر الصندوق بالإضافة إلى العدد الكبير من الكتب والتقارير خريطتين دقيقتين احداهما لفلسطين والأخرى للضفة الشرقية ، فبالنسبة للأولى فقد تم الانتهاء منها ونشرت عام ١٨٨٠ . وحملت إلاسماء الحديثة والقديمة لمختلف المدن والمواقع ، بالإضافة إلى إبراز تضاريس البلاد وطبيعتها المناخية ومصادر المياه وتوزيعها . أما الخريطة الثانية فقد ظهرت عام ١٨٨٩ وتركز معظمها في إبراز مختلف المواقع الواقعة فيمنطقة عجلون والبلقاء ومواب بالإضافة إلى حوران والجولان . وقد بلغت الخريطتان من الدقة حدًا سهلت استعمالهما في عملية تحرك الجيوش البريطانية وانتقالها عبر تلك الأراضي خلال الحرب العالمية الأولى .

ويتضح مما تقدم عرضه من آراء بيسانت ودارين وكوندر ان صهيونيتهم كانت واضحة وسابقة لصهيونية هرتزل نفسه ولا شك ان العاملين في الصندوق قاموا بدور كبير في تعريف العالم بـ ارض الميعاد وتوجيه أنظار اليهود صوب هذه الأرض ، وهذا بالضبط ما كانت تسعى اليه الإمبريالية الغربية وخاصة الإنجليزية منها ، اذ كانت تسعى جاهدة إلى اثارة الاهتمام اليهودي بهذه الأرض ( ارض الميعاد ) وبعث الصهيونية اليهودية في أعقاب ظهور صهيونية الأغيار لتقيم كيانها الاستيطاني.

المقترح في ارض الميعاد التي تضم – كما اوردها هشلر – كلًا من فلسطين والأردن وجنوب سوريا ولبنان وشبه جزيرة سيناء اضافة إلى جزيرة قبرص بحيث تمتد حدودها إلى قناة السويس والبحر الأحمر جنوبا والحدود العراقية شرقا ، وبالطبع فان البحر الأبيض المتوسط يشكل حدودها الغربية ، والمرتفعات السورية واللبنانية شمالًا.

وهكذا فاننا نرى ان الباحثين والأثريين العاملين تحت مظلة الصندوق كان همهم الأول والأخير هو تشجيع الاستيطان اليهودي بحيث لا يكون مقتصرًا على فلسطين وحدها وإنما يمتد ليشمل أيضًا اجزاء واسعة من الأراضي العربية المجاورة لفلسطين . ولعله من المناسب التعرض قليلا للموقف الذي كان يتبناه هؤلاء الباحثون والأثريون تجاه العرب . فالعرب في نظرهم – كما ورد في كتاب أوليفانت The Land of Gilead – :” غير جديرين باي معاملة إنسانية فهم يتحملون مسؤولية الخراب والدمار الذي لحق بفلسطين وما جاورها ” وتبنى أوليفانت أسوة بالعديد من اقرانه ممن عملوا في الصندوق الدعوة إلى * طرد العرب ليعودوا رعاة كما كانوا في الواحات الصحراوية !!!

يا لها من مفارقة تكتنفها الكآبة والمرارة ! الأمة التي كانت في يوم من الأيام تمد الغرب من محرابها العلمي بمختلف المجالات المعرفية أضحت اليوم مستسلمة للتراخي والركون وانتابها المزيد من التشرذم والضياع وأصبحت لقمة سائغة في افواه الطامعين والحاقدين . فهل ستستيقظ هذه الأمة من سباتها وتنفض عن كاهلها غبار الوهن واللامبالاة وتجابه التحديات بقوة وعزيمة وتصميم ؟!

التعليقات مغلقة.