نحو مشروع نهضة مصرية

166

 

سامى شرف* ( مصر ) الإثنين 2/2/2017 م …

نحو مشروع نهضة مصرية

شهد تاريخ مصر الحديث والمعاصر مشروعان كبيران للنهضة الوطنية؛ الأول قاده محمد علي مؤسس مصر الحديثة، والثاني قاده الرئيس جمال عبد الناصر.

وكم هي عديدة عوامل التشابه بين المشروعين من حيث الغاية والوسيلة، وكذلك التحديات التي واجهتهما.

بداية، كلا الرجلان كانا يمتلكان رؤية إستراتيجية واضحة لضرورة أن تتبنى الدولة في مصر مشروع نهضة قومي؛ قائم على قراءة دقيقة وعميقة للتاريخ، وموقع مصر الاستراتيجي الفريد، وقدرات شعبها، ولمفهوم الأمن القومي المصري.

كلا الرجلان آمن وأدرك أنه حتى يكتب لمشروعه النجاح يجب على مصر أن تتفاعل بقوة مع محيطها الجغرافي، وأن تتولى الدفاع عن أمنها القومي الذي يمتد حتى جبال طوروس في الشمال الشرقي ومنابع النيل في الجنوب.

وفي هذا السياق، كان خلق وبسط نفوذ مصري خارج الحدود في كلا المشروعين ضرورة لا غنى عنها لتأمين المشروع، وهذا إدراك لا يملكه سوى القادة العظام.

كما يحسب لكلا الرجلان أنهما تخطيا مرحلة الرؤية إلى مرحلة ترجمتها لواقع ملموس بناء على خطط واستراتيجيات محكمة، تمت صياغتها بدقة، ومن خلال الاعتماد على عدد من الركائز الأساسية:

الركيزة الأولى: استنهاض عوامل القوة والتميز اخل الإنسان المصري، من خلال تنمية قدراته وطاقاته، بالاعتماد على التعليم؛ فكثيرا ما يشاد بمحمد على لإنشائه ديوان المدارس في عام 1838، والذي يعتبر أول وزارة للتعليم في مصر، ولافتتاحه العديد من المدارس المتخصصة في طول البلاد وعرضها، ولإرساله البعثات التعليمية لأوروبا، بالإضافة إلى رعايته لمشروع ترجمة طموح استطاع أن يترجم المئات من الكتب الأجنبية.

وبالمثل فإن الكثيرين يعتبرون أن من أهم انجازات ثورة يوليو تلك السياسات التعليمية التي كفلت بها الدولة تعليما مجانيا للجميع حتى المستوى الجامعي، وأن جيل ثورة يوليو كان جيلا تنويريا بكل المقاييس، أشع بنوره على المحيطين العربي والأفريقي.

الركيزة الثانية: الدور المركزي الذي لعبته الدولة في كلا المشروعين؛ حيث أدارت الدولة قطاع الزراعة وتحديدا لمشروعات الري الكبرى، بالإضافة إلى الصناعة التي نالت هي الأخرى قدرا كبيرا من اهتمامها.

الركيزة الثالثة: كان دعم المؤسسة العسكرية المصرية، وإقامة جيش وطني قوي وقادر محورا رئيسيا في كلا المشروعين؛ غاية ووسيلة هامة من وسائل تحقيق المشروع، وحمايته.

الركيزة الرابعة: كلا المشروعان كان غايتهما الأسمى إقامة دولة مدنية حديثة تأخذ بكافة أسباب القوة؛ لتحافظ على مصالحها، وأمنها القومي بمفهومه الأشمل، وتحمي استقلالها وإرادتها.

وكما اشترك المشروعان في كثير من ركائز البناء والهدف، اشتركا في التحديات الجسام التي واجهتهما.

فبالرغم من الاعتراف بوجود نقاط خلل وضعف داخلية في كلا المشروعين، إلا أنها لم تكن جوهرية، ولم تكن كافية أو سببا رئيسيا في إجهاض أي منهما، وكان بوسع التجربتين التغلب عليها في إطار “قانون التجربة كفيلة بتصحيح الخطأ”، لكن سببا جوهريا كان له الدور الأكبر في إجهاض هذين المشروعين، وهو التدخل الخارجي، من قبل القوى الكبرى التي لها أطماع في المنطقة، وعملائها من دول المنطقة، لأن هذه القوى الامبريالية والعميلة تدرك أن مصر القوية القادرة هي العقبة الكئود في سبيل تحقيق أطماعهم في الاستيلاء على مقدرات المنطقة.

وإذا كان من الصواب التأكيد على أن تاريخ علاقة مصر بالخارج ملئ بالمؤامرات؛ فإن تصوير تاريخها الحديث والمعاصر على أنه سلسلة من المؤامرات التي حيكت ضدها يعد تبسيطا مخلا لهذا التاريخ؛ إذ أنه يبرئ ساحة الكثير من الفاعلين المحليين من المسئولية التاريخية.

ولأن التاريخ هو معمل تجارب العملية السياسية؛ أوجه السطور القادمة لكل من يهمه نهضة هذا الوطن الغالي ..

يقول الدكتور أنور عبد الملك، “إن هدف مشروع النهضة هو إقامة القوة الذاتية، وإذا كان التحرك أصلا من الداخل، وعائده إلى الداخل عبر التفاعل المستمر غير المتردد مع العالم الخارجي، فان هذا الداخل وتلك الذات الوطنية تعني أولا وقبل كل شيء تحديد الخصوصية المصرية المتميزة، وهذا بيت القصيد في جميع صراعات تاريخنا الألفي”.

وهنا أؤكد على أن أي مشروع نهضة يقوم على وسيلة وغاية؛ الوسيلة هي الجبهة الوطنية الموحدة، أي اتحاد جميع القوى الوطنية صاحبة المصلحة في بناء دولة قوية .. قرارها مستقل، تقوم على احترام قيم العدل والمساواة والحرية وسيادة القانون، ودولة قادرة على حماية مقدراتها وتنميتها .. دولة تكون نموذجا يشع حضارة لمحيطها وعالمها، وبجانب الجبهة الوطنية الموحدة يقف جيش قوي وطني يحمي إرادة هذه الجبهة، ويزود عن استقلال ومكانة الدولة.

(….)

وأختم مقالي بالتأكيد على أن أي مشروع النهضة لابد أن يجمع بين الفكر والعمل؛ الفكر يشمل الرؤية التأسيسية، والهوية والانتماء، ومداخل التغيير، وأولويات المرحلة.

والعمل يشمل التوعية والاتصال بقطاعات المجتمع المختلفة، وآليات عدة لإنشاء أو تبني كيانات تقوم على تفعيل فكر النهوض، وآليات للتحريك والتحويل من الفكر إلى الحركة، ضمن تدبير عملي، وآليات للتنسيق والتجميع، وآليات ترشيد وحفز.

كل ذلك من أجل تحقيق غاية كبرى؛ وهي صياغة فلسفة ثقافية ووطنية متميزة، تهدف إلى بناء متميز للإنسان .. صاحب الرسالة ومقصدها، وإقامة وطن قوي قادر.

وحتى يتحقق ذلك، على صانع القرار في مصر، وكل من يشارك في صياغة وتنفيذ مشروع نهضة حقيقي -وليس فنكوش كمشروع نهضة الشاطر وجماعته- أن يعي درس تجربتي محمد علي وجمال عبد الناصر، كي يعظم الايجابيات فيهما، ويتلافى سلبياتهما، والأخطاء التي وقعا فيها، والأهم بذل كل الجهد من أجل تفويت الفرصة على الخارج في أن يجهض هذا المشروع للمرة الثالثة، وهذا الهدف في حد ذاته تحد حقيقي كبير.

•       سامي شرف كان وزيراً لشؤون رئاسة الجمهورية في عهد جمال عبد الناصر وسكرتير الرئيس عبد الناصر الشخصي للمعلومات

التعليقات مغلقة.