جزدان الراعي / د. صبري ربيحات

280

د. صبري ربيحات ( الأردن ) – الإثنين 13/5/2024 م …

الجولات التي اقوم بها من وقت لاخر في ارياف وبوادي واغوار الاردن تكشف من جديد عن مزايا وخصال اردنية قد لا نلتفت لها لانشغالاتنا وكثيرا ما اتفاعل مع بعض الأصدقاء الذين يبدون تعليقاتهم على مواضيع اتناولها كحديثي عن الخيار البلدي في قرى الكرك ودخان او تتن الهيشي في مغاريب السلط والجوافة في دلتا سيل الحسا…

على الدوام اجدني اقول وبلا تفكير ان بلادنا مثل جزدان الراعي.. فما حكاية الراعي؟ وماذا عن جزدانه؟

فبالرغم من انه يبدو فارغا من النقود الا ان هناك شعور لدى صاحبه بانه مليء بالبركة وفيه كل الخير.. صحيح ان الراعي يحرص على حمل الجزدان في كل الاوقات مع ان وجهته المرعى حيث لا مجال للبيع والشراء.

في المرعى لا حاجة للنقود وحتى وان وجدت فلا متاجر ولا صفقات فالراعي سيقضي يومه يجوب السهول والتلال على كتفه زوادة طعامه التي لا يتسع فراغها لاكثر من كسرتي خبز وسعن ماء وابريق للشاي وصحن قد يحتاجه للحلب اذا ما هف على باله ان يخلط خبزته برشفات من الحليب.

في المراعي قلة من الرعاة وكثير من الكائنات التي لا قيود على تجوالها في المساحات المكسوة بشتى انواع الاعشاب والشجيرات.. لا فرق كبير بين انماط سلوكنا ونحن نتسوق وبين الماشية وهي ترعى فنحن نبحث عن توليفة من المشتريات التي نود استخدامها في الاكل او اللباس او التفاخر وكذلك هي التي تقضم من مئات الأشجار والشجيرات المتنوعة لتركيب وجباتها اليومية التي تحرص على خليها بمقادير تلبي احتياجاتها.. في ايام الخصب متعة وترف قد لا يستمر بعد ان يجف المرعى وتعود الاغنام الى حضائرها لتتغذى على خلطات لا خيار له في تركيبتها ولا في طبيعة مذاقها.

في جزدان معظم رعاة الاغنام توضع “نواة تمر” يجري لفها وتضميدها في قطعة من القماش تربط بعناية فائقة ويجري تفقدها بين الحين والآخر. بزرة التمر هذه لها مكانة وقيمة في وجدان الراعي تضاهي قيمة الاحتياطي من العملات الاجنبية في بنوك الدول المركزية. فهو يتفاءل بوجودها كتعويذة تجلب الرزق ويعتقد بأن الله سيبارك في رزقه وماله ببركات هذه النواة التي حملت ثمرتها الكثير من المعاني والقيم الروحية.

كانت امي ومنذ ان دارت النقود في يدي واصبح لدي عمل واتسلم راتبا شهريا تنصحني بأن أضع نواة تمر في محفظة النقود وان احتفظ بواحدة كتلك التي تحتفظ هي في مخبأ نقودها غير اني عصيتها.

بلا جهد او تفكير لا اعرف كيف قفزت صورة مطرود الراعي الذي كان يرعى اغنامنا في ايام الخصب من ستينيات القرن الماضي.. كان مطرود الشراري شابا سمحا وشهما يعمل راعيا مقابل الأجر الذي كان يسمى بـ “شرط الراعي” والذي يوازي بلغة اليوم العقد القانوني.

ينشر مطرود بقطيع الاغنام بعد حلبها وفصل صغارها وابعادهم لحين اختفائها عن الانظار.. وبعد ان ينقضي النهار ومع المغيب يعود مطرود والقطيع ونهرع نحن الصغار لنستقبلهم عند مدخل الواد “سيل الحنو”.

كل مساء كان مطرود لا يعود الا وجيوبه مملوءة بالكثير من خيرات الأرض. فيغرقنا بالبقول المتنوعة التي جناها خلال رحلته. كان يقدم لنا قرون الخبيرا والبريد اللذين يشبها البازيلا والعطعوط الذي يشوى وتقشر سيقانه ليعطي مذاقا يشبه السبيقاروس والدريهمة التي تحمل مذاقا مركبا وغنيا والذبح والقعفير تلك النباتات الدرنية التي يمكن اكل ازهارها وجذورها.. لم يعد مطرود يوما بايادي ولا جيوب فارغة الا بعد جفاف المرابع.

في كل مساء تتغير رائحة المكان مع عودة الرعاة فتستولي رائحة انفاس الاعنام المشبعة بالازهار والاعشاب البرية على فضاء القرية. خطوات القطيع ودبيب اظلاف ارجلها كانت السمفونية الهادئة التي ترقص قلوبنا على ايقاعها.

في طاقة القطيع وقت الغروب الكثير مما يبعث على الرضى والارتياح والامن فبالنسبة لها ذهب الجوع وامتلات ضروعها بالحليب وهي متلهفة لرؤية صغارها الذين عليهم الانتظار الى ما بعد حلبها.

في القرى تبدو رائحة كل الأشياء اجمل. فبعد غياب الشمس تمتزج روائح الازهار والحليب والخبز ودخان الطوابين ببعضها لتملأ الفضاء بعبقها الغني المشبع بكل مافي الطبيعة من ورد وعشب وزهر وخبز وماء..

كان اختراق موكب الاغنام العائدة من المرعى بالنسبة لي متعة تروي الحواس. وكنت احب تنسم رائحة الازهار والاوراق المنبعثة من أنفاس الاغنام العائدة من المرعى في أمسيات الربيع. وكنا نتذوق بمتعة لا تضاهى عبير الاعشاب والزهور التي مضغتها القطعان بعدما تحولت إلى لبن يضاهي في طيبة مذاقه العسل الذي تمزجه عاملات الخلايا من رحيق الورود والازهار البرية.

الاردن هذا البلد جميل لا اراه إلا كمحفظة الراعي التي يحملها لا ليحفظ النقود او البطاقات الائتمانية بل ليودع فيها نواة التمر وليتبارك بالامل الذي تمثله النواة المحفوظة داخل لفافات القماش ومركونة في زاوية المحفظة.

في كل مرة اذهب فيها الى قرية او اصعد فيها جبلا واتدلى نحو غور وفي كل مرة اقابل فيها راعي أغنام او تاجر خضار تعطلت مركبته فانزل حمولتها اشعر بحجم البركة والخير الدفين في الارض الاردنية وفي صدور أهلها واحبها واهلها اكثر واكثر.

التعليقات مغلقة.