الشهيد الأسير الدكتور عدنان البرش .. رحلة أبرز أطباء غزة بين مستشفياتها وسجون العدوّ الصهيوني
مدارات عربية – السبت 4/5/2024 م …
انتهت رحلة الدكتور عدنان البرش مع المعطف الأبيض الناصع، بعد أن حولته أشلاء المرضى ويوميات العلاج إلى خارطة حمراء للألم الممتد في شغاف غزة منذ السابع أكتوبر/تشرين الأول 2023، ثم انتهت رحلته في الحياة سجينا معذبا في واحد من أعتى وأقسى سجون العالم في إسرائيل.
كانت الأشهر السبعة المنصرمة، من حياة غزة، ترجمان حياة البرش، فقد ظل دائما في قلب العاصفة، وفي عمق التحديات، كما ظل روح “الشفاء” التي تنتقل من مستشفى إلى آخر، ومبضع الطبيب الذي يرمم ما أبقت نيران العدوان الإسرائيلي من أنفاس بالية، وأجساد ممزقة.
وقد مر حوالي 14 يوما منذ استشهاد البرش، قبل أن تعلن أمس هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير الفلسطينيان عن رحيل الرجل الذي ارتبط اسمه “بالشفاء” و”العودة” وصنع في خمسينيته المفعمة بالنضال والتميز العلمي، واحدة من أبرز قصص الامتياز الفلسطيني في الحياة والموت.
أدينا الرسالة والأجر على الله
أخذ عدنان كتاب الأمانة بقوة، منذ أن افتر ثغر الأيام في بيت والديه عن يوم بهيج، اختارت فيه الأقدار أن تزف إلى أسرة البرش طفلها الوديع عدنان أحمد عطية البرش، فقد كان يوم 17 سبتمبر/أيلول 1974، مختلفا في إشراقته عن يوم 19 أبريل/نيسان 2024، وبينهما ما بين فرحة الميلاد، وفجيعة الموت.
وبين الميلاد والرحيل، صنع عدنان قصة كفاحه العلمي والمهني وجهاده المستمر من أجل الحياة في مواجهة عدوان ماحق يقتلع بالدم واللهب كل ما يمت للحياة بصلة.
في مسيرة بين الزهور والأشواك، حصل الشهيد على الإعدادية من مدرسة الفالوجا، والثانوية من مدرسة حليمة السعدية، ثم طارت به أشواق المعرفة، وحصاد التميز، إلى رومانيا حيث نال شهادة البكالوريوس في كلية الطب بجامعة يانش.
عاد البرش بعد ذلك من رومانيا، لكن مسيرته التعليمية لم تتوقف، فقد تواصل في تخصص جراحة العظام والمفاصل، وحصل على البورد الأردني والبورد الفلسطيني، ثم نال الزمالة البريطانية في جراحة الكسور المعقدة في لندن.
وقد صنعت للبرش مهارته ودقته في الجراحة سمعة كبيرة في عموم فلسطين، فتولى رئاسة قسم العظام بمستشفى الشفاء، وظل أحد أعمدته الطبية المرموقة، ومن هناك من مستشفى الشفاء بدأت شهرته تملأ الآفاق.
رباط في “الشفاء” ومقاومة في “العودة”
كان السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 أحد أيام المداومة التلقائية للشهيد البرش في مستشفى الشفاء، لكنها مداومة طالت أكثر من شهر، حيث رابط في المستشفى الذي استهدفه العدوان الإسرائيلي بأقسى فظائع الانتقام والدمار.
وخلال مداومته المفتوحة في الشفاء، واجه البرش الموت العاري والألم الحارق، ليكون الملاك الأبيض الذي يخفف طوفان الألم الذي لا حد له، لكن قسوة الاحتلال كانت أشد. ففي 16 نوفمبر/تشرين الثاني وبعد أسبوع من الحصار المطبق، اقتحمت القوات الإسرائيلية مجمع الشفاء الطبي، ودمرت ساحاته وأجزاء من مبانيه ومعداته الطبية، وأجبرت من كان فيه من طواقم ونازحين على الرحيل، بعد أن عاثت فيه قتلا وفتكا واعتقالا.
واتجه الجميع جنوبا، ولكن البرش ولى وجهه شطر الشمال، رافضا أن يغادر مناطق الشمال التي عرفها وعرفته سلما وحربا، والحال أنها اليوم أحوج ما تكون لأياد حانية ماهرة كيديه، كما أن عائلته ما زالت هي الأخرى مرابطة صامدة في الشمال ترفض أن تغادر.
بكى البرش لمغادرته للشفاء، والحيلولة بينه وبين رسالته الإنسانية الرائعة، وطبع على ذاكرة الأيام عبارته الشهيرة “أدينا الرسالة وأجرنا على الله” وذلك في مقابلة له مع قناة الجزيرة.
كانت أهوال الصدمة -وهو يغادر مستشفى الشمال- تأخذ بتلابيب البرش، الجثث الملقاة في الطرقات، والبنايات المدمرة، والمناطق التي نسفت بالكامل، ولكنه كان يكابد تلك الأهوال بصبر وصمود وعزم على المواصلة.
نهاية الرحلة بسجون الاحتلال
ومن الشفاء انطلق الرجل إلى مستشفى كمال عدوان، لينضم بعد فترة وجيزة إلى المصابين الذين كان يعالجهم، بعد إصابته بجراح جراء قصف إسرائيلي أهوج.
ولم تطل الإقامة في مستشفى كمال عدوان، حتى اضطر للمغادرة إلى مستشفى العودة في منطقة تل الزعتر شرق مخيم جباليا شمالي قطاع غزة، ولتكون تلك آخر رحلاته مع المعطف والمراهم، فقد اعتقلته هناك الاحتلال الإسرائيلي في ديسمبر/كانون الأول الماضي ونقلته إلى سجن عوفر حيث قضى الأسابيع الأخيرة من حياته تحت آلة تعذيب لا سقف لحنقها على صناع الحياة في غزة وفق ما يقول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي.
وبين أطوار الرباط في المستشفيات، والنزوح إلى الشمال، عكس الجنوب الذي اضطر مئات الآلاف من عبور الألم فرارا إليه من شمال ملتهب، وأخيرا في ظلمة السجن وآلام التعذيب، صنع البرش في 7 أشهر قصة كفاح ونضال وتميز مهني، لعلاج أعقد حالات الإصابة، بوسائل أقرب إلى العدم إن لم تكن هي العدم ذاته.
وكما كان اعتقال البرش صادما، فقد كان إعلان وفاته فاجعا للغزيين وللفلسطينيين وللإنسانية بشكل عام، حيث قضى هذا العقل الطبي نحبه تحت سياط عذاب مستمر -كما يقول مقربوه- وأخفيت وفاته أكثر من أسبوعين، وما زالت جثته بيد قتلته.
وفي بريد الراحلين وسجلات الذكرى، طفق الغزيون -الذين خبروه عن قرب معالجا ومداويا ومواسيا- يدونون مشاهد ومواقف وقيما ونضالات طرزت رحلة البرش في الإبداع الطبي والامتياز المهني وشرف الحياة والشهادة.
التعليقات مغلقة.