بالحبر والرصاص.. لماذا تحوّل أدباء كوبا إلى مقاتلين؟ / بثينة الزغلامي

275

بثينة الزغلامي ( تونس ) – السبت 2/3/2024 م …

كوبا، جزيرة الرفض والتحرّر من الاستعمار ورمز النضال منذ القرن الماضي، بدءاً بمساندة بلدان القارة الأفريقية التي كانت ترزح تحت سطوة الكولونيالية الوافدة، وصولاً إلى فلسطين التي لا تزال تقاوم الاحتلال.

لماذا ارتبط الأدب في هذا البلد بالكفاح المسلح ضد الغزاة، وتحوّل الكثير من الأدباء إلى حاملي سلاح ومشروع وطني لا يساوم؟ الكثير من الأسماء كتبت سيرها عبر الدّم والفن ولم تزل الأجيال اللاحقة تتذكّرها. هنا بعض الأسماء التي مثّلت وهجاً ما زال ينير ذاكرة الشعب الكوبي. 

**

مناهضة الإمبرالية أيديولوجيا ثابتة 

في شهر كانون الثاني/يناير من عام 1960، انعقد الاجتماع الأول لكتّاب أميركا اللاتينية في كوسيسيون في تشيلي بحضور مؤلّفين لهم حضور يتجاوز جنوب القارة الأميركية، مثل أرنستو ساباتو ونيكاتور بارو وغيرهما.

ومما ورد في هذا الاجتماع أنه “يجب اعتبار الأدب حتى إشعار آخر أكثر من مجرد منتج ثقافي أو ظاهرة فنية. أي أداة لبناء أميركانا”. وكان هذا الاهتمام نابعاً من معركة أكبر من المدارس الأدبية التي سجّلت حضورها وحفرت توجّهاتها في هذه الرقعة الجغرافية، بل رسالة جماعية موجّهة ضد الطغمة السياسية الفاشية التي لم تهتمّ بحقوق السكان بقدر اهتمامها بفتح الأبواب لنهب الخيرات الطبيعية، وتطويع شعوب بأكملها لخدمة مشروع توسّعي يرتكز على الرأسمالية المتوحشة.

وكانت الثورة الكوبية محور اهتمام هؤلاء الكتّاب الذين سلّطوا المزيد من الضوء على جزيرة صغيرة تحاول الولايات المتحدة التهامها، ووراءها أطماع غربية لا تتوقّف عن إرباك المشهد الكوبي. لكن مسيرة التحرّر التي قطعها رفاق تشي غيفارا في هذا البلد، ورحلته مع كاسترو من بكين إلى الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت، أبهرت الشعوب التي كانت تتوق إلى الحرية وأثارت أحلام المفكّرين في عالم كان من الممكن أن يكون أكثر عدلاً. ونشير في هذا السياق إلى سفر المفكّرين نحو كوبا، ومن بين هؤلاء جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار.

وقال سارتر بعد عودته إلى فرنسا: “ماذا ينبغي علينا أن نفعل للمساهمة في الثورة في عالم أفضل؟ فقط كونوا كوبيّين”. كما لم تنج الكاتبة سوزان سونتاغ من سحر الثورة الكوبية،وفيما دافع عنها خوسيه ساراماغو في وقت مضى.

لقد خلقت كوبا بصورتها الثورية أيقونة جذب لأدباء كثيرين دافعوا عن المشروع الوطني، بغية تأصيل ثقافة أصيلة باعتبارهم مثقّفين عضويين، وفق المفهوم الغرامشي لهذا المصطلح. وكانت هناك أسماء لامعة مثل خوليو كورتاثار وكارلوس فوينتي وماريو بارغاس يوسا وغابريال غارسيا ماركيز ، وكذلك إدواردو غاليانو الذي كان، بطريقة ما، واجهة أدبية وإعلامية لتصدير ثقافة الرفض الكوبي ووراءها بلدان أخرى من أميركا اللاتنية و”العالم الثالث”.  

ويمكن تلخيص هذا “الحشد الأدبي” بأن فيديل كاسترو جعل من هؤلاء مستشارين للثورة الكوبية في مجالي الثقافة والفنون، وكانوا بأعمالهم مثل نجوم لامعة في المسار السياسي لهذا البلد طيلة سنوات. فقد أتاحت اللغة المشتركة لهؤلاء أن يكونوا جسوراً بين عالم قديم مبني على الاستهلاك والتوسّع الإمبراطوري بقيمه الترويجية لأحقية المركزية الغربية في التحكّم، في ما يسمّى بالمناطق الهشة أو العشبية. هذه القيم التي لا تمثل أكثر من مجرد فضاءات لمحاصرة الطموحات الإنسانية المشروعة في بناء استقلال فكري واقتصادي بعيداً عن نمطية السيد والعبد.

في كتابها “بين القلم والبندقية”، تطرح الباحثة الأرجنتينية كلوديا جيلمان السؤال الذي ما فتئ يدور في الأذهان حول كتّاب كوبا وجنوب القارة الأميركية: هل ينبغي على الكاتب الثوري أن يتخلى عن آلته الكاتبة ويتعلّم كيفية استخدام الملاط؟

تستنج جيلمان أنّ الكتّاب ملتزمون بقضايا اجتماعية وسياسية من أجل مكافحة أشكال الظلم في مجتمعات كانت تعاني من عدم المساواة بشكل كبير ، وقد أحدث هذا الالتزام تغييراً في النظرة إلى شخصية المبدع الذي أصبح مثل “الكاهن الأحمر” على شاكلة كاميلو توريس، واستبدل المثقفون ملابسهم المدنية بالبزّات القتالية في حروب العصابات التي خاضها أغلبهم ضد مضطهدي بلدانهم.

خوسيه مارتي: إسباني حمل مشروع استقلال كوبا

لم يحاول فيديل كاسترو إقناع المنبهرين بالثورة الكوبية أنه من نسل كارل ماركس رغم مساندته للمعسكر الاشتراكي في العالم، ولكنه كان يقنع الجميع أنه من نسل خوسيه مارتي (1853 – 1895) الذي كان رمزاً وطنياً وقومياً للاتحاد مع الوطن الكبير الأميركي اللاتيني، الذي يضم الإنسان المقموع في كل مكان من هذا العالم.

وكان مارتي الذي حمل لقب “رسول الاستقلال الكوبي”، صحافياً وكاتباً وسياسياً جمهورياً مؤمناً بديمقراطية الشعوب في تقرير مصيرها،كما كان ليبرالياً أسس “الحزب الثوري الكوبي” في منفاه النيويوركي سنة 1892، وهو صاحب بيان “مونتي كريستي” الذي كان إعلاناً عن انطلاق حرب الاستقلال الثانية التي سماها “الحرب الضرورية”. كما قاتل بالقلم والبندقية حتى سمّي بــ “شهيد كوبا” الذي تمت الاستعانة ببعض أقواله في كتابة دستور كوبا.

ومن أقواله التي تم تخليدها في كوبا: “ثمن الحرية باهظ جداً ومن الضروري أن نختار بين الاستسلام للعيش من دونها أو أن نشتريها مهما كانت غالية”. في الكثير من مواقفه وكتاباته رأى مارتي أنّ القوة الحقيقية في هذا العالم هي الحب. فالوطنية حب، والصداقة كذلك. ولخّص مارتي نضاله في مقولته الشهيرة “كنت قد استمعت يوماً ما بمتعة لم أجد قطّ مثيلاً لها عندما تلا المأمور حكم الإعدام عليّ بينما كان يبكي”.

في حديثها عن خوسيه مارتي، تقول غابرييلا ميسترال، إحدى المتوّجات بجائزة نوبل للأدب إن: “النصوص الشعرية البسيطة هي بمثابة جزيرة حقيقية لأصالة مارتي الشعرية. إنها اللب المارتي الذي لم يقدر العدو على التسلل إليه. لذلك فإنّ هذه الجزيرة عزيزة عليّ بشكل خاص ولي فيها أعظم متعة مع المعلّم ولي معه فيها محاوراتي الأكثر عمقاً”.

راؤول غوميز غارسيا: نحن في القتال 

في 16 آب/أغسطس عام 1952 أوضح “اليخاندرو”، وهو الاسم الحركي لكاسترو، في مقال له بصحيفة “أكيزادو أنّ “اللحظة ثورية وليست سياسية. السياسية هي تكريس لانتهازية من يملك الوسائل والموارد،”مضيفاً أن “الثورة تفتح الطريق للاستحقاق النفعي لأولئك الذين يتقدّمون بصدور عارية حاملين راية الحرية بين أيديهم”. .

من بين هؤلاء الذين كانوا يتقدمون بصدور عارية، الشاعر راؤول غوميز غارسيا (1928 – 1953)، الذي عُرف بشاعر شعلة الثورة وقارع نظام باتيستا، وتكريماً لذكرى استشهاده تحتفل كوبا في 14 كانون الأول/ديسمبر من كل عام بــ “يوم العامل النقابي”.

لقد مثّلت خطابات ومراسلات وقصائد غارسيا شهادة تاريخية عن الأحداث التي وقعت إبان الكفاح المسلح، ووثّقت لطموحات جيل آمن بأن الموت والاستقلال على كفة واحدة. ومن المعروف أن كاسترو قرأ بيان هذا الأخير  النابض بالحياة  بعد الهجوم الذي شنه الثوار على ثكنة “مونكادا”.

كما جسّدت قصيدته الأكثر شهرة في كوبا بعنوان “نحن في القتال”، ضرورة احترام إرادة شعب كوبا في التحرّر وتغيير دفة تاريخه، وتحوّلت مع الوقت إلى نشيد ملهم لأجيال لاحقة. ومما جاء في القصيدة المذكورة: “للدفاع عن فكرة كل من ماتوا/لطرد كل الأشرار من المعبد التاريخي/بسبب لفتة “ماسيو” البطولية  “من أجل ذكرى “مارفي الجميلة “/المصير المضطرم يستعر في دمائنا/من الأجيال التي قدّمت كل شيء/أحلام صاخبة ترتفع في سواعدنا/كلّ هذا يهتزّ في الروح السامية للكوبي/نحن فعلاً في القتال”.

يقال إن راؤول غوميز غارسيا كان من سلالة “الممبيز “، وهم المحاربون الكوبيون الذين شاركوا في  معركة الاستقلال  الأولى التي امتدت 10 سنوات خلال القرن الـــ 19. لم يكتفِ غارسيا بالعمل في التدريس ودراسة الحقوق، فقد كان رساماً وكاتب مقالات نارية لا يفتأ يذكّر القارئ أنه لا داعي للتنظير، بل لا بد من الاتجاه مباشرة إلى القتال، أي تدمير مغتصب قوت الشعب، مشدداً على تحديد الموقف من الثورة، إذ إنها أيضاً أداة للإبداع لأنها “شيء نبيل للغاية”.

نيكولاس غيلين: التمازج الأفريقي الكوبي

تجلّت نزعة نيكولاس غيلين في الدفاع عن العرق الأفريقي وضرورة انصهاره في النسيج المجتمعي الكوبي من خلال أعماله الشعرية التي، ورغم غنائيتها، تخللتها مسحة كئيبة ترسم عذابات العبودية وتاريخ الزنوج المليء بالرق والأسفار.

استطاعت أعمال الرجل الذي أسس لما يُعرف بـ “الشعر الأسمر”، أن تعبّر عن البعد التوثيقي للتاريخ من خلال المشترك الجماعي، الذي تأصّل في البحث عن الجذور التي يتم طمرها من طرف كل مستعمر جديد على امتداد 4 قرون، لكنها تعود لتظهر مرة أخرى لأنها لن تموت.

كانت زنوجة غيلين حالة ذهنية أيضاً يعبر من خلالها الكتابة نحو أسلافه محاولاً رسم حضارة عالمية تضم جميع الأعراق. أما نصوصه فجاءت تتويجاً لهدف حالم يؤكّد أن وجود الأفريقي خارج حدود القارة السمراء ممكن، وأن زنوجته غنية الملامح. فهي إسبانية كاريبية كوبية، وكانت بحسب جون ماري أباندا دينجو في كتابه “من الزنوجة إلى العبودية”، أكثر من مجرد موقف، بل حركة فنية وإبداعية لإعادة تقييم مفهوم الحضارة.

تمكّن نيكولاس غيلين من إعادة “تأهيل العرق الكوبي الأفريقي بتحويل هذا المفهوم إلى أداة ثقافية ثورية، وسمح بالحفاظ على الفولكور الكوبي من أصل أفريقي للسود في هذه الجزيرة، ليكون أحد الركائز التراثية الحاضرة في الوجدان الجماعي لهذا المجتمع المدافع عن احترام الخصوصيات الفردية للمجموعات التي تتمازج فيه عبر روافدها القادمة من بلدان متنوّعة.

أتاحت أعمال غيلين الذي أسس “جمعية الدراسات الأفريقية الكوبية”، وعدّ شاعراً وطنياً منذ العام 1961، أتاحت المجال للزنوج الكوبيين بإظهار الثراء الموسيقي الذي ترتكز عليه مدوّنتهم الشفهية. فهناك غنائية في نصوص غيلين إضافة إلى التزامه السياسي. ونذكر من أعماله “مرثيات”، و”جزر الهند الغريبة الممتدة”، و”الحمامة الشعبية التي تطير”. 

خوسيه زاكرياس تاليت: الثورة نبع لا ينضب للإبداع 

 

عاش غوسيه زاكرياس تاليت (1893 – 1989) إرهاصات الثورة الكوبية. بدأ الكتابة بكثافة منذ العام 1959 وترك أعمالاً أدبية شبّهت بالأساطير من حيث مادتها الغريبة والبسيطة في آن، وكانت واسعة الانتشار.

عرف بديوانه “البذرة العقيمة”، وكذلك بمزجه بين الطابع الأفريقي والكوبي. حصد تاليت جوائز وطنية منها دكتوراه فخرية من جامعة هافانا والجائزة الوطنية الأولى للأدب، وكان يؤكد دائماً أنه ليس شاعراً محترفاً، ومع ذلك، طبع اسمه في المشهد الأدبي في بلده.

أدباء مستمرون في مواجهة الإمبريالية 

في بيان أذاعه راديو هافانا بتاريخ 30 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، ووقّعه “اتحاد الكتّاب والفنانين الكوبيين”، أدانوا فيه ما وصفوه بالهجوم الثقافي على بلادهم من طرف “مؤسسة حنه ارنت للفنون”.

وقالوا إن غاية المؤسسة المذكورة إعادة كتابة تاريخ الأمة (الكوبية) التي تواجه عداء مستمراً ومتزايداً من الإدارات الأميركية المتعاقبة، ودافعوا عن حق الشعب الكوبي الغاضب في السيادة وتقرير ما يناسبه.

وأكد الموقّعون حينها أن الشعب الكوبي يرفض التزوير “فهناك صناديق تمويل تابعة لواشنطن لا مجال لأن تبثّ موادّها في كوبا، مشدّدين على تمسّكهم بالتعبيرات الفنية الوطنية. 

التعليقات مغلقة.