الـطـنـطـوريـة “الـغـزاويـة” / فيحاء عبد الهادي

351

فيحاء عبد الهادي ( فلسطين ) – الأربعاء 17/1/2024 م …

ما الذي حفز ويحفز هذه الأيام منتديات ومجموعات فلسطينية وعربية، تضمّ العديد من الشباب؛ إلى الوقوف لدى رواية الطنطورية للروائية المصرية/الفلسطينية المبدعة د. «رضوى عاشور»؛ قراءة وتحليلًا، وعيونهم/ن على غزة؟
هل هي الحكاية الفلسطينية الممتدة منذ العام 1947 حتى يومنا هذا؟ المجازر التي تذكِّر بالمجازر؟ والتطهير العرقي الذي يستحضر التطهير العرقي؟ والتهجير الذي يستحضر التهجير؟ والمقاومة التي تستحضر المقاومة، وفاعلية النساء الفلسطينيات التي تستحضر فاعليتهن على امتداد تاريخ القضية الفلسطينية؟
هل هي الطنطورة التي تستدعي غزة؛ بحرها وشوارعها وبيوتها ورائحتها وبسالة شعبها؟
أم هي الطنطورية التي تستدعي الغزاوية؛ آمالها وأحلامها، وجرأتها، وفاعليتها، وصمودها، وجمال روحها، ومعاناتها الممتدة، ومقاومتها الممتدة؟
*****
تتنقل الراوية/رقية/الطنطورية زمنيًا بين الماضي البعيد والحاضر، ثم الحاضر والماضي والمستقبل، منذ الفصل الأول من الرواية، ونستمع إلى صوتها؛ منذ بداية الرواية حتى نهايتها؛ بواسطة تقنيات فنية متعددة، منها ما يستخدم في تيار الوعي؛ المونولوج الداخلي المباشر، الذي يعتمد على ضمير المتكلم، والمونولوج الداخلي غير المباشر، الذي يعتمد على المفرد الغائب، ومناجاة النفس، الذي يمزج بين ضمير المتكلم وضمير الغائب، بالإضافة إلى أسلوب الرسائل، والوثائق التاريخية، والتقارير، وأسلوب الرواية داخل الرواية (رواية نيو جيرسي، التي كتبها حسن).
ويتهيأ لنا أن الراوية/رقية خرجت من دفتي الكتاب، وخرج معها والداها وزوجها وأبناؤها وأحفادها وصديقاتها وأصدقاؤها، ليرووا حكاياتهم/ن.
نستمع إلى أصواتهم/ن، ونتعرَّف إليهم/ن، عبر الحوار بشكل أساس، وعبر صوتها حينًا: قالت أمي، تقول أمي، صاحت أمي فجأة، حدثني أبي قال، وأصواتهم/ن حينًا، التي تصل إلينا عبر الحوار، وعبر الشهادات؛ شهادة عبد، وشهادة أبو محمد، وشهادة مريم، والشهادات المسجّلة على الشريط.
تبدأ رقية حكايتها طفلة تعيش في الطنطورة، ثم تروي حكاية تهجيرها منها إلى الفريديس، ثم المثلث، ثم طولكرم، ثم الخليل، إلى أن وصلت صيدا، بعدها تتنقل بين بيروت، وأبو ظبي، والإسكندرية، لتعود وتستقرّ في صيدا.
لا تروي الكاتبة وقائع رحلة تهجيرها فحسب؛ بل ترويها ضمن نظرة نقدية لما حدث وكيف حدث.
وخلال تنقلها بين المدن الساحلية؛ يحضر البحر شخصية رئيسة في الرواية، ثم يحضر المفتاح، شخصية رئيسة أخرى، على امتداد الرواية.
هذه المدن الساحلية التي يكون لها ولبحرها مكانة متميزة في قلب الراوية، ولكن ما يفترش قلبها بشكل خاص بحر الطنطورة، وبحر الإسكندرية، في دلالة عميقة على الانتماء لمصر وفلسطين في آن.
أما مفتاح الدار، الذي ينتقل من الأم زينب، إلى الابنة رقية، إلى الحفيدة رقية، فهو رمز أثير لدى الراوية ولأجيال من الفلسطينيين، الذين لا يتشبثون بحلم العودة فحسب؛ بل يصرّون على العودة.
****
يتخلل الفكر النسوي صفحات الرواية، منذ عنوانها، الذي يؤكِّد على العلاقة الجدلية بين المرأة والوطن (الطنطورة/الطنطورية)، ونتعرَّف على سمات هذا الفكر عبر صوت الراوية/الكاتبة، ومواقفها السياسية والاجتماعية، وحوارها، مع العائلة والأصدقاء، وعبر عملها الدؤوب مع النساء في المخيمات الفلسطينية.
هذا الفكر الجريء والمبادر والحرّ، الذي يعطي المرأة صوتًا متميزًا وواثقًا وناقدًا، على الصعيد السياسي (مسؤولية التهجير من الطنطورة، وخروج المقاومة من بيروت، ومسؤولية مجزرة صبرا وشاتيلا، ومجزرة تل الزعتر)، وعلى الصعيد الاجتماعي (قضايا التمييز ضد المرأة، والتمييز الطبقي، وبعض العادات الاجتماعية البالية)، وينحاز لقضايا المضطهدات والمضطهدين والفقراء عبر العالم، ويناضل ضد الاستعمار والاحتلال والرجعية الاجتماعية معًا.
*****
يطلّ علينا عبر الرواية الشهداء الفلسطينيون، واللبنانيون، والعراقيون، والسوريون، والمصريون، والليبيون، واليمنيون، والسودانيون، نساء ورجالًا.
كما يطلّ علينا المناضلون والمناضلات الفلسطينيون والعرب، والأجانب، الذين وقفوا مع القضية الفلسطينية، ولم يساندوها فحسب؛ بل قدّم بعضهم/ن أرواحهم/ن فداء لها.
ويطلّ أيضًا «مركز الأبحاث الفلسطيني»، الذي احتلّ أهمية ثقافية وسياسية كبيرة لدى الشعب الفلسطيني، والذي دمَّره وحرقه جيش الاحتلال الإسرائيلي، عبر سيارة ملغومة، وقبل ذلك نهب نصف مكتبته وأرشيفه، صباح يوم 17 أيلول 1982، بالتوازي مع ارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا، في بيروت: 16-17 أيلول.
*****
يا لقسوة الذاكرة حين تطلق من عقالها، والتي تؤلم ألمًا لا يطاق: «ذاكرة الفقد كلاب مسعورة تنهش بلا رحمة»! ذاكرة الجثث الثلاث (الأب والأخوين) عام 1948، وذاكرة رحلة التهجير، وذاكرة بيروت، وذاكرة المجازر المرعبة (صبرا وشاتيلا وتل الزعتر)، وحرب المخيمات ووو:
في عبارات دالة جاء على لسان حسن، الذي أصرّ على والدته رقية أن تكتب حكايتها:
«الحكاية هي وحدها ما يشغلني، أطمع في الصوت، ولأنني أعرف قيمته أريد أن يتاح للآخرين أن يسمعوه».
وقالت الراوية:»حكيت النِّتفَةَ التي عشتها، هل تكتمل الحكاية إلاّ بهذه النِّتَفِ جميعًا؟!»
هي رسالة أرادت الكاتبة/الراوية/ الطنطورية أن تصلنا:
أكتبوا رواياتكم/ن حتى تتكامل النِّتَف، لتكون الرواية الفلسطينية التاريخية.

التعليقات مغلقة.