بعد “طوفان الأقصى”… لندن ليست إسرائيلية / بثينة عليق

323

بثينة عليق ( لبنان ) – الأحد 19/11/2023 م …

شارك بريطانيون بفعالية في حركة المقاطعة العالمية لـ”إسرائيل”، وأتت التظاهرة التي شهدتها شوارع لندن مؤخراً لتبشر بمسار داعم للقضية الفلسطينية تشهده بريطانيا.

لم تكن مسألة عابرة أن تخرج تظاهرة هي الأكبر في تاريخ بريطانيا دعماً لفلسطين وتنديداً بـ”إسرائيل” وارتكاباتها في غزة. للقضية أبعاد مختلفة، أبرزها أن مكان التظاهرة هو أحد أكثر الأمكنة إسرائيلية في العالم.

هناك الكثير من الأدلة التي تؤكد هذا الاستنتاج. قبل أشهر قليلة، تم توقيع وثيقة بين بريطانيا و”إسرائيل”، هي خريطة طريق جديدة -وصولاً إلى عام 2030- للعلاقات الثنائية بين البلدين. تعكس الوثيقة بوضوح عمق العلاقة وقوتها، وتهدف، بحسب ما ورد فيها، إلى “الارتقاء بالعلاقات إلى الشراكة الإستراتيجية”.

تشمل الوثيقة عناوين متعددة ومتنوعة، مثل الدفاع والأمن والتجارة والصحة والمناخ والسايبر والتعليم وغيره، إلا أن الأبرز هو تبني بريطانيا في هذه الاتفاقية التفسير الصهيوني لمعاداة السامية، وتعهّدها بالتصدي لحركة المقاطعة “بي دي أس”، ومعارضة عمل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية فيما يخص التحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها “إسرائيل” ضد الشعب الفلسطيني. 

ورد في الوثيقة التي وصفت نفسها بـ”الحيّة والمتطلّعة إلى المستقبل”: “تفتخر إسرائيل والمملكة المتحدة بشراكتنا العميقة والتاريخية”. تخلت الوثيقة عن منطق المصالح المشتركة وعن اللغة القانونية والدبلوماسية التي تعتمد عادة في مثل هذه الاتفاقيات لترد فيها العبارة التالية: “نحن أصدقاء قويون وحلفاء بالفطرة”، ما يترك أسئلة كثيرة حول مصطلح “التحالف بالفطرة” الذي يبدو دخيلاً على لغة العلاقات الدولية ومستغرباً في الوقت نفسه.

الانطباع نفسه يسود عند سماع تصريح رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي. تبدو ماي في حالة إنكار للوقائع ورفض للحقائق عند وصفها “إسرائيل” بأنها “قصة نجاح عظيمة ومنارة للتسامح”! 

تتجاهل المسؤولة البريطانية جرائم “إسرائيل” ومجازرها وانتهاكاتها للقوانين الدولية وعنصريتها والإبادات التي ترتكبتها والتمييز العنصري الذي تمارسه منذ نشأتها، وتذهب إلى وصفها بـ”منارة للتسامح”.

يفسر الوثائقي الذي حمل عنوان “اللوبي الصهيوني في بريطانيا” الكثير من الأسباب التي تدفع السياسيين البريطانيين إلى اتخاذ مثل هذه المواقف. يتحدَّث الوثائقي عن نشاطات اللوبي الصهيوني في لندن، ويعرض الكثير من الأمثلة التي تعكس نفوذه وقدرته على التأثير في الحياة السياسية البريطانية. 

ويكشف تسجيلات سرية تظهر تورط دبلوماسي إسرائيلي في محاولة إسقاط سياسيين بريطانيين، وتخطيط دبلوماسي آخر لمساعدة أحد الوزراء لإطاحة زميله الذي يجاهر بمواقفه المعادية للاستيطان.

ويتوقف الوثائقي عند تاريخ هذا اللوبي الذي بدأ في سبعينيات القرن الماضي بفعل عملية الدمج التي حصلت بين منظمة “الفيدرالية الصهيونية” و”المجلس اليهودي البريطاني” لمصلحة تأسيس أول منظمة علاقات عامة داعمة لـ”إسرائيل” في بريطانيا. هذه الخطوة استتبعت بخطوة أخرى عام 1989 تمثلت بتأسيس المركز الإسرائيلي البريطاني للشؤون العامة “BIPAK”.

عمل هذا المركز على تأمين المصالح الإسرائيلية، وكان له دور كبير ولافت ومؤثر في مواجهة حملة المقاطعة العالمية لـ”إسرائيل” وفي تعزيز الشراكة بين البلدين في الكثير من الميادين.

في مقال للمؤرخ البريطاني مارك كيرتس، يتحدث عن علاقات خاصة بين بريطانيا و”إسرائيل” في 9 مجالات على الأقل، بما فيها مبيعات السلاح والقوات الجوية والانتشار النووي والقوات البحرية والاستخبارات والتجارة.

هذه العلاقة هي استكمال لمسار من الشراكة البريطانية الكاملة في المشروع الاستعماري الصهيوني العنصري، والمتواصلة على مدى نحو قرنين؛ فقد شكل فتح أبواب فلسطين لهجرة اليهود إليها أحد أهداف بريطانيا منذ القرن التاسع عشر، وفق الوثائق البريطانية. 

شجع الإنكليز اليهود على إنشاء شبكة من المستعمرات الاستيطانية في فلسطين لتكون ذات يوم عازلاً يحجز مصر عن سوريا ويمنع لقاءهما في الزاوية الجغرافية الإستراتيجية. 

وقد كان لشخصيات بريطانية يهودية دور مهم في تكوين هذه القناعة لدى أصحاب القرار في لندن. اللورد شافستسبري صديق روتشيلد أحد هؤلاء. كان الرجلان من بين أكثر يهود الغرب الأغنياء وأشدهم حماسة لتصدير فائض اليهود من أوروبا الغربية إلى فلسطين.

ذكر شافستسبري في مذكراته أنه، أثناء تناوله العشاء مع رئيس ورزاء بريطانيا بالمرستون عام 1838، راح يحدثه عن مأساة اليهود وعذابهم، لكن بالمرستون لم يعطِ أي أهمية لهذا الكلام، إلا أن عينيه لمعتا وتبدى اهتمامه وراح يسمع الحديث عن المصالح التي ستحصدها لندن في حال دعمت الحلم اليهودي.

تواصلت جهود اليهود في اتجاه تحويل الحلم إلى حقيقة. ومع مطلع خمسينيات القرن التاسع عشر، كانت الحمى اليهودية في إنكلترا قد بلغت ذراها.

في القسم الثاني من القرن التاسع عشر، وصل إلى رئاسة الحكومة دزرائيلي الذي كان أول وآخر يهودي يتولى رئاسة الوزارة في بريطانيا، والذي كان صهيونياً إلى أبعد الحدود. 

ساعد ديزرائيلي روتشيلد لشراء الحصة المصرية من شركة قناة السويس. وبعد سنة من إتمام الصفقة المريبة، أي عام 1877، كانت أسرة روتشيلد تمول إنشاء أول مستعمرة استيطانية لليهود في فلسطين، هي مستعمرة “بتاح تكفاه”.

أثناء الحرب العالمية الأولى، شكّل تولي مارك سايكس وزارة الخارجية البريطانية فرصة عبر عنها ناحوم سوكولوف الذي ورث هيرتزل في المؤتمر الصهيوني بقوله: “من واجبي أن أوجّه تحية خاصة إلى مارك سايكس، فقد كان الروح الملهمة والمحركة في توجيه عملنا”.

أما الفضل الأكبر في تحقيق الأهداف اليهودية، فقد تمثل بتقديم وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور لروتشيلد وعده الشهير الذي نص على إنشاء دولة لليهود في فلسطين.

لم يتأخّر البريطانيون في ترجمة وعدهم. أثناء الانتداب البريطاني لفلسطين، وبرعاية الإنكليز مباشرة، تدفقت موجات الهجرة اليهودية، وتوسعت المستعمرات الاستيطانية بالعنف والخديعة والاغتصاب والرشوة حتى إعلان قيام الكيان عام 1948. وفي المرحلة التي تلت، أمنت لندن الدعم على اختلاف أشكاله للكيان الوليد.

العدوان الثلاثي في العام 1956 ضد مصر لم يكن إلا تواطؤاً بريطانياً فرنسياً مع “إسرائيل” ومساهمة فعالة منهما لتحقيق الهدف الإسرائيلي بغزو مصر. وقد دفعت لندن ثمن مشاركتها في هذه الحرب التي اعتبرت من أكبر الأخطاء التي ارتكبتها على صعيد سياستها الخارجية. 

كما اعتبرت هذه الحرب أحد الأسباب التي أدت إلى السقوط التدريجي للإمبراطورية البريطانية وتراجع التأثير البريطاني، وخصوصاً في منطقتنا، إلا أنَّ الدعم لـ”إسرائيل” لم يتراجع، فقد انتصرت الأخيرة في حرب عام 1967 بطائرات فرنسية ودبابات بريطانية.

وبعد انتهاء الحرب، قدمت بريطانيا مشروع القرار رقم 242، وتبنت النص الذي يتضمَّن كلمة “أراضٍ”، وليس “الأراضي”. لعبة الصياغة هذه أدَّت إلى إفراغ القرار من مضمونه ومن أي فعالية، بما يخدم الأهداف الإسرائيلية. وعلى الرغم من بعض التناقضات الثانوية والهامشية التي شابت العلاقة خلال أكثر من نصف قرن، فإن طابعها الوثيق والقوي لم يتأثر فعلياً.

يشير المؤرخ كيرتس إلى أن بريطانيا امتنعت خلال عقود طويلة عن إدانة قتل “إسرائيل” للفلسطينيين، واكتفت، ولا تزال، بحثّها على ضبط النفس، وأن لندن رفضت أي مشاريع أو قرارات تنص على فتح تحقيقات في القتل تطال “إسرائيل”، وأنها باعت الأسلحة المختلفة، بما فيها الغواصات النووية، لـ”تل أبيب”، ولم تتردد بتزويدها بقطع غيار للطائرات أثناء الحروب التي تشنها على غزة.

ويذكّر الكاتب البريطاني بمساهمة بلاده بتطوير أسلحة “إسرائيل” النووية في الخمسينيات والستينيات، ويتحدث عن العلاقات الاستخبارية الكبيرة التي كشفت الوثائق السرية التي سرّبها إدوارد سنودن الكثير من جوانبها.

كل هذا الجهد التاريخي المبذول لم يمنع جزءاً وازناً من الرأي العام البريطاني من التفلت من الأخطبوط الإسرائيلي الصهيوني النافذ في لندن. شارك بريطانيون بفعالية في حركة المقاطعة العالمية لـ”إسرائيل”، وأتت التظاهرة التي شهدتها شوارع لندن مؤخراً لتبشر بمسار داعم للقضية الفلسطينية تشهده بريطانيا ويمكن البناء على تراكمه خلال المرحلة المقبلة.

لقد تخطت أمواج “طوفان الأقصى” فلسطين والمنطقة، ووصلت إلى قلب العواصم التي أدمنت على دعم “إسرائيل” من دون قيد أو شرط، وشكَّل التوحش الإسرائيلي تجاه أطفال غزة فرصة لإعادة الاعتبار إلى القضية الفلسطينية في كل أصقاع العالم. كما ظهر بكل وضوح، ومن دون أدنى شك، أن دعم فلسطين هو أنقى تعبير للفطرة حتى في شوارع لندن التي ظنت “إسرائيل” أنها نجحت في “أسرلتها”.

التعليقات مغلقة.