مدينة هرر: بوابة التاريخ والثقافة العربية في شرق أفريقيا

380

مدارات عربية – الجمعة 22/9/2023 م …

كانت مدينة هرر حاضرة للعديد من السلطنات الإسلامية التي امتدت شرقي مضيق باب المندب وخليج عدن، ولا يشعر الزائر العربي للمدينة بالغربة، فهناك ينتسب الكثير من القبائل إلى الأصل العربي، كذلك تتميز المدينة بموروثها الحضاري والمعماري، وكثرة المساجد.

تشكل مدينة هرر، الواقعة في شرق إثيوبيا، جسراً للتواصل بين الحضارة العربية وشرق أفريقيا، وترمز بعمرانها وطبائع أهلها وسكانها بشكل واضح إلى تلك الحضارة. تقع المدينة عَلى بُعد 525 كم تَقريباً شرق العاصمة أديس أبابا، وهي عاصمة منطقة هرر.

تتميز المدينة بموقعها الجغرافي الاستراتيجي على الحدود مع الصومال، في واحة جبلية خضراء خلابة الجمال، ويسكنها نحو 240 ألف نسمة. وتتميز بمناخ معتدل وغطاء نباتي يكسوها، وأشجار وزهور بألوان متباينة عبر مرتفعات ومنخفضات.

تاريخ مدينة هرر

يعود تاريخ المدينة إلى الحقبة الإسلامية الأولى، فترة ما قبل الهجرة النبوية، ويقال إن الإسلام وصل هرر مع الهجرة الأولى لـ 14 صحابياً على رأسهم عثمان بن مظعون، هاجروا إلى الحبشة، سنة 615 ميلادية، أي قبل هجرة الرسول (ص) بثماني سنوات، بينما يرجح آخرون دخول الإسلام للمدينة مع التجار المسلمين القادمين من شبه الجزيرة العربية. 

وتفيد المصادر التاريخية أن مملكة هرر بدأت تحكم نفسها بشكل مستقل، منذ القرن الخامس عشر، وتوالى على حكمها أكثر من 72 أميراً، إلى أن ضعفت واحتلها العثمانيون، عبر الخديوي إسماعيل، الذي أرسل إليها، حملة سيطرت عليها عام 1875م، ثم استقلت مرة أخرى عام 1885م. 

 لاحقاً، فقدت استقلالها بشكل نهائي وضمّت إلى إثيوبيا؛ عندما شن الإمبراطور مِينليك الثاني، الذي كان يحكم وسط إثيوبيا هجوماً عليها، وهزم آخر أمرائها عبد الله بن محمد.

سلطنة هرر التاريخية

كانت مدينة هرر حاضرة للعديد من السلطنات الإسلامية التي امتدت شرقي مضيق باب المندب وخليج عدن، سواء خلال سلطنة عَفَت (1285-1415) أو سلطنة عَدَل (1415-1559)  

إثر ضعف سلطنة عدل، انتقلت العاصمة إلى مدينة هرر عام 1520، بعد أن سيطر الإمام أحمد الغازي، على مقاليد الأمور. 

القائد الذي نقل عنه أنه اتبع سياسة موفقة جمعت الناس حوله، وعُدّ عصره عصراً ذهبياً للإمارات الإسلامية غربي أفريقيا، حتى نسجت حوله الأساطير، وغدا أشهر الملوك المسلمين في الحبشة (923-949هـ/ 1526-1543م)، إلى أن تدخلت القوات البرتغالية، إلى جانب خصومه ما أدى إلى استشهاده عام 1543م.

في إثر ذلك، حكم المدينة ابن شقيقه، الأمير نور الدين مجاهد (بين 1551-1569) وبنى للمدينة سوراً لحفظها من الأعداء ببوابات خمس لا تزال قائمة حتى يومنا هذا. 

حضارياً

تتمتع هرر بمكانةٍ حضارية مميزة، وتخبئ المدينة داخل أسوارها، تاريخاً طويلاً وعريقاً يعكس بصمة واضحة من تمازج تأثير العرب والإسلام مع تلك المنطقة.

موقع هرر الاستراتيجي جعل منها نقطة تلاقٍ لثقافات متعددة، وتجارة دولية نشطة، تربط بين مدن إثيوبيا ومنطقة القرن الأفريقي بساحل البحر الأحمر والجزيرة العربية، وبالطبع اليمن، اللاعب الأكثر تأثيراً في تاريخ المدينة. 

ساعد هذا الموقع المتوسط المدينة في أن تكون منبراً ثقافياً أساساً لنشر  العلوم الإسلامية وتطويرها؛ فكانت مركزاً للدراسات الإسلامية بمنطقة القرن الأفريقي.

فازدهرت العلوم الإسلامية في هرر بشكل غير مسبوق، خلال النصف الأول من القرن التاسع الميلادي، بفضل اتصالها القوي باليمن والحجاز، وكان أهلها يرسلون أبناءهم للدراسة هناك، ويعودون لنشر العلوم الإسلامية.

وتدين المنطقة العربية للعديد من علماء الدين الهررين، نتيجة إسهاماتهم المميزة، وليس آخرهم الراحل الشيخ عبد الله الهرري، المرشد الديني لجمعية المشاريع الخيرية الإسلامية في لبنان، والذي امتدت مسيرته من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة فبيت المقدس، ودمشق إلى أن استقر في لبنان لبقية حياته.  

 كذلك تميزت هَرر بموروثها الحضاري والمعماري، وكثرة مساجدها التي وصل عددها إلى أكثر من 80 مسجداً (ثلاثة منها يرجع تاريخها إلى القرن العاشر الميلادي).

أما عن سبب تسميتها؛ فيُرجع المؤرخون ذلك نسبة إلى القبيلة المُؤسسة لها وهي (قبيلة هَرر)؛ إحدى القبائل العربية من عرب حضرموت، الذين هاجروا من الجزيرة العربية، واستقروا في تلك المنطقة.

ولا يشعر الزائر العربي للمدينة بالغربة، فهناك ينتسب الكثير من القبائل إلى الأصل العربي؛ الجبرتيون والأشراف وكثير من بطون قبائل عفر وأورومو والصومال؛ لا يشكك أحد في أصولهم الممتدة إلى جنوب شبه الجزيرة العربية، والتي امتزجت وذابت في المجتمع الحبشي. 

كذلك أثر اللهجة اليمنية وأنماط ملابس أهل اليمن واضحة عند المتحدثين باللغة العربية. كما يتسم سكان هرر بالود وحسن الضيافة، واحترام تقاليد الضيافة العربية القديمة.

وتؤدي الأسرة دوراً هاماً في حياتهم الاجتماعية، والروابط القوية بين أفراد العائلة.

دور هرر الاقتصادي والاجتماعي

تؤدي مدينة هرر دوراً مهماً في التواصل مع الشعوب الإثيوبية، إذ تعد نقطة انطلاق للتجارة وتلاق للثقافات المتعددة. وتشتهر بمزارع البُن المميز؛ الذي يعد من أشهر أنواع البن، نظراً إلى ارتفاع المدينة البالغ 1800 متر عن سطح البحر. وتسيطر منطقة هرر، بسمعة قهوتها المميزة، على حصة الأسد من إنتاج القهوة للبلاد البالغ 562 ألف طن، والذي يدر على إثيوبيا 1.4 مليار دولار من تصدير 300 ألف طن، بحسب إحصائية عام 2022، ويشكل دعامة أساسية للاقتصاد الإثيوبي ومورداً هاماً للعملة الصعبة.

لسكان هرر إسهام كبير في الاقتصاد الإثيوبي، إذ يعدّون رواد التجارة في هذا البلد الأفريقي.

تقاليد الزواج في هرر

تشكل التقاليد والتراث الناتجان من الثقافة الإسلامية جزءاً لا يتجزأ من حياة الهررين، وخاصة حين يتعلق الأمر بالزواج، فمفردة الزواج باللغة الهررية، هي كلمة “نكاح” حرفياً. 

وأول ما يُبتدأ به الزواج هو عقد القران الشرعي، بعد ذلك تأتي المظاهر الثقافية الهررية، من إعداد خبز خاص وتوزيعه في المسجد ليشمل المصلون العروسين بالدعاء، إلى المدائح النبوية، وقراءة القرآن. 

ويصرّ الهرريون على إطعام لحم الذبيحة، التي عادة ما تكون بقرة كاملة، تعدّ بأيدي النساء اللاتي لا يتوقفن عن ترديد المدائح النبوية، خلال إعداد الوليمة، لتوزيعها في المسجد الأكبر للمدينة، بعد صلاة الجمعة، مع الحلويات والقهوة الهررية، للدعاء للعروسين من المصلين، والتبريك لهما. 

كسر القلم

أما عادة كسر القلم خلال مراسم الزواج فهي امتحان للعروس أمام مُعلم القرآن، لتثبت أنها متعلمة، وجاهزة للزواج، فتبدأ بتلاوة الآية 285 من سورة البقرة، مع مراعاة الحركات.

وتكتب العروس ما تقرأه بقلم خاص يُعدّ للمناسبة، بالتوازي مع قراءة كل من حولها لما تخط من حروف، وحركات للآية، حتى إذا وصلت النهاية، كسرت القلم، على ظهر اللوح، إيذاناً بانتهاء فصل من حياتها، وبداية فصل جديد. 

المرأة الهررية

وللمرأة الهررية حضور فعال في المجتمع، فتجد في متحف المدينة كتباً يزيد عمرها على 270 عاماً خُطت بأيدي النساء الهرريات، كذلك حملت المرأة على عاتقها مسؤولية الحفاظ على التراث، وإحياء الهوية الهررية، فامتهنت الحِرَف اليدوية كصناعة السلال من قصب السكر، فضلاً عن الحفاظ على العادات الهررية القديمة التي تحرص النساء الهرريات على إحيائها في المناسبات كالزفاف والعزاء والمناسبات الدينية.

لذلك، تعد هرر مثالاً رائعاً للتعايش والتسامح، ورمزاً للحضارة الإسلامية في شرق أفريقيا، يعيش اليوم فِيها المسلمون والمسيحيون جنباً إلى جنب، لتجسد المدينة مزيجاً بين التاريخ والحضارة العربية والثقافة الإثيوبية الأفريقية. 

ضباع هرر

يحكى أن جفافاً غير مسبوق ضرب منطقة هرر، وما حولها منذ مئات السنين، فهاجمت الضباع الجائعة المدينة بأعداد كبيرة، اجتمع أهل هرر للتشاور، فأفتاهم شيخهم بإطعام الضباع يومياً، وضمن لهم أنها لا تهاجمهم إلى الأبد، فخصص أهل هرر للضباع جزءاً ثابتاً من الطعام، وعهدوا بمهمة إطعامها لعائلات محددة، ومنذ ذلك الحين لم ينقض أهل هرر عهدهم مع الضباع، التي تحولت بدورها إلى كائنات وادعة، تأخذ حصتها اليومية من يد مضيفها الكريم وتمضي بسلام وود ظاهرين.

 

التعليقات مغلقة.