الدين والتدين عند المتصوف والأشاعرة والفلاسفة (الحلقة الأولى – الدين والتدين عند المتصوفة) / د. عدنان عويّد

332

د. عدنان عويّد ( سورية ) – الجمعة 22/9/2023 م …

في المفهوم:

     الدين: هو الإيمان والاعتقاد الجازم بوجود ذات إلهيّة تستحق العبادة والإذعان لها، ويكون ذلك عن طريق الانقياد والتسليم للنصوص التي تقوم بوصف وتحديد تلك الذات, وتوضيح تشريعاتها كسلطة عليّة, كما تمارس طقوس عديدة من قبل أتباع هذا الدين أو ذاك تأكيداً على طاعة هذا الإله والتزام بقيمه ومثله وتشريعاته.

     أو بتعبير آخر: الدين هو النصوص الثابتة المتعالية والمقدسة التي لا تقبل التعديل أو الالغاء أو المراجعة من قبل البشر, وبالنسبة للإسلام مثلًا فإنَّ الدين الإسلامي هو ما جاءت به تلك النصوص المقدسة الثابتة التي تمثَّلت في كتاب الله وسنة نبيِّه محمد, وما جرى عليها من تفسيرات وتأويلات وشروحات أدلى بها فقهاء هذا الدين وعلماؤه.

      أما التدين فهو تطبيق هذا النصوص وتحريكها وجعلها عملًاً يقوم به الإنسان. أي هو سلوك الإنسان ومدى التزامه أو تطابقه  مع معطيات الدين الذي يعتقدُ به. ويعبّر التدين أيضاً عن مقدار تمسك المرء به زيادةً أو ضعفًا، وقدرِ التزامِه بتعاليمه كلها أو بعضها.(1).

     إن التدين بتعبير آخر: يمثِّلُ التطبيق العملي لما جاء به الدين من تعاليم وقواعد وضوابط وتشريعات, سواءً كان الدين أحد الديانات السماويّة أو أحد الديانات الوضعيّة، حيثُ يُسمى اتِّباع البشر للتعاليم الدينيّة والتقيُّد بها وتطبيقها, بالتدين. وتطبيق ما جاء به الإسلام على سبيل المثال لا الحصر هو ما يسمى التدين. والتدين الصحيح لا يقتصر على تطبيق العبادات فقط وإنَّما ينسحبُ أيضاً على تحقيق غاية هذا العبادات كما جاء في حديث الرسول: “من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدًا” (2) .

     فالتدين إذاً يشملُ تطبيق تعاليم الدين وتحقيق غايتها بالأخلاق الحسنة والإحسان إلى الناس والتقوى في السر والعلن. (3).

      بناءً على توضيحنا للفرق بين الدين والتدين نستطيع القول: إن انحرافات التدين ليست مرتبطة بالدين نفسه ومقاصده الخيرة, كما يقول بعض المهتمين بالشأن الدينيّ, وهذا خلط واضح بين مفهوم الدين والتدين, لأنَّ انحرافات التدين تكون نتيجة التقصير في فهم وتطبيق تعاليم الدين من قبل اتباع الدين, أو التمسك ببعض التعاليم وترك التعاليم الأكثر أهمية، أو الاختلاف في تفسير وتأويل النص الديني, كالخلط بين المحكم والمتشابه في النص الديني الإسلامي, أو محاولة توظيف الدين لمصالح سياسيّة وأنانيّة ضيقة.

التوجهات الفكريّة والسلوكيّة في التدين عند المسلمين:

     إن من يتابع التوجهات الفكريّة والسلوكيّة التي تجلت في التدين الإسلاميّ, يجد أن النواة الصلبة للإسلام واحدة, من حيث الايمان بالله ووحدانيته وكتبه ورسله واليوم الاخرة.  وإن اتجاه التوحيد من قبل الفقهاء, جاء أيضاً على مستوى العبادات والتشريعات, وهو توحيد من حيث المبدأ يلتقي مع توحيد الإله. وهنا أخذت مسألة توحيد العبادات والتشريعات حالات مقدسة شأنها شأن النص المقدس في القرآن والحديث. لذلك نجد أن أشكال العبادات (صوم صلاة زكاة حج .. الخ), لم تتغير منذ زمن الرسول حتى اليوم. وكذلك التشريعات التي أقرتها المذاهب لدى السنة والشيعة فقد حافظت على ثباتها وقداستها إلى حد بعيد.  بينما الذي تغير, أو استمر في حالات تغير شبه دائم فهو أشكال التدين من منطقة إلى أخرى, ومن عهد إلى عهد, ومن فئة اجتماعيّة إلى أخرى.

     وبناءً على ما جئنا إليه أعلاه, سأعمل على اختيار أربعة نماذج من التدين في التاريخ الإسلامي, أبين من خلالها حالات اختلاف التدين بين كل لأنموذج من هذه النماذج.

أولاً: الصوفيّة كتيارات دينيّة محافظة:

     التصوف في سياقه العام, هو تلك التجربة الروحانيّة الوجدانيّة التي يعيشها السالك أو المسافر إلى ملكوت الحضرة الإلهيّة, أو الذات الربانيّة, من أجل اللقاء بها وصالاً وعشقاً. ويمكننا القول هو محبة الله والفناء والاتحاد فيه كشفاً وتحليلاً  من أجل الانتشاء بالأنوار الربانيّة والتمتع بالحضرة القدسيّة.

     لقد افترقت الصوفيّة عن العديد من الطرق الدينيّة الإسلاميّة, ومنها أهل السنة والجماعة في أصل أو أكثر من أصول الدين تفسيراً وتأويلاً معرفة أو سلوكاً، ولهذا بدعوا واعتبروا مخالفين للكتاب والسنة بشكل خاص.

     ومن أسباب نشأة الفرق الصوفيّة: الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة المتخلفة, التي سادت فترات زمنيّة طويلة في البنيتين الاجتماعيّة والسياسيّة تحت مظلة الخلافة الإسلاميّة, ولم تزل سائدة حتى تاريخه, حيث انتجت بنية التخلف هذه, الكثير من البدع والجدال والمراء والخصومة في الدين، ومجالسة أهل الأهواء والبدع ومخالطتهم، وكذلك الجهل الذي يشمل: الجهل بمذهب السلف، والجهل باللغة العربيّة، والجهل بمقاصد الشريعة. (4). وعلى هذا الأساس جاءت الصوفيّة شكلاً من أشكال معارضة الأيديولوجيا الدينيّة المهيمنة على المجتمع بقوة السلطان, وخاصة التصوف العرفاني منه واستبدال هذه الأيديولوجيا بعلاقة الإنسان بذاته مع الله, وبالتأويل الفردي للإيمان.

     وبعيداً عن النقد الذي وجه لهم من قبل أهل السنة والجماعة, على اعتبارهم هم أنفسهم لهم طريقة تفكيرهم وسلوكهم التديني الذي يختلف عن الكثير من الفرق والمذاهب غير السنيّة, سأقف في قراءتي للتصوف على البنية الفكريّة والسلوكيّة لهم, من منطلق البحث الحيادي العقلاني النقدي, وهذا ما سأمارسه على بقية النماذج التدينيّة التي سآتي عليها في هذه الدراسة.

البنية المعرفيّة والسلوكيّة للطرق الصوفيّة:

     تعتبر الصوفيّة في سياقها الفكري قريبة من الافلاطونيّة الجديدة, أو المحدثة, وهي التسمية التي أطلقت منذ القرن التاسع عشر على مدرسة للصوفيّة الفلسفيّة التي تكونت في القرن الثالث ميلادي مبنية على تعاليم أفلاطون وتابعيه الأوائل وفي مقدمتهم فلوطين. وترتكز الأفلاطونيّة المحدثة على الجوانب الروحيّة والكونيّة في الفكر الأفلاطوني مع مزجها بالديانتين المصريّة واليهوديّة. وعلى الرغم من أن أتباع الافلاطونيّة الجديدة كانوا يعتبرون أنفسهم ببساطة متبعين لفلسفة أفلاطون, إلا أن ما يميزها في العصر الحديث, يرجع إلى الاعتقاد بان فلسفتهم لديها الشروحات الكافية التي لا نظير لها فلسفة أفلاطون والتي تجعلها مختلفة جوهرياً عما كان أفلاطون يكتب ويعتقد. (5).

     أما أهم تجليات الفرق الصوفيّة الفكريّة والسلوكيّة وخاصة العرفانيّة منها, والتي مثلها منذ منتصف القرن الثالث للهجرة مع انتشار الفكر الفلسفي وترجمته عن اليونانيّة في عصر المأمون والمعتصم والواثق, كل من الحلاج ونظرية الحلول, والبسطامي صاحب نظرية الفناء, وابن عربي صاحب نظرية وحدة الوجود, وهناك السهروردي, وذو النون, وابن الفارض, وجلال الدين الرومي, ونور الدين العطار, والشبلي. هذا وقد تجلت أهم الأبعاد الفلسفيّة في التصوف العرفاني بالتالي :

     أولاً: اليقينيّة: وهي معرفة تقوم على الحسيّة والحدسيّة والعقلانيّة على السواء. والعقلانيّة هنا تأتي برأيي في استخدم العقل لتأويل النص والبحث عن دلالات مسكوت عنها في معطيات النص الظاهري, أو البحث عن دلالات ذات طابع مصلحي, سياسي أو لتقديس شخصيات تاريخيّة لها دورها ومكانتها في الحياة الدينيّة أو الاجتماعيّة. وهذا ما جعل المخالفين لهم يتهمونهم بالشطح, وهذه تهمة أودت بحياة الكثير من مشايخ التصوف السني بشكل خاص, كالحلاج والبسطامي وذو النون وغيرهم.

     ثانياً: الزهد: أي الدعوة إلى الانصراف عن كل ما هو دنيويّ.

     ثالثاً: المعرفة المطلقة: فالمعرفة الحق عندهم تتحقق من خلال التجلي الإلهي الذي يتم باتحاد روح الإنسان بالله. فالصوفيّة تنطلق من الاعتقاد بقدرات الإنسان على الدخول في تماس مباشر مع الله, وتذويب ذاته في الذات الإلهيّة. ويضع الصوفيون من هذا الشعور الذاتي (الوهم), الاتصال مع الله فوق كافة المعتقدات الدينيّة.

     إن بلوغ النشوة الصوفيّة عند المتصوفة العرفانيين تتم بواسطة الفعل الإراديّ الحر, والفهم الحدسي والحسي والعرفاني اللدنيّ. (6).

التصوف السني:

     وهو التصوف الذي ربط بين الشريعة الإسلاميّة النصيّة والعرفان الباطني, وقد استندوا في دعواهم على الكتاب المقدس والسنة النبويّة, ومن أهم رجاته (الحسن البصري, المحاسبي, القشيري, الجنيد, عبد القادر الجيلاني, و نصر السراج, ابن المبارك, احمد البدوي, مالك بن دينار, عبد القادر الجيلاني, أحمد الرفاعي, وابن عبدك, والشاذلي, وغيرهم من اصحب التصوف الطرقي, الذي اعتمدت عليهم السلطات السياسيّة الحاكمة تاريخيّاً, ولم تزل.

      هذا ويعتبر الغزالي من القامات الصوفيّة الأشعريّة الذي ترك تأثيره الواضح على طريقة التدين السني. وفي مؤلفة المشهور (تهافت الفلاسفة), أعد للهجوم على المشائيّة الشرقيّة ولا سيما آراء الفارابي وابن سينا.

     لقد نفى الغزالي خلود العالم وأزليته وقانونيته. وأنكر الخلود الفردي. والله عنده هو الذي خلق العالم من عدم, والمشيئة الإلهيّة تتدخل دوماً في مجريات الأحداث. وبناءً على ذلك هو ينكر السببيّة الطبيعيّة, وما يدعى من رابطة سببيّة ليس إلا ما اعتدنا عليّه من تعاقب زمني للأحداث والظواهر. (7).

الأشعريّة:

     يعتبر الفكر الأشعري محاولة متميزة لدعم الأفكار الدينيّة المحافظة بحجج عقلانيّة. وهي منذ القرن الثالث عشر ميلادي أصبحت الفلسفة الرسميّة للتيار الإسلامي المحافظ, التي اعتمدت عليه السلطات الحاكمة ولم تزل.

كاتب وباحث من سوريّة

[email protected]

الهوامش:

– أبحاث هيئة كبار العلماء، مجلة البحوث الإسلامية، مجلة البيان، وآخرون، كتاب مجلة البحوث الإسلامية، صفحة 51. بتصرّف.

2-  رواه ابن باز، في مجموع فتاوى ابن باز، عن عبدالله بن عباس، الصفحة أو الرقم:274، حديث إسناده حسن.

3- للاستزادة في هذا الموضوع راجع – (راجع موقع سطور – مفهوم التدين.).

4- لاستزادة في معرفة اسباب ظهور التصوف في الدولة الإسلامية. راجع موقع موسوعة الفرق – أسباب نشأة الطرق الصوفيّة.

 5- الويكيبيديا – بتصرف.

6- للاستزادة في موضوع التصوف راجع دراستنا (التجليات الفلسفيّة للتصوف الإسلامي)- موقع المثقف.).

7- للاستزادة في معرفة التوجهات الفكرية الفلسفية والصوفية راجع موقع – أون لاين – الإمام أبو حامد الغزالي .. لمحات من منهج خلقي.

التعليقات مغلقة.