حرب الاستخبارات بين حزب الله و”إسرائيل”.. مواجهة من نوع آخر! (2 ) / أحمد عبد الرحمن

387

أحمد عبد الرحمن ( لبنان ) – الأربعاء 20/9/2023 م …

نجح حزب الله في خضم معركته الاستخبارية القاسية والصعبة في حرمان العدو من اختراق مؤسساته ولجانه المختلفة. وقد أقرّ الكثير من الخبراء الإسرائيليين بهذا الأمر.

في ظل احتدام الحرب الاستخبارية بين حزب الله والكيان الصهيوني، ونتيجة الكثير من العمليات الإسرائيلية الفاشلة التي حاولت من خلالها “تل أبيب” تحقيق إنجاز كبير ونوعي في مواجهة الحزب، وبعد التطوّر الكبير الذي طرأ على عمل وحدة الاستخبارات في حزب الله، والذي تمت ترجمته في العديد من محطات المواجهة بينها وبين أجهزة استخبارات العدو.

نتيجة كل ذلك أُصيبت المؤسسة الاستخبارية الصهيونية بحالة من الإرباك والشعور بالعجز، لا سيما بعد إخفاقها في حرب تموز 2006 في الحصول على معلومات تساهم في حسم المعركة الشرسة التي خاضتها آنذاك، وفشلها في تحديد أماكن وجود قيادة حزب الله، وعلى رأسها أمينه العام السيد حسن نصر الله، وقد استمر هذا الإخفاق في هذا الموضوع بالذات إلى يومنا هذا، أي بعد أكثر من 17 عاماً من تلك الحرب القاسية والفارقة.

في مقابل هذه الإخفاقات التي ذكرنا بعضاً منها في الجزء الأول من هذا المقال، والتي تركت تأثيرات مباشرة في مجمل المواجهة بين الكيان الصهيوني وحزب الله، حتى في ظل حالة الهدوء النسبي السائدة بين الطرفين منذ انتهاء الحرب، انتقلت القدرات الاستخبارية للحزب اللبناني نقلة نوعية إلى الأمام، وقفزت لمسافات هائلة على مستوى الخبرات الاستخبارية العملياتية، وطرق جمع المعلومات، وتجنيد العملاء لدى الطرف الآخر، إضافة إلى تحقيق نجاحات ملحوظة على صعيد زيادة تأمين المعلومات الحسّاسة الخاصة بالحزب، وإحاطتها بستار كثيف من السرية منع العدو من الوصول إليها، أو اختراق جدارها السميك، وهذا ما أفقد العدو القدرة على وضع تقدير موقف مناسب وفعّال في كثير من المراحل.

منظومة الاستخبارات في حزب الله

بما أن حزب الله يُعدّ من المنظمات السرّية ذات التسلسل الهرمي سواء على مستوى القيادة، أو في ما يخص عمل وحداته العسكرية والأمنية المختلفة، فإن معرفة الحجم الحقيقي لمجموعاته المقاتلة، إضافة إلى قدراته العسكرية والتكنولوجية تكاد تكون شيئاً مستحيلاً، لا سيما وهو يواجه باستمرار -سواء كان هناك حرب أو لم يكن- قوة عسكرية وتكنولوجية هائلة متمثلة في العدو الصهيوني، إضافة إلى كثير من أجهزة استخبارات العالم، والتي تقوم جميعها سواء بشكل منفرد أو بالتنسيق فيما بينها بمراقبته من كثب، في محاولة لمعرفة كل ما يتمتع به من إمكانيات وقدرات، وهو الأمر الذي تسعى من وراءه لتحديد مكامن القوة والضعف لديه، وبالتالي وضع الخطط المناسبة لمهاجمته والقضاء عليه عندما تسمح الفرصة بذلك.

وبناءً عليه، سنحاول الإشارة إلى إمكانيات حزب الله الاستخبارية من خلال المصادر المفتوحة، والمعلومات المُعلنة، وكذلك بالقياس على بعض النجاحات التي أحرزها خلال المواجهة الأمنية والاستخبارية مع “دولة” العدو خلال السنوات الماضية.

وحسب بعض الدراسات الأمنية، والتي صدر جزء منها عن مراكز بحث إسرائيلية، فإن حزب الله يملك جهاز استخبارات ذا كفاءة عالية، إضافة إلى امتلاكه جزءاً ليس باليسير من وسائل الحرب الاستخبارية، لا سيما على صعيد الأدوات التكنولوجية، والخبرات البشرية، والعقول ذات الموهبة الخاصة، والتي تلقّى جزء منها تدريبات في دول متقدّمة مثل إيران وروسيا على سبيل المثال.

وقد جرى خلال السنوات العشرين الماضية تحديداً، تحويل هذا الجهاز إلى جهاز مؤسساتي، يعتمد على النظام والانضباط بشكل صارم، ويستخدم مروحة واسعة من الخيارات الاستخبارية التكتيكية، وهذا الأمر جرى بالتوازي التام مع تطوير الذراع العسكرية للحزب، إذ إن الحزب أدرك منذ البدايات الأولى لنشاطه ضرورة وجود جسم أمني واستخباري قوي، يدعم ويساند ويؤمّن كل النشاطات التي تقوم بها الذراع العسكرية، وهذا ما أدى إلى تحوّل الحزب إلى جهة أكثر تركيزاً وخطورة ونجاعة وردعاً.

يقوم العمل الاستخباري لدى حزب الله على أسس واضحة وثابتة ومُستدامة، وهو يشبه كثيراً عمل أجهزة الاستخبارات في الدول المتقدّمة، وهذا نتيجة ما أشرنا إليه أعلاه من تلقّي كوادر وقيادة جهاز استخبارات الحزب دورات متخصصة في دول متقدمة للغاية. 

وحسب بعض المعلومات المتداولة، فإن حزب الله بدأ في تطوير قدرات استخبارية منظمة بشكل رئيسي منذ بداية التسعينيات، بُعيد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، حيث أنشأ في البداية عدة وحدات استخبارية مثل وحدة مكافحة التجسّس، والتي تُعنى بإدارة عمليات الحزب داخل لبنان؛ ووحدة أمن واستخبارات في الخارج تحت مُسمى ” الوحدة 910 “، والتي تشارك -حسب مصادر إسرائيلية-في عمليات استخبارية خارج لبنان، ومن ثم قام لاحقاً بتشكيل “الوحدة 133” التي تتولى العمل في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

 تعمل استخبارات حزب الله بشكل حثيث على جمع المعلومات الاستخبارية الموجّهة، سواء داخل بيئة الحزب في ما يُطلق عليه “معلومات استخبارية لأغراض الأمن الداخلي “، وهو ما يمكّنها من قراءة المشهد المحيط بعمل الحزب المقاوم، لا سيما في ظل وجود الكثير من الأعداء القريبين والبعيدين، أو في الجغرافيا البعيدة وضمنها الأراضي الفلسطينية المحتلة ودول أخرى، وهذا النوع يتضمّن الحصول على معلومات استخبارية للاحتياجات العملياتية والتكتيكية والاستراتيجية، التي قد تساعد في مرحلة ما في تنفيذ أنواع مختلفة من العمليات القتالية، هذا بالإضافة إلى امتلاك استخبارات الحزب قدرات وقائية ضد نشاط أجهزة الاستخبارات المعادية، وتقف على رأسها المخابرات الإسرائيلية والأميركية. 

وحسب العديد من التقارير، فإن حزب الله يستخدم منظومة الاستخبارات بطريقة منظّمة ومحسوبة، إذ يعتمد على مجموعة هامة من الوسائل التكنولوجية، من بينها أدوات تعمل بالذكاء التكنولوجي، أو ما يُعرف بـ “ذكاء الإشارات”، حيث تقوم باعتراض الاتصالات الإلكترونية مثل المكالمات الهاتفية، واللاسلكية، ورسائل البريد الإلكتروني وغيرها.

إضافة إلى اعتماده على “الذكاء المرئي”، الذي يعمل على تحليل الصور التي يحصل عليها من خلال بعض الأقمار الصناعية التي يقوم باختراق تردداتها، أو تلك التابعة لدول حليفة، أو من خلال الطائرات المسيّرة التي يملك الحزب عدداً كبيراً منها. كما تعتمد استخبارات الحزب على ما يُعرف بـ “الذكاء مفتوح المصدر “، إذ يتم استغلال المعلومات الموجودة على شبكات الإنترنت، وقواعد بيانات أجهزة الكمبيوتر المفتوحة لعامة الناس، أو المعلومات التي تُبث عبر الإذاعات والقنوات التلفزيونية، والتي عادة ما يتم الخروج منها بغلّة وفيرة من المعلومات الاستخبارية، أيضاً يعتمد على الأدوات غير التكنولوجية، مثل الكتب والخرائط وغيرها من وسائل المعرفة.

إضافة إلى كل ما تقدم، تعتمد استخبارات حزب الله على ما بات يُعرف في دوائر الاستخبارات العالمية بـ “الذكاء البشري “، والذي يحتاج إلى خبراء وفنيين ومهندسين يتمتعون بذكاء خارق، بحيث يقومون بتحليل المعلومات العلنية والسرّية، بطريقة خلّاقة ومُبدعة، ما يمكنهم من الخروج بتقدير موقف قريب إلى الحقيقة، وإعطاء توقعات تساعد كثيراً في إعداد الخطط، ووضع الاستراتيجيات. 

وقد نجحت المنظومة الاستخبارية لدى حزب الله في كثير من المحطات، وحسب اعتراف الكثير من الخبراء الصهاينة، في التفوّق على ما يُطلق عليه في الكيان الصهيوني بـ” الثالوث الاستخباري الأسطوري “، والمتمثّل في أجهزة الموساد والشاباك وأمان، والتي لطالما تفاخر بها الكيان الإسرائيلي على مستوى العالم، ووضعها في مصاف أفضل أجهزة الاستخبارات على الإطلاق. لكن جهاز استخبارات الحزب اللبناني استطاع في أكثر من مناسبة، وخلال سنين طويلة من المواجهة الصامتة إنزال مجموعة كبيرة من الهزائم بها، ما جعلها في عديد المرات تُعيد هيكلة صفوفها، وتُقيل عدداً كبيراً من عناصرها وقياداتها. 

العمى الاستخباري

لا يُخفِي الإسرائيليون حقيقة تمكّن حزب الله من تحقيق الكثير من الإنجازات الاستخبارية في حربه المفتوحة ضد “دولة” الاحتلال، وقد اعترفوا أكثر من مرة، وفي مناسبات عديدة، أن مهندسي الحزب نجحوا في تطوير وسائل تكنولوجية خاصة بالتنصّت على اتصالات “الجيش” الإسرائيلي، سواء في المناطق القريبة من الحدود الفلسطينية-اللبنانية، أو في مناطق أبعد من ذلك بكثير.

بل إن جهاز استخبارات حزب الله نجح-حسب المصادر الإسرائيلية-في التشويش على خطوط الاتصال العسكرية الساخنة في أوقات التصعيد والتوتر، إضافة إلى نجاحه في اعتراض الكثير من الرسائل المشفّرة وقراءة مضمونها بنجاح، إلى جانب تمكّنه من الحصول على ترددات الراديو القصيرة الخاصة بالطائرات الإسرائيلية المسيّرة، ما ساعده في إسقاط العديد منها، والاستحواذ والسيطرة على أخرى من دون أن تتعرّض لأي ضرر يُذكر، وهذا ما ساعده في الحصول على معلومات أمنية واستخبارية حسّاسة. 

على صعيد موازٍ، وبما أن المواجهة بين حزب الله و”دولة” الاحتلال على الصعيد الاستخباري تعتمد بشكل كبير على الإمكانيات المادية والبشرية لدى الجانبين، ونظراً إلى الأسبقية التي تحظى بها “إسرائيل” في هذا الجانب، فقد اعتمد الحزب على وسائل مستحدثة للوصول إلى توازن نسبي يقلّص من حجم الفجوة على هذا الصعيد، ويؤمّن له مزيداً من نقاط القوة في هذا الصراع الطويل والصعب.

لذلك، لجأ الحزب إلى حرمان العدو الصهيوني من بعض أهم مقوّمات القوة لديه، والتي كانت على الدوام عاملاً أساسياً في حسمه للمعارك المختلفة مع الدول العربية عبر تاريخ صراعه معها، إذ عمل على إصابة “جيش” الاحتلال، وفي المقدمة أجهزة استخباراته المختلفة بما يُسمى في عالم الاستخبارات بـ “العمى الاستخباري “، وقد نجح بشكل كبير في منع تسرّب المعلومات إلى أجهزة العدو، وحافظ بصورة مثالية على سرية المعلومات الخاصة بوحداته القتالية، وبإمكانياته التسليحية، وبأماكن وتموضعات مقاتليه في مختلف الظروف. 

وقد أقرّ الكثير من الخبراء الإسرائيليين بهذا الأمر، وعدّوه أحد أهم الأسباب التي منعت “إسرائيل ” من تحقيق الانتصار على حزب الله، سواء في حرب تموز، أو في مراحل مختلفة شهدت فيها العلاقة بين الجانبين توتراً ملحوظاً، كما جرى خلال الشهرين الماضيين. يرى رونين برجمان،  أحد أهم الخبراء والمفكّرين الاستراتيجيين في الكيان الصهيوني، والذي يُعدّ رأيه مسموعاً بشدة داخل المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية، أن المواجهة مع حزب الله سواء بشقّيها العسكري أو الأمني، كشفت عن وجود قصور هائل لدى الجانب الإسرائيلي في أمرين اثنين، وهما يكادان يمثلان عاملي الحسم الأساسيين في تلك المواجهة.

الأول يقوم على الاعتقاد الذي كان سائداً وما زال لدى المؤسسة العسكرية بأن حسم أي عملية صغيرة كانت أو كبيرة يعتمد في الأساس على هجوم جوي واسع، بمساندة قوة بريّة صغيرة، تقوم بتنفيذ بعض العمليات “الجراحية” الحسّاسة، أما الأمر الثاني فهو، حسب برجمان، الاعتقاد بوجود تفوّق استخباري إسرائيلي كاسح على جميع أعداء “إسرائيل” في المنطقة بما فيهم حزب الله، وهذان الأمران ثبُت للجميع أنهما عبارة عن وهم، إذ إن الهجوم الجوي لم يستطع حسم أي معركة سواء في لبنان أو فلسطين، إضافة إلى أن التفوّق الاستخباري لم يعد بتلك النجاعة التي كان عليها سابقاً، حيث ظهر الكثير من الأنداد الأقوياء في المنطقة، والذين أصبح باستطاعتهم هزيمة الاستخبارات الإسرائيلية، وتوجيه العديد من الضربات لها في أكثر من مناسبة، وعلى أكثر من صعيد. 

وقد نجح حزب الله في خضم معركته الاستخبارية القاسية والصعبة في حرمان العدو من اختراق مؤسساته ولجانه المختلفة، وإن كان هناك بعض النجاحات التي حقّقتها أجهزة الاستخبارات الصهيونية، وهو الأمر الذي يمكن النظر إليه أنه طبيعي في ضوء ما تملكه تلك الأجهزة من إمكانيات وقدرات كبيرة، لا سيما وهي توجه المئات من عناصرها وعملائها للعمل في هذا الاتجاه، غير أن هذا النجاح المحدود لم يساعد العدو في تحقيق إنجازات ملحوظة، أو انتصارات استراتيجية، وظل في إطار النجاحات التي يمكن احتواء نتائجها من الطرف الآخر. 

اختراق حتى النخاع

تُعدّ الوحدة “8200” درّة الوحدات الاستخبارية في الكيان الصهيوني، ويُنظر إليها بإعجاب منقطع النظير لما حقّقته، حسب وجهة النظر الإسرائيلية، من نجاحات على صعيد العمل الاستخباري، سواء في المواجهة مع المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، أو أثناء الحروب بين الكيان الصهيوني والجيوش العربية.

 في حزب الله نظروا إلى هذه الوحدة باهتمام شديد، وبذلوا جهوداً كبيرة للتعرّف على طرق عملها الفريدة من نوعها، والتي تعتمد على التطوّر التكنولوجي المذهل بدرجة أولى، ومن ثمّ على الكوادر العلمية التي تخدم فيها، وهي كوادر ذات قدرات فردية وجماعية عالية المستوى.

في شباط/فبراير من العام 1999، نفّذ جهاز الاستخبارات في حزب الله إحدى أكثر عملياته تعقيداً، استهدف فيها الوحدة الأكثر سرّية في الاستخبارات الصهيونية، الوحدة “8200”، في عملية تم وصفها من مسؤول إسرائيلي رفيع حينذاك بأنها “اختراق حتى النخاع “.

 في ذلك الوقت، قامت إحدى الوحدات المقاتلة في حزب الله، والتي كان بين أفرادها ضباط استخبارات رفيعو المستوى، بشن هجوم على مقر الكتيبة 20 التابعة لما كان يُعرف بـ”جيش لبنان الجنوبي” (جيش لحد)، وقامت الوحدة وفي عملية بدا أنها أُعدّت بعناية بتفجير مبنيين لتلك الكتيبة، ما أوقع قتلى وجرحى في صفوف حاميتها العسكرية، تلا ذلك انسحاب المقاتلين إلى مناطق الجنوب كما جرت العادة خلال مئات العمليات في ذلك الحين.

بعد دقائق، كانت قوات الاحتلال الصهيوني ترسل تعزيزاتها إلى المكان المستهدف، وتقوم بتمشيطه بشكل دقيق، حيث عثرت على بعض مخازن الذخيرة الفارغة، وفتيل تفجير بطول 30 سم، إضافة إلى جهاز هاتف صغير. هذا الجهاز الذي اعتقد الجنود أنه سقط خطأ من مقاتلي حزب الله عُدّ كنزاً معلوماتياً كبيراً، إذ تم نقله بسرعة إلى جهات الاختصاص في قيادة المنطقة الشمالية، التي أرسلته بدورها إلى قيادة الوحدة ” 8200 ” في “تل أبيب”، والتي تملك كل الوسائل والخبرات لتفكيكه، والحصول على المعلومات التي بداخله.

تم تسليم الجهاز حينها إلى رئيس الشعبة المتخصصة في متابعة نشاطات حزب الله، والذي سلّمه بدوره إلى الفنيين “عوديد وعنبار ” العاملين في المختبرات الحديثة الموجودة في الوحدة، فحاولا فتح الجهاز للبدء في محاولة استكشافه ومعرفة خفاياه، لكنهما وجدا أن بطاريته قد نفدت، ما اضطرهما إلى توصيله بشاحن كهربائي وهنا كانت المفاجأة!

انفجر الجهاز بمجرد توصيله بالشاحن، مخلّفاً انفجاراً عنيفاً داخل مختبرات الوحدة، ما أدى إلى إصابة الضابطين المشرفين على العملية بجروح خطيرة. هذه العملية المعقّدة عُدّت في حينها اختراقاً خطيراً للغاية، ودقّت ناقوس الخطر بأن هناك خصماً قوياً وعنيداً ومحترفاً يمكنه إصابة المنظومة الاستخبارية الإسرائيلية في القلب، ويستطيع أن يصل إلى أكثر المنشآت السرّية فيها، رغم ما تحظى به من إجراءات أمنية مشددة.

لم تكن هذه العملية الوحيدة الناجحة في قاموس إنجازات جهاز استخبارات حزب الله في مواجهة “إسرائيل”، إذ قبل ذلك التاريخ بعامين تقريباً تمكّن الحزب من اختراق ترددات الطائرات المسيّرة لـ”جيش” العدو، والتي كانت تنفذ عمليات مسح جوي مكثف فوق منطقة انصارية في الجنوب اللبناني، واستطاع خبراؤه من خلال مقارنة البيانات، وقراءة الخرائط، تحديد عدة أماكن محتملة لعملية عسكرية إسرائيلية منوي القيام بها، وقام بمراقبة حثيثة ومستدامة لتلك المناطق، وزراعة الألغام فيها، ونشر في محيطها عدة مجموعات من قوات النخبة التابعة له.

التحليق الجوي المكثف لطائرات العدو في ذلك الوقت لم يكن عبثياً، وإنما جاء نتيجة تسريب جهاز استخبارات حزب الله معلومات موجّهة وصلت إلى قوات الاحتلال، وتفيد بأن أحد أبرز قادة الحزب الميدانيين موجود على الدوام بالقرب من تلك المنطقة. وبناءً عليه، قررت “إسرائيل” مراقبته بشكل دائم، لتستطيع لاحقاً اغتياله إما من خلال الجو، أو من خلال زرع عبوة ناسفة كبيرة في الطريق الذي يستخدمه، وكانت سابقاً قد استخدمت الأسلوب نفسه في اغتيال قادة آخرين.

هذه العملية بالتحديد كانت تُعدّ مغامرة خطرة للغاية من جانب حزب الله، إذ كان من الممكن أن تلجأ “إسرائيل” إلى استهداف القيادي بواسطة سلاح الجو، وهذا الأمر كان سيؤدي إلى ضرر ثنائي، الأول أن الحزب سيخسر قائداً ميدانياً مهماً، والآخر أن الكمين الذي يُعدّ له الحزب، ويحاول استدراج قوات الاحتلال إليه سيفشل فشلاً ذريعاً، لذلك قامت استخبارات حزب الله بفرض رقابة صارمة حول الهدف المطلوب، وحددت له مسارات تحرك وإقامة حدّت بشكل كبير من خيارات العدو الجوّية، وجعلت نسب نجاح استهدافه من الجو لا تتجاوز الـ 10 %، وهذه النسبة تُعدّ منخفضة جداً بالنسبة إلى العدو، الذي يرغب دائماً في تنفيذ عملياته بنسبة نجاح تفوق الـ 90 %.

وقد نجحت خطة الحزب بشكل مُذهل، إذ ابتلع العدو وأجهزة استخباراته الطعم، وقام في ليلة الخامس من أيلول/سبتمبر من العام 1997بإعطاء إشارة البدء لعملية نوعية أطلق عليها ” أغنية الصفصاف “، وأبحر 16 مقاتلاً من الوحدة “شييطت 13 ” التي تُعدّ ثاني أهم وحدة نخبوية في “الجيش” الصهيوني بعد وحدة “سييرت متكال “من شاطئ نهاريا في اتجاه شاطئ بلدة انصارية في الجنوب اللبناني، ونفذوا عملية “إبرار” بحري قرابة الساعة 12:40 دقيقة بعد منتصف الليل، وساروا مشياً على الأقدام حتى وصلوا إلى أحد الطرق الترابية القريبة من المكان.

كانت المجموعة مزوّدة بعبوات ناسفة حملها الجنود على ظهورهم، وكانوا ينوون نصبها في أماكن قريبة من بعضها البعض، لتتمكّن من قتل القائد الميداني في حزب الله. بعيد الساعة 12:45 دقيقة بثوان قليلة، أي بعد خمس دقائق فقط من نزول القوات على الشواطئ اللبنانية، انفجرت عبوة ناسفة كبيرة الحجم بالقوات الإسرائيلية، قتل فيها قائد القوة، تبعتها عبوة ثانية وثالثة، تلا ذلك وخلال 45 دقيقة تقريباً هجوم بالرشاشات والقنابل اليدوية نفذته وحدات النخبة في حزب الله، ما أدى إلى إبادة معظم أفراد القوة الإسرائيلية، حيث سقط منهم 12 قتيلاً، من بينهم أحد جنود وحدة “إيغوز” التي جاءت لإخلاء القتلى، وأُصيب أربعة آخرون، في عملية أُطلق عليها “كارثة الشييطت “، والتي تم في إثرها تشكيل أربع لجان تحقيق للوقوف على الأسباب التي أدّت إلى حدوثها. 

في حزب الله لم تقتصر النجاحات الاستخبارية على عمليات نوعية كالتي أشرنا إليها آنفاً، إنما وصل الأمر إلى تمكّن الحزب من اختراق المجتمع الإسرائيلي، وتجنيد عدد لا بأس به من العملاء والجواسيس للعمل لصالحه، وهو الأمر الذي عدّه الكيان الصهيوني تجاوزاً للخطوط الحمر التي لا ينبغي لأحد تخطّيها.

في الجزء الثالث من هذا المقال سنكتب عن نجاحات جهاز استخبارات حزب الله على صعيد الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وما هي الطرق التي استخدمها للوصول إلى هذا الهدف.

التعليقات مغلقة.