لبنان وسوريا: تكامل في مواجهة الفدرلة والحياد ولبنان الساحة / د. ساسين عساف

383

د. ساسين عساف* ( لبنان ) – الأحد 17/9/2023 م …

(محاضرة ألقيتها في جامعة سيدة اللويزة في 15/1/2009 أنشرها اليوم ردّاً على الفدرلة والحياد ولبنان الساحة)

 

منذ إنشاء الدولتين والعلاقة بينهما مشدودة بين طرفي نقيض:

  • الكيانيون اللبنانيون ونظرية التمايز المطلق أو الفرق الجذري بين لبنان وسوريا،

هذه النظرية أسّست للتوتّر بل لما هو أبعد من ذلك بين البلدين فاستغلّت علم الأصول العرقية وعلم التاريخ وعلم الجغرافيا والمناخ والتربة لتثبيت قواعدها ووضع لبنان خارج الحدود القومية أي خارج الهويّة والانتماء العربيين.

لقد تقبّل كثيرون التمييز الكلّي بين لبنان وسوريا بوصف هذا التمييز نقطة الانطلاق لسلسلة محكمة الصياغات من النظريات التاريخية والأوصاف الاجتماعية والاتنية والثقافية التي تتعلّق بهما.

هذا التمييز الكلّي بدأ مع “غلاة الكيانيين” لتسويغ ثبات الكيان اللبناني وإعطائه معنى تاريخياً ومادياً إلى درجة “الفرادة” التي تتجاوز بكثير معنى “الخصوصيّة.”

  • الوحدويون اللبنانيون والسوريون ونظرية الشعب الواحد في دولتين قطريّتين، سوريا الأم ولبنان الوليد المكتمل جغرافياً بانتزاع الأقضية الأربعة

هذه النظرية سوّغت لسوريا الجنوح إلى “السيطرة” واسترجاع لبنان إلى داخل الحدود القومية أي إلى داخل الهويّة والانتماء العربيين.

هذا التناقض الحادّ بين النظريتين، لبنان داخل الحدود القومية أو خارجها، لبنان لبناني الهويّة والانتماء أو لبنان عربيّ الهويّة والانتماء، شكّل على مدى عشرات السنين الاشكالية الأساسية في العلاقات اللبنانية/السورية وبدت معها أزمات لبنان باستمرار أزمات هويّة وانتماء.

أزمة الهوية والانتماء في لبنان كانت تشتدّ عندما كانت تستخدم التصنيفات (انعزالي، وحدوي، عميل، وطني…) استخداماً متصلّباً وحادّاً وتكون النتيجة إمّا تعميق التمييز عند جهة وإمّا السعي إلى إزالته عند جهة أخرى فيندفع الفكر أو الخطاب السياسي أو الايديولوجي في قنوات الثنائيات الضدّية والعدائية ويسعى الأقوى إلى السيطرة على الأضعف فتستعر لديه نزعة الاخضاع والالحاق، ويسعى الأضعف إلى اللجوء إلى من له مصلحة في أن يرفع عنه يد الأقوى فتستعر لديه نزعة طلب الحماية والحياد.

إنّ تسوية أزمات لبنان أثبتت أنّ الدولة اللبنانية لا يمكنها أن تعيش بالاستقلال التام الذي يقارب حدّ الانفصال والسيادة المطلقة التي تقارب حدّ القطيعة عن الدولة السورية بالمعنى الذي يرمي إليه “غلاة الكيانيين، وذلك لعدّة عوامل:

منها ما هو داخلي يتعلّق بالوحدة الداخلية.

ومنها ما هو خارجي يتعلّق بالعدوان الصهيوني على لبنان ومطامع الدولة العبرية فيه.

هذه العوامل تدعو إلى فهم واقعي لوضع لبنان الجيوبوليتيكي الراهن ولموقعه في المشاريع المتصادمة في المنطقة لكي يتمكّن كيانه ودولته من البقاء. وعليه،

إنّ أطروحة الاستقلال التام والسيادة المطلقة ومحاولات دفن الرؤوس في الرمال كي لا نرى ما يعصف بالدولة وبالكيان فندّعي العفّة والبراءة من كلّ ما هو حاصل عندنا وحولنا، هذه الأطروحة بديلها السعي اليومي لإيجاد صيغ التكامل في المجالات المتاحة التي تفرضها طبيعة التحديات المطروحة على اللبنانيين والسوريين.

تكامل الدولة اللبنانية مع الدولة السورية، مع الحقّ في الاحتفاظ بالخصوصية، هو ضرورة حيوية لبقاء لبنان لأنّه:

  • يخرج لبنان من أزماته الداخلية.
  • يجنّبه صراع الهويات وتداعياته التقسيمية أو التجزيئية.
  • يدخله في عصر التجمّعات الإقليمية وفي حيّز إقتصادي واسع.
  • يمكّنه من مواجهة تحدّي المشروع الإسرائيلي الصهيوني وتداعياته.

 

هذا التكامل يسوّغه سؤال واحد وثلاثة أجوبة:

ما هو مستقبل الدولة اللبنانية؟

  • دولة متكاملة مع الدولة السورية تمهيداً لتكاملية أوسع تشمل دولاً عربية أخرى (العراق، الأردن، فلسطين… في مرحلة أولى)
  • دولة فيدرالية محايدة.
  • لا دولة، ساحة صراع اقليمي وتصادم مصالح دولية، صيغة حكم هشّة قائمة على اقتسام السلطة والمحاصصة الطائفية والفساد والفتن الداخلية المتنقّلة..

الأوّل هو الجواب الأصحّ فسوريا ولبنان دولتان شقيقتان تحكم علاقاتهما تحديات مستقبلية واحدة سياسية واقتصادية وأمنية فضلاً عن هوية عربية واحدة وانتماء عربي واحد.

الجواب الثاني، دولة فيدرالية محايدة، طرح له مناصروه ولكنه غير واقعي وشروطه التقنية والسياسية والموضوعية غير متوافرة، واذا كان البعض يرى أنّ شروطه متوافرة فإنّ فرص فرضه بقرار من المجتع الدولي أو فرص قبوله من الدولة العبرية (بسبب مطامعها) ومن الدولة السورية (بسبب أمنها) غير موجودة لا بل مرفوضة كلّياً فضلاً عن عدم مقبوليته لدى غالبية القوى السياسية الداخلية..

الجواب الثالث، لا دولة، هو الترجمة العملية لما هو قائم. فهل هذا هو ما يريده اللبنانيون؟!

الرؤيا إلى مستقبل العلاقة التكاملي هي مجرّد رؤيا استراتيجية وهي لا يمكن أن تكون إلّا كذلك لأنّ أحداً لن يقوى على اجتراح أعجوبة التكامل في المدى القريب أخذاً بالاعتبار مجموعة التعقيدات القائمة حالياً في العلاقة بين البلدين وتطبيقاً للمبدأ القائل: ليس بالتنازلات المتبادلة يتمّ التكامل بل بالتقديمات المتبادلة. فأين هو الطرف القادر اليوم على العطاء بدون النظر إلى حجم ما يأخذ؟!

 

قيود العلاقة التكاملية بين الدولتين

   1- تكوّن لبنان نهائياً  كدولة وذلك وفق الإجراءات الآتية:

               – قيام دولة في لبنان بالخروج من عقدة حداثة التكوين ومعطوبية التركيب.

               – تظهير إرادة لبنانية جامعة في بناء دولة حديثة.

               – تعزيز ثقة المسؤولين في الدولة العتيدة بقدرتهم على “ممارسة الندّية” في علاقاتهم الرسمية بالمسؤولين في الدولة السورية. فالندّية ثقافة لا تبنى ولا تنمو بالتحريض والخوف بل بالثقة بالذات وبالآخر.

2- تظهير إرادة سورية في النظر إلى “دولة لبنان الكبير” غير نظرتها إلى الدول التي أنشئت في الداخل السوري في العام 1920 بقرار من المفوّض السامي الفرنسي:

دولة الشام، دولة حلب، دولة اللاذقية، دولة جبل الدروز، دولة سنجق اسكندرون.. وهي دول دمجت في “الدولة السورية” باستثناء “دولة لبنان الكبير” التي استقلّت و”دولة سنجق اسكندرون” التي ألحقت بالدولة التركية.

بهذه النظرة الجديدة تتخلّى سوريا عن تحفّظها في اعتبار لبنان دولة مكتملة الشروط.

وبهذه النظرة تسقط نهائياً أطروحة السيطرة على المدى الحيوي أو الوصاية على الحكم.

وبهذه النظرة تميل سوريا إلى التعامل الرّسمي مع الدولة اللبنانية وليس مع بعض القيادات أو القوى السياسية. وهي التي حصدت من هذا التعامل مع بعض هؤلاء أشدّ النتائج سوءاً..

إنّ الأصل الحاكم لهذه النظرة السورية الجديدة المطلوبة للدولة اللبنانية هو الآتي:

التكامل لا يكون الاّ بين متساوين في الوضعية الاعتبارية.

التكامل لا يلغي الخصوصية.

 

3 – الإقلاع النهائي عن التفكير ب/ أو السعي إلى/ إقامة دولة فيدرالية محايدة في لبنان تجتمع فيها كيانات طائفية أو مذهبية خصوصاً متى أقيم فيه كيان جغرافي/مسيحي مؤسّس على فكرة التمايز في الهويّة والانتماء، فالنظرة إليه ستكون هي نفسها النظرة إلى الكيان العنصري الصهيوني، وسيعتبر ذلك تالياً إنتصاراً تاريخياً للمشروع الصهيوني المعدّ للمنطقة والقائم على تفتيتها إلى كيانات طائفية ومذهبية وإتنية، وتهديداً لأمن سوريا ووحدة دولتها.

مقبولية الكيان اللبناني تكاد تكون مستحيلة فكيف بمقبولية كيان مسيحي؟!

أمن مصلحة المسيحيين الدخول مجدّداً ورسمياً هذه المرّة في حرب الكانتونات التي تحكمها العصبيات والعنصريات الدينية؟!

 

4- إجراء تحوّلات بنيوية في النظامين اللبناني والسوري:

        – إصلاح سياسي عماده الديموقراطية وبناء دولة الحقّ والقانون وثقافة المواطنة.

        – إصلاح إقتصادي عماده المبادرة الفردية المقيّدة بمصالح الدولة العليا والمصلحة العامة خشية الوقوع في ما وقعت فيه الليبرالية الطليقة والرأسمالية المتوحّشة.

        – إصلاح ثقافي عماده التجدّد الحضاري على صعيد الفكر الديني والفكر القومي والفكر التربوي.

        – إصلاح إجتاعي عماده التنمية البشرية والعدالة الاجتماعية.

        – تعزيز النظام الأمني بوضع استراتيجية دفاعية مشتركة استناداً إلى المعطيات الجيوستراتيجية فيما يتعلّق بالصراع العربي/الصهيوني، فسوريا ولبنان فضلاً عن بعض فلسطين المحتلّة (الضفّة والقطاع) هما نقطة الاستهداف الصهيوني وهما يمثّلان حتى الساعة قاعدة المواجهة في هذا الصراع.

 

5 – التطلّع المشترك إلى بناء نموذج في العلاقات العربية/العربية وتجديد معنى العروبة:

إنّ الدولة اللبنانية والدولة السورية هما اليوم جزءان منفصلان من تنظيم عربي أوسع هو  “جامعة الدول العربية”. والتطلّع هو أن يشكّلا معاً جزءاً من تنظيم قومي أوسع ستكون له تسمية أخرى هي رهن لمدى التدرّج التكاملي بين الدول العربية بدءاً بالتكامل الاقتصادي ذلك أنّ الاقتصاد يتوجّه إلى المستقبل وهو يقوم على تكامل المصالح التي هي أهمّ معيار قائم حالياً في العلاقات الدولية.   

 

6 – تأصيل العلاقة بين لبنان وسوريا بما يتجاوز العلاقة بين دولتين إلى العلاقة بين جماعات تنتمي إلى نظام قيم وأنماط سلوك وعادات وتقاليد وإرث ثقافي وذاكرة حضارية ومنجزات وتكوّن وتطوّر في سياق تارخي واحد، أي بين جماعات تنتمي إلى هويّة واحدة.

هذا التأصيل هو شرط لازم لبناء الرؤيا المستقبلية.

هذا التأصيل لا يحجب النظر أو التنبّه إلى التحوّلات الجارية في الزمن الراهن، فالمسافات بين الأمم والشعوب تقلّصت إلى حدودها الدنيا فكيف بالمسافات بين جماعات تجمعها وحدة الهوية والانتماء؟!

 

7 – تخطّي المعطى السيكولوجي الذي خلّفته ممارسات سيّئة قام بها سوريون ولبنانيون (الخوف من الآخر والرغبة في تدميره أو في الثأر منه..)

إنّ المعطى السيكولوجي لا يؤسّس لرؤيا إنقاذية مستقبلية بل يحجز صاحبه في أقبية الموروثات السلبية وحمأة العصبيات الموتورة.. وهذا ما يستدعي تغليب الواقعية المنفتحة على الممكن الايجابي.. والممكن الايجابي له شروطه الموضوعية كي يتحوّل إلى واقع.. من أهمّ هذه الشروط العقلانية في قراءة الوقائع واستجلاء الحقائق وبناء الاحتمالات.

 

8 – تخطّي ” المركزية الأنوية ” في تحديد الهويات الحضارية المرتبطة بالتاريخ وتعظيمها إلى البساطة الاجرائية والقانونية في تحديد الهويات السياسية المرتبطة بالدولة:

نحن هنا لا نبحث في هوية لبنان/الحضارة، لبنان الخمسة آلاف سنة أو يزيد، ولا نبحث في هوية سوريا/الحضارة، سوريا الماقبل خمسة آلاف سنة أو ما بعدها، ونحن هنا لا نتبارى في من له السبق في الأقدمية، فمجال البحث في هذه السياقات مازال قائماً ومفتوحاً وهو لن ينتهي مهما طال إلى قرار معرفي حاسم ونهائي..

نحن هنا لا نبحث عن لبنان الفينيقي القدموسي ولا المصري ولا الإيجي ولا الآشوري ولا الفرسي ولا الاغريقي ولا الروماني ولا البيزنطي ولا العربي ولا العثماني ولا الأوروبي.. فهذا هو لبنان الأرض والتاريخ أنّى وحيث تراكمت حضارات وتمازجت شعوب.. وهذا ما ينطبق على سوريا الأرض والتاريخ.. وإنّ للبنان وسوريا، من كلّ هذا، من المشتركات ما لا ينكره باحث..

منطلقنا هويّة لبنان السياسية الحقوقية والدستورية المرتبطة بنشوء الدولة اللبنانية واستمرارها، وغايتنا تأطير هذه الهوية أو تحديد علاقتها بالدولة السورية وفق ما يقتضيه المبدأ الدستوري القائل: “لبنان عربيّ الهويّة والانتماء.”

وعليه نحن لا نفسّر هويّتنا السياسية والحقوقية والدستورية بما كنّا منذ آلاف السنين فالهويات ليست بنى ثابتة بل متحوّلة في التاريخ وفي الجغرافيا.. الهويات صناعة يومية وهي من صنع الشعوب وهي لا تخرج من بواطن الأيام الخوالي، فالتاريخ يواجهه الواقع الحيّ.. والتاريخ بمعنى الماضي لا يموت، هذا صحيح.. ولكنّه من غير الجائز أن يطبق على الراهن ويميت الآتي..

 

9- “لبنان عربيّ الهويّة والانتماء” بالاختيار والحرية فلا قدريّة ولا إكراه في الهويّة والانتماء.

الهويّة هي المعنى المستمدّ من الكينونة والمرتبط بالصيرورة. إنّها انبناء تاريخي مستمرّ. لا يصنعها التاريخ بل الوعي لحركة التاريخ.. والوعي لحركة التاريخ لا ينفصل عن صنعه.. البشر يصنعون هوياتهم بالاختيار والحرية من خلال وعيهم للاتّجاه المصيري.. والهويّة هي للمستقبل كاتّجاه مصيري..

هويّة لبنان لا تجد معناها المستقبلي الاّ في الانتماء العربي ولا يمكن فصل صيرورتها عن هذا الانتماء.

فهل نحن في المكان الصحيح من حركة التاريخ؟  

————

* ساسين عساف

  • دكتور في الفلسفة والآداب، قسم الدراسات العربية والإسلامية، كلية الفلسفة والآداب، جامعة مدريد، 1977
  • عميد كلية الآداب والعلوم الانسانية، الجامعة اللبنانية، 1985-1993
  • مستشار رئيس الجامعة اللبنانية للشؤون الأكاديمية، 2006 – 2011
  • أمين عام المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة 2005
  • باحث ومحاضر في العديد من مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية الوطنية والعربية.
  • كاتب في القضايا الأدبية والثقافية والسياسية في العديد من الصحف والمجلات الوطنية والعربية والمواقع الإلكترونية.

 

التعليقات مغلقة.