حكاية بيسيركا (وتعني اللؤلؤة)  / ناجي الزعبي

1٬622
عاشقان أتعبهما الهوى - رؤية وطن
ناجي الزعبي ( الأردن ) – السبت 18/2/2023 م …
في احدى غرف ( ستودنسكي غراد ) المدينة الجامعية في ( بلغراد ) او بيوغراد اي المدينة البيضاء ، عاصمة يوغسلافيا السابقة وصربيا حالياً ، كنت اقطن ك ( ليغلاتس ) وهو لقب يطلق على الطالب الذي يقطن السكن بوجه غير مشروع اي مقيم غير رسمي بالمدينة الجامعية بدلا من طالب غادر لسبب ما ولفترة مؤقتة .
كان (علي ) صاحب الغرفة طالب الهندسة الابسولفنت ( اي الخريج والذي يقضي اخر سنة دراسية له )  قد غادر الى فلسطين والحرب هناك مستعرة .
فاقترح على الاصدقاء ان استخدم غرفته بعد ان استأذنوا علي الذي لم يتردد بالموافقة وسلمني مفتاح غرفته .
وهي فرصة اذ يمكنني ان اقيم مكانة مجانا فأجرة الغرفة مدفوعة من قبلة وأنا شبة مفلس .
كنت أقطن بالبيجانيا مع الزميل احمد الردايدة ، وهي ضاحية تبعد قليل عن قلب بلغراد والدوم يقترب بي اكثر منه .
استقليت (التروليبوص تري ديست شيست آ) اي الترمواي ٣٦ A، مصطحباً حقيبتي المتواضعة بعد ان ودعت زميلي بالغرفة  احمد وجاري نصر والجازرديتسا ( صاحبة المنزل الذي اقطن به ) .
وصلت مساءً والفرحة تكاد تفرُّمن عينيّ
   فأن الان لوحدي بغرفة مستقلة خاصة ومجانية .
ايام قليلة مضت على اقامتي السعيدة الهانئة في غرفة الزميل علي فأنا اقطن مجاناً وأتناول الطعام في ( المينزا) اي مطعم الطلبة حيث أسعار الوجبات رمزية و لا تزيد  عن مبلغ دينار اردني واحد لافخم الوجبات ، وكانت وجبتي اليومية ( الباسول بزّ ميسو ) الفاصوليا البيضاءبدون اللحم نظراً لسعرها المتواضع حيث كانت الوجبة تكلف ما يعادل  قرشين  اردنيين تقريباً .
ذات صباح عبقري قرع باب الغرفة ودخلتها فتاة فائقة الجمال دون انتظار, كان شعرها الاشقر ينسدل فوق كتفيها في تناسق بديع وعيناها الخضراوان كربيع نيسان امرا استثنائيا فالمعهود ان الشقراوات يتمتعن بعيون زرقاء ،،،، ,
الا ( بيسيركا ) وهذا اسمها كما اعلمتني   كانت تدندن بأغنية فيروز الساحرة ” بكتب اسمك ياحبيبي ” حين توقفت وسألتني وأنا مشدوة اتسائل من هذة الفراشة ذات العيون الخضر ؟
تذكرت نزار حين يقول : استوقفتني والطريق لنا ذات العيون الخضر تشكرني… كرمتني ؟ قالت بأغنية …  الشعر يُكرم اذ يكرمني !
وأفقت لتكرارها السؤال اين علي ؟ وهي تتجول بأرجاء الغرفة شبه الخالية الا من سرير وفرشة متواضعة ومقعد وبضع اوان للطهي وإبريق ماء زجاجي وآخر للشاي ، وتساءلت ماذا تفعل هذه الساحرة التي تسللت لغرفتي الجرداء كسحابة عطر أنثوي ، ولماذا تتجول بالغرفة القاحلة .
لكني انتزعت نفسي من شرودي واجبتها
قلت  : مسافر .
اجابت : اعلم ,
ثم غادرت فجأة كما اقتحمت خلوتي فجأة كغلالة اختطفها الريح .
وانا مسحور بهذا العبق والحلم المستحيل ولا اكاد اصدق الذي حصل !
ومضى اسبوع آخر لتعود بيسيركة تقرع الباب وتدخل دون استئذان ويداهمني عطرها الاخاذ وحضورها الطاغي ويختلط علي الحلم والصحو وانا مشدوه بهذا الالق ..وهي تدندن بأغنية فيروز بكتب اسمك ياحبيبي وسألتني:
اين علي الم يعد ؟
 قلت  : لا لم يعد بعد .
قالت  : اعلم .
ادهشتني الاجابة , فلم تسأل وهي تعلم الرد ! سألتها انت ترددين اغنية عربية , قالت نعم فهي للساحرة فيروز وانا احفظ كلماتها وأكملت الاغنية كمن يأخذة سحر الكلمات ودلالاتها وتفوق اللحن الآخاذ  :
بكتب اسمك يا حبيبي
عالحور العتيق
بتكتب اسمي يا حبيبي
ع رمل الطريق
وبكرة بتشتي الدني
ع القصص المجرحة
يبقى اسمك يا حبيبي
 واسمي بينمحى ! .
ومضت كعهدها وهي تدندن كفراشة مسافرة وخطواتها تتساقط كوقع بيان .
ايام لا اذكر عددها مضت حين اقتحم علي وحدتي طرق الباب وأنفراجة , ودون انتظار انبلج عنها , وشعرها يتناثر على كتفيها وعيونها الخضر تمتليء حيرة وضياع وشفتيها تتمتمان بكلمات فيروز ولحنها العبقري حين سألت سؤالها المعهود كما انتظرت , ودون انتظار الرد قالت : لن يعود , اعلم انة لن يعود , فقد محت رغوة البحر وابتلع المحار حروف اسمة هكذا تقول فيروز .
قلت : هذه قصة أفرودايت التي وُلِدت من رغوة البحار وزبد البحر على شواطئ  مدينة ليماسول بقبرص وأذابها موج البحر باحضانه  .
قالت : ربما هناك حكاية اخرى ببلغراد ، حكاية اكثر وجعاً وإيلاماً .
 اوجعني هذا الحنين الطاغي وهذه المشاعر الرقيقة المؤثرة لعلمي ان الفتاة الشرق أوروبية تعشق بلا حدود وبصدق وعمق وبإخلاص قل نظيره .
دعوتها على العشاء فلربما خفف حديثنا المتبادل من وجع روحها المكسورة ، وانا اتمنى ان ترفض دعوتي  فلدى كوبون وجبة واحدة ، قلت لو استجابت لطلبي فسامنحها عشائي بذريعة انني غير جائع ، لكنها لبت دعوتي ومضت معي وهي  موزعّة الوجدان تغرق في شرودها القسري
تقدمنا معاً لمكان توزيع الطعام  وأما أنواع الطعام سألتها ماذا تحبين ان تتناولي
نظرت الي دون ان تجيب وعيناها تحدقان بالأفق ومضت دون التفاتة
مضت  بيسيركا دون التفاتة الي  وهي تتمتم بكتب اسمك يا ….ثم ابتعدت وأختفى صوتها وغابت في الزحام … وحروف الاغنية تتساقط كبرد بلغراد وقطن ثلجها الفضي الذي ارخى وهجة على اوراق الشجر من شفتيها .
مضت الايام وعلي لم يعد , واكتظت  الايام وانا انتظر ,
لكن علي لم يعد ولن يعود .. فقد التهمته المعركة
وبيسيركا لم تعد فقد ابتلعها موج العشق المستحيل ..
وقوافل العشاق المكلومين
وحكايات وعذابات الفلسطينيين الذين غادروا الوطن والتراب ولم يغادرهم

التعليقات مغلقة.