فلسطينيون في الجامعات الإسرائيليّة … ماذا يعني ذلك؟ وكيف نفهمه؟!

398

مدارات عربية – السبت 28/1/2023 م …
أن تدرس في جامعةٍ إسرائيليّة يعني الكثير: يعني أن تتعلم «فلسفة الأخلاق» من محاضرٍ يجاهر بضرورة تهجيرك من أرضك، أن تتعلم في علم الاجتماع مثلاً عن قريتك وعائلتك ونفسك كنموذج للمجتمعات المتخلّفة. أن تدرس تاريخاً يقول إن شعبك «باع اليهود الأرض أو فضّل الهجرة من تلقاء نفسه». أن تدرس الجغرافيا أو الهندسة المعماريّة في خرائط لا ترى وجود عشرات الآلاف من شعبك. أن تكون شريكاً

أن تدرس في جامعةٍ إسرائيليّة يعني الكثير: يعني أن تتعلم «فلسفة الأخلاق» من محاضرٍ يجاهر بضرورة تهجيرك من أرضك، أن تتعلم في علم الاجتماع مثلاً عن قريتك وعائلتك ونفسك كنموذج للمجتمعات المتخلّفة. أن تدرس تاريخاً يقول إن شعبك «باع اليهود الأرض أو فضّل الهجرة من تلقاء نفسه». أن تدرس الجغرافيا أو الهندسة المعماريّة في خرائط لا ترى وجود عشرات الآلاف من شعبك. أن تكون شريكاً في حوارٍ «بنّاء» يقارن بين النظم الإداريّة لجهاز دولة قائمة على نفيِك، وأن تناقش إن كانت العدالة قيمة كونيّة أم خاضعة للمكان والزمان، مع قاضٍ في محكمة عسكريّة. هذا جزءٌ اعتيادي من يوميّات الطلاب الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة العام 1948.

أستاذ الفلسفة شطاينيتس

يتعلّم الفلسطينيّون في الجامعات الإسرائيليّة، لأن ذلك واقعاً فُرض عليهم تاريخياً، من جملة ما فرضه الاستعمار بعد النكبة، شرطاً لبقائهم في أرضهم. وأن تكون منهم يعني أن تكتب في الامتحانات والواجبات الجامعيّة ما يريد الحاكم القوي أن يسمعه وليس ما تُفكر به في الحقيقة. هذه ضرورة يضعها الطالب الفلسطيني حلقةً في أذنه في مرحلة مبكرة في المدرسة، من يقيّمك في النهاية لتحصل على شهادة تؤمن مستقبلك، هي امتحانات حكوميّة إسرائيليّة، وعليك أن تكتب ما يريدون، خاصةً بالكتابة التعبيريّة والتاريخ والجغرافيا وطبعاً… «دروس المواطنة». هكذا تتحوّل الدراسة بالأساس إلى تعلّم لكيف يجب أن تُفكر، كيف يريدك الجهاز الإسرائيلي أن تُفكّر.
أن تتعلم في جامعة إسرائيليّة يعني أيضاً أن تدرس الفنون الجميلة مع «زملاء» بالزيّ والبسطار العسكري للاحتلال، وأن تحقد على محاضر في الكيمياء لمجرد أنه حصل على جائزة نوبل، وبيّض بها وجه إسرائيل. أما محاضرات الفلسفة حول وجود الخالق أو عدمه، فقد يقدمها لك محاضر (إسمه شطاينيتس) سيتحوّل بعد سنوات قليلة إلى وزيرٍ للشؤون الإستراتيجية والمخابراتيّة في حكومة الاحتلال، وهي وزارة مسؤولة بشكلٍ مباشر عن الملف النووي الإيراني وخارطة التسليح في المنطقة، وهي مسؤولة في الوقت ذاته عن «الخطر الديموغرافي»، وهو ملف يعنى بالأساس بشؤون تحديد النسل والحُب والزواج والحمل عند الفلسطينيين. ومثل الجميع، سيهاجم المحاضر (والوزير المستقبلي) بشراسة خلال محاضراته، قبول الفيلسوف الألماني هايديجر لوظيفة أكاديميّة مرموقة في الدولة النازيّة.

الجامعة لا تجمعنا

يعتبر الصهاينة جيشهم «بوتقةً للصهر» بحيث أن الخدمة العسكرية توحّد اليهود المهاجرين إلى فلسطين من دول ومجتمعات مختلفة في قوميّة يهوديّة واحدة. الجيوش في كل الدول الوطنيّة تقوم بمهمة بناء الوعي بالانتماء للدولة ومؤسساتها، لكن الصهاينة بحاجة أمسّ بكثير لهذا العامل، لأن مشروعهم أساساً يعتمد على انتاج الشعب اليهودي، اختراعه واستئصال يهود الديانة من مكانهم الطبيعي كجزء من شعوب العالم الاخرى (بما فيها الشعوب العربية)، لبناء كيان استعماري في فلسطين. من جهة أخرى، وفي بلادٍ كثيرة، تقوم الأكاديمية بهذه المهمّة، وما تختلف فيه الجامعة عن الجيش هي أن عملية الصهر فيها لا تتم عبر العسكرة وأخوّة الدم والسلاح، ولا الطاعة العمياء للأوامر، بل تقوم على الصهر عن طريق التخلص من الشحنات الاجتماعيّة الرجعيّة في قالب حوار فكري وإنتاج علمي ومعرفي، عن طريق تداول المعرفة وتحكيم الخلفية الاجتماعيّة لبنية حوار فيه قدر جدّي من الموضوعيّة.
من هذه النقطة يأتي الافتراض بأن التعليم الجامعي مرحلة هامة جداً في تكوين الهويّة الوطنيّة الجامعة للفلسطينيين في الداخل. برغم أننا في بلدٍ مساحته صغيرة جداً، إلا أننا نقف أحياناً أمام حالات تكاد لا تُصدق: طلاب مسلمون لم يلتقوا بطلابٍ مسيحيين قبل دخولهم إلى الجامعة، أو طلاب من الشمال لم يلتقوا بطلاب من منطقة المثلث (وسط فلسطين)، شرائح اجتماعيّة مختلفة لم تتواصل من قبل. وسبق أن كتب العديد من النشطاء السياسيين في الجامعات حول هذا الجانب، والمقلق هو تعاملهم مع ذلك بشيء من الايجابيّة.
فما معنى أن يلتقي الفلسطيني بابن شعبه لأول مرة (وهم يبعدون عن بعضهم البعض ساعة سفر بالمعدل) في مساحة محكومة بجهاز الدولة الصهيونيّة؟ وهل يؤدي هذا اللقاء إلى صهرٍ حقيقيّ؟
بالحقيقة لا يحدث ذلك. الطلاب الفلسطينيون في الجامعات الإسرائيليّة في حالة صراعٍ جدّي مع المركز الصهيوني، مع محور الحياة الجامعيّة الصهيونيّ. هم ليسوا جزءاً من الخطاب أو الحوار الأكاديمي، ولا الإنتاج المعرفي. اغترابهم عن المكان هو سيّد الحالة النفسيّة والاجتماعيّة. الخطاب صهيوني بامتياز. إسرائيل بالنسبة للجامعة جزء من الطبيعة المفهومة ضمناً، وتتفق على مسلّمات كثيرة لا مكان للطالب الفلسطيني في مساحتها. هذا الواقع يطرد الطالب الفلسطيني من مركز الإنتاج المعرفي إلى هامش التلقين والحفظ، فتتحوّل الجامعة إلى مكانٍ تبصم فيه على ما يقول المحاضر بلكنته الاستعماريّة المتعالية، وانتهى الأمر.
هذا التهميش يُحيل الطلاب العرب إلى التمترس، تتحول الجامعة إلى حيّز تذهب إليه لقضاء حاجة واضحة: الحصول على شهادة. فجامعة حيفا القريبة من قرى الجليل تشكل مثالاً واضحاً على هذا الوضع، حيث يذهب مئات الطلاب يومياً من وإلى قراهم، أو أمثلة أخرى ينحصر الطلاب فيها داخل مساكن الطلبة، أو في تجمّعات سكانية محددة، يلتزمون بها وتتمحور حياتهم الجامعيّة حولها من دون تواصل (بشكلٍ عام) مع أي حيّز مدني مُحيط، لأن المدينة غابت وخضعت وهُوِّدت أيضاًَ.
لكن هل يؤدي هذا التمترس إلى تجمّعات ذات هويّة وطنيّة؟ أبداً. فإن شدّة النفور (القسري) من الإسرائيلي النقيض تتحوّل إلى ابتعاد عن المختلِف حتى وإن كان من ابناء شعبك. لذا فنحن نرى تراجعاً إلى دوائر اجتماعيّة ضيّقة مرتبطة بهوية جغرافيّة أو دينيّة، وبأفضل الأحوال تكون مرتبطة بهويّة حزبيّة سياسيّة.

أكاديميا من دون إنتاج

من غير الممكن أن يتحوّل الفلسطينيّون في الجامعات الإسرائيليّة إلى الإنتاج الأكاديمي، ولا التأثير على الخطاب بشكلٍ جديّ، وحتى إن فعلوا فهم يفعلون هذا كجزء من المنظومة القائمة، ويبقى ذلك خاضعاً لتنازلات شخصيّة ومبدئيّة، بل وأخلاقيّة كثيرة، تمكّن الصهيوني من قبولهم، وهو بالتالي يستفيد منهم ومن تنصيبهم في مواقع مرموقة لتلميع وجه المؤسسة الإسرائيليّة.
فإذا ما قسنا اندماج الفلسطينيين في الإنتاج الأكاديمي من خلال نسبتهم في درجات التعليم العليا، نرى أنهم يشكلون 11 في المئة من طلاب البكالوريوس، برغم أن الفلسطينيين أصبحوا بعد النكبة 20 في المئة من سكّان المناطق المحتلة العام 1948. ولكن الأهم أن هذه النسبة في البكالوريوس تهبط إلى 7 في المئة من طلاب الماجيستير، وتهبط إلى 3 في المئة من طلاب الدكتوراه. أما بين المحاضرين والأساتذة الجامعيين (الذي يعتمد عليهم البحث العلمي والانتاج الأكاديمي) فالفلسطينيون 2 في المئة فقط.

حذر بنّاء

لا مكان لفلسطينيي الداخل في الأكاديمية الإسرائيلية، وجودنا فيها اضطرار وفرض، وحاجة لشهادة جامعيّة تزيد فرص القبول لأماكن العمل وتحسين ظروف المعيشة للخروج من دوامات الفقر والتهميش.
نعيش على هامش الأكاديمية. نراقب ما يحدث من بعيد، لكن المعركة الحقيقية هي في أن يطوّر الطالب قدرةً على انتزاع المعرفة وتجريدها من صهيونيّتها، تلقّي وانتقاء ما يجب من معلومات ومصادر وتوجّهات مع الحذر من الوقوع في الأسرلة. وينجح بهذا الكثير من الطلاب الذين يستمرون في العطاء من أجل شعبهم. في حالات كثيرة، يتحول هذا الحذر بنفسه إلى موقف معرفي وتوجّه ثقافي يقود الكثير من الفلسطينيين إلى إنتاج أكاديمي وثقافي جدّي خارج نطاق الحالة الاستعمارية، وفي سياق وطنيّ خالص.