في الذكرى 105 لميلاد جمال عبد الناصر … عن التجربة الناصرية والواقع العربي الراهن / عدنان برجي
عدنان برجي* ( لبنان ) – الخميس 12/1/2023 م …
* مدير “المركز الوطني للدراسات”في بيروت …
الحديث عن التجربة الناصرية والواقع الراهن يستدعي التذكير بمرتكزات التجربة الناصرية وتوصيفات للواقع الراهن.
مرتكزات التجربة الناصرية تتمثل بالمبادئ الستة التي اعلنتها الثورة وبثوابت السياسة التي انتهجتها قيادة الثورة وطورتها خلال مراحل التجربة القصيرة في عمر الشعوب (1952-1970) ذلك انه منذ لحظة وفاة القائد جمال عبد الناصر بدأت سياسات مناقضة لمبادئ وثوابت التجربة الناصرية.
- المبادئ الستة المختصرة هي:
- القضاء على الإقطاع
- القضاء على الاستعمار
- القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم
- إقامة جيش وطني
- إقامة عدالة اجتماعية
- إقامة حياة ديمقراطية سليمة.
هذه المبادئ الستة كانت تعبيرًا عن الرد الوطني والقومي على تحديات الواقع الراهن آنذاك. فعلى الصعيد الداخلي كان الإقطاع الزراعي مسيطرًا إذ ان 0,5 بالمئة من كبار الملاّكين كانوا يسيطرون على 95% من الأراضي الزراعية. والاستعمار كان لا يزال مقيمًا مباشرة كما في اغلب الدول العربية او مواربةً كما في حالة مصر نفسها، وأيضا كانت البنوك وكبار الرأسماليّين يتحكمون بالحياة السياسيّة والاقتصاديّة. وجاءت الأهداف العريضة لضمان الأمن الوطني والقومي من خلال الجيش الوطني، حيث خبر قائد ثورة يوليو جمال عبد الناصر وهو يقاتل في الفلوجة في فلسطين ان أساس تحرير فلسطين يبدأ بتحرير الإرادة الوطنية لمصر وللدول العربية كافة. ولضمان علاقة طبيعية تربط بين المواطن والحاكم لابد من العدل الاجتماعي والسياسي سعيًا لإقامة مجتمع العدالة وتكافؤ الفرص.
اما الثوابت التي انتهجتها الثورة فكان أبرزها:
- مصر دولة عربية، افريقية، اسلامية، ولها دورها وتأثيرها ومسؤولياتها في الدوائر الثلاث، وهي بموقعها الجغرافي والسكاني ليست منعزلة عن دول العالم التي تتشابه ظروفها وتطلعاتها معها. لذلك سعت الثورة الى مساندة كل حركات التحرر في الوطن العربي وفي افريقيا والدول الاسلامية. فكانت السند الحقيقي لثورة الجزائر التي تحررت بفضل مقاومتها وبسالة شعبها والمساندة العربية لها بعد 132 سنة من الاستعمار الفرنسي الغاشم. وكذلك تحررت باقي دول المغرب العربي واليمن ودول الخليج من الاستعمار البريطاني، كذلك تحررت دول افريقية واسلامية، كما فتحت الثورة أبواب الجامعات المصرية والأزهر الشريف لكل طالب علم من الدول العربية والإفريقية والإسلامية بعيدًا عن كل تعصب فئوي أو مذهبي أو طائفي أو عرقي، وتم تطوير المناهج الدراسيّة في الأزهر لتشمل ميادين العلوم كافة وليس فقط العلوم الدينية.
- اذ كانت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية تحاول تقسيم العالم بين تابع للغرب الأطلسي وتابع للاتحاد السوفياتي، فقد سعت التجربة الناصرية الى الحياد الإيجابي من خلال دول عدم الانحياز التي اجتمعت في باندونغ عام 1955 وكان لهذه الدول بزعامة ناصر وتيتو ونهرو التأثير الكبير في مجريات أحداث العالم.
- مواجهة الاحتلال الصهيوني والاستعمار الغربي ورفض مشاريعه وأحلافه. وقد كان لانتصار مصر في مواجهة العدوان الثلاثي (فرنسا- بريطانيا- الكيان الصهيوني) الأثر المباشر في انهاء الاستعمار القديم ( فرنسا وبريطانيا) وفي اذكاء الروح الثورية عند الشباب في الدول الافريقية والآسيوية وأميركا اللاتينية.
- مركزيّة القضيّة الفلسطينيّة بالنسبة للعرب، فقد أدركت ثورة يوليو وقائدها ان احتلال فلسطين من الصهاينة بدعم مباشر من قوى الاستعمار وحتى من الاتحاد السوفياتي الصديق للعرب، انما يهدف وكما جاء في وثائق كامبل بنرمان الى زرع كيان غريب يفصل المشرق العربي عن مغربه ويحافظ على التجزئة العربية وعلى التخلف بين ابناء العربية. هذا المشروع كما هو معلوم لم ينشأ في بداية القرن العشرين او مع وعد بلفورد المشؤوم (1917) انما يعود تاريخه الى العام 1840 حين اقر مجلس وزراء بريطانيا برئاسة بالمرستون ضرورة زرع كيان غريب في فلسطين يفصل بين المشرق العربي ومغربه.
- التكامل بين الوطنيّة والقوميّة العربيّة، فالعروبة ليست الغاءً لأية وطنيّة، والوحدة ليست قصرية ولا الغائية، انما هي تكامل بين الوطنيّات العربيّة. واذا كان البعض يأخذ على الثورة وقيادتها الوحدة الاندماجيّة السريعة بين مصر وسوريا فقد كانت لهذه الوحدة الاندماجية أسبابها الموضوعية ومنها التهديدات التركيّة لسورية ومحاولة وضع سورية بين فكي كماشة: الأتراك من جهة والصهاينة من جهة ثانية. لقد قال عبد الناصر وهو يقدم وصفًا للوحدة انها وحدة تصون ولا تهدّد ، تحمي ولا تبدّد، تشدّ أزر الصديق وتردّ كيد العدو .
- الخلافات العربيّة -العربيّة تحل ضمن الأسرة العربية، ذلك ما حصل عام 1961 بين الكويت والعراق، وما حصل عام 1970 بين الأردن والمقاومة الفلسطينيّة ، وقد دفع عبد الناصر حياته ثمنًا لوقف نهر الدماء بين المقاومة الفلسطينية والجيش الأردني وتنفيذا لمقولتين راسختين في التجربة الناصرية: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ضد العدو الصهيوني، والمقاومة الفلسطينية وجدت لتبقى وسوف تبقى.
- التوأمة بين جناحي الديمقراطيّة وعنيت الحريّة الاجتماعيّة والحريّة السياسيّة، فلا استقلال مع الاستغلال، ولا حرية مع الجوع والفقر. لقد كان أول قانون أقرته الثورة وهي في أيامها الأولى هو قانون الإصلاح الزراعي، وكانت الصناعة الوطنيّة مجالًا لتشغيل اليد العاملة وضمان استقلالية الوطن وسيادته.
اما فيما يتعلق بتوصيف الواقع الراهن فيمكن الاختصار بالقول ان الواقع الراهن هو نقيض التجربة الناصرية بممارساتها وتطلعاتها وآمالها وذلك للأسباب التالية:
- فصل بين الوطنيّة والقوميّة، بل تغليب للقطرية الضيّقة على الإنتماء القومي والعمل العربي المشترك. حتى التضامن العربي بمعناه الضيّق بات معدومًا الى درجة ان كل دولة عربيّة تستقوي بالخارج على الشقيق العربي في اي خلاف بين دولة واخرى.
- تغليب للعصبيّات الطائفيّة والمذهبيّة والعرقيّة على الإنتماء الوطني والإنتماء القومي حتى اصبحت اكثر من دولة عربيّة مهددة بالتقسيم والتفتيت وفي اغلبها حروب داخلية هي اشبه بحروب داعس والغبراء. انه لمن المؤسف والمؤلم ألا تجد مبعوثا عربيًا يسعى الى لم الشمل بين المتنازعين في اي دولة عربية فيما نرى المبعوثين الأجانب ينفذّون أجندات دول بعيدة وقريبة. على العكس فقد وصل الأمر بالجامعة العربيّة الى طرد دولة عربيّة مؤسِّسة من مجلسها (سورية) والى استدعاء التدخل الأجنبي المباشر في دولة أخرى (ليبيا) والوقوف الى جانب المحتل في دولة العراق.
- غياب الأمن الاجتماعي والسياسي فلا عدالة اجتماعية ولا مجتمع لتكافؤ الفرص. بل سعي حثيث نحو هجرة العقول والأدمغة والعمالة الماهرة والقوى الشبابيّة.
- تغييب القضية المركزية للعرب، اي القضية الفلسطينية، والهرولة الى التطبيع مع العدو الصهيوني الذي بدأته مصر في عهد الرئيس السادات من خلال اتفاقيات كمب دافيد ثم جرت اتفاقيات الإذعان والاستسلام.
السؤال الذي يطرح نفسه هل يمكن للتجربة الناصرية ان تتكرر او ان تكون السبيل الى تغيير الواقع المؤلم والبدء بالنهوض العربي المأمول؟.
الجواب الذي اعتقده ان أعادة التجربة كما كانت هو امر مستحيل وغير منطقي، ذلك ان الظروف والمعطيات والأساليب قد تغيرّت وتبدلّت وتطورت. لكن الاسترشاد بالتجربة والأخذ بثوابتها ومرتكزاتها ومبادئها هو السبيل الوحيد لبدء مشوار النهوض وتحرير فلسطين كل فلسطين.
فعلى الرغم من كل الواقع السلبي الظاهر فإن قوى المقاومة في الأمة الى مزيد من الثبات والقوة. ان ما يقدمه الشباب الفلسطيني كل يوم في الأرض المحتلة يثبت ان هذا الشعب لا يمكن ان يرضخ أو أن يستكين وكما تحررت الجزائر بفعل مقاومتها سوف تتحرر فلسطين بفضل مقاومتها وبسالة شعبها. ان المقاومة في لبنان دحرت العدو الصهيوني عام 2000 وانتصرت عليه عام 2006، والمقاومة في العراق اسقطت المشروع الأميركي وحولت أميركا من قوة عظمى وحيدة في العالم الى إحدى القوى العظمى في العالم، وهو ما تثبته المتغيرّات الدوليّة التي نشهدها والتي تظهر ان الغرب الاستعماري الى أفول وان الشرق المستنير الداعي الى المصير المشترك للبشريّة الى سطوع.
لكن على الرغم من هذه القناعة التي تعزّزها المعطيات فان ذلك لا يتحقق بدون العمل العربي كل من موقعه وبقدراته وامكانياته وهي قدرات كبيرة وامكانيّات هائلة اذا ما استخدمت استخدامًا جيدًا.
لقد راهن البعض على خفوت الشعور القومي العربي نتيجة تراجع الأحزاب والحركات القوميّة، لكن ذلك سقط بالملموس وبإعلان صريح لكل العالم من خلال الوقفة العربيّة الشعبيّة الواحدة مع الفرق العربيّة الرياضية في الدوحة. لقد ظهر ان فلسطين هي في قلب وعقل وضمير كل عربي حر، اي انها لا تزال بالنسبة للشعوب هي القضيّة المركزية الاولى.
ان اعتماد الشباب العربي لبرنامج نضالي بأساليب ديمقراطية وبما يتوافق مع ظروف وقدرات وامكانيات كل مشارك يمكن ان يحدث تغييرًا كبيرًا وسريعًا في الوطن العربي. لقد اختصر مدير مركز الحوار العربي الاستاذ صبحي غندور البرنامج المطلوب بنقاط أربعة :” دعه يمر. دعه يعمل. دعه يفكّر . دعه يقول”. ذلك يختصر الدعوة الى حريّة التنقل بين الدول العربيّة اي التكامل التجاري والاقتصادي والسياحي والتعليمي. كما يختصر تقوية التجارة البينية ورفع الحدود الجمركية وقيام السوق العربية المشتركة. كذلك يختصر الدفاع عن الإبداع وحرية الفكر والقول، فالكلمة الحرّة هي اساس الديمقراطيّة، والديمقراطية هي السبيل للتطور والتقدم والازدهار.
ان الظروف مؤاتية للعمل بمفهوم الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، وقد رأينا مقدّمات لافتة ومعبّرة وواعدة فالقمم الثلاث التي عُقدت في المملكة العربيّة السعوديّة مع الصين ليس حدثًا عابرًا، ولا هي تكتيكًا لخدمة هدف سياسي مرحلي بقدر ما هي تعبير عن ادراك عربي للمتغيراّت الدوليّة واستعداد لمواكبة هذه المتغيرّات.
كما ان ما نشهده من بطولات فلسطينية كل يوم ، يؤكد ان ما يطرحه العدو الصهيوني من اسئلة وجوديّة ليست مجرد مقالات اعلاميّة تخدم هذا الطرف السياسي الصهيوني او ذاك بقدر ماهي تعبير عن مخاوف يعيشها الكيان الغاصب كل لحظة.
ان السبيل لوقف الحروب الداخلية في اكثر من دولة عربية هو العمل بمقتضيات الأمن القومي العربي وحل القضايا داخل البيت العربي، واذا كانت قمة الجزائر العربيّة وبالأخص رئيس دولة الجزائر قد سعت الى انهاء الانقسام الفلسطيني وقبله دولة مصر، فان هذا الانقسام لا بد ان ينتهي على قاعدة العمل النضالي المقاوم للاحتلال وانهاء مسيرة التراجع التي بدأت في اوسلو، وعلى الشباب الفلسطيني والعربي الضغط بهذا الاتجاه بكل الوسائل والسبل المتاحة.
التعليقات مغلقة.