البيان الشيوعي والأزمنة الحديثة / نهاد ابو غوش
نهاد أبو غوش ( فلسطين ) – الخميس 12/1/2023 م …
يلحظ البيان الشيوعي أن حلول النظام الراسمالي محل الاقطاع لم يقض على الصراعات والمظالم التي ترافقها، ولكنه بسطها واستبدلها بسيطرة الطبقة الراسمالية على المجتمع واستغلال الطبقة العاملة .
ويشرح البيان كيف ان النظام الراسمالي حطم كل القيود القومية والثقافية والدينية القديمة، وما يرتبط بها من قيم ومثل أخلاقية وأفكار ومفاهيم وكل ذلك بهدف الربح والمزيد من الربح، وهذا الجري المستمر وراء الربح دفع الى التحسين المستمر لوسائل الانتاج، لكن في مقابل كل التطور الصناعي والتقني، والتوسع المستمر في استخدام الآلات والماكنات بدل الأيدي العاملة، تزداد حياة العمال بؤسا، ويتحول عملهم وحتى حياتهم كلها الى سلعة تباع للرأسمالي الذي يشتريها بأرخص الاثمان اي فقط بما يحافظ على حياة العامل ويبقيه قادرا على العمل والانتاج لمصلحة الراسمالي .
“أدى توسع الصناعة وتطور ادوات الانتاج الى مزيد من الشقاء للعامل الذي تحول الى امتداد للآلة، وفقد العمل بالنسبة له كل جاذبية، وأصبح العامل مجرّد مُلحق بالآلة، لا يُطلب منه سوى الحركة اليدوية الأكثر بساطة و رتابة و سهولة و امتهان. و من ثم، فإن ما يُكلفه العامل يكاد يقتصر على كلفة ما يلزمه للعيش، و لمواصلة نسله”( 1) .
ومع المزيد من تردي أوضاع العمال، صارت جموعهم المحشورة في الفبركة ( مصنع أو مشغل كبير) تنظَّم تنظيما عسكريا. فالعمّال، جنود الصناعة البسطاء، يُوضعون تحت رقابة تراتبية كاملة، من ضبّاط و صفّ ضبّاط. و هم ليسوا عبيد طبقة البرجوازيين ودولة البرجوازيين فحسب، بل هم أيضا، في كل يوم و كل ساعة، عبيد للآلة، و لمراقب العمل، و خصوصا للبرجوازي صاحب الفبركة نفسه، و هذا الإستبداد، كلما أعلن بمزيد من الصراحة أنّ الكسب هو هدفه، إزداد دناءة و بشاعة و قسوة( 2).
ترك البيان الشيوعي أثره على كل الحياة السياسية والثقافية والأدبية في اوروبا، ونشأت أحزاب شيوعية وعمالية تتبنى فكر مارمس وانجلز، حتى قيام او سلطة تتبنى الفكر الشيوعي بنجاح الثورة البلشفية في روسيا بقيادة فلاديمير لينين في اوكتوبر (نوفمبر حسب التوقيت الغربي) 1917، وقامت ثورة شيوعية مشابهة في المانيا ولكنها فشلت واعدم قائداها روزا لوكسمبرغ وكارل ليبكنخت في عام 1919، وانتشر الفكر الشيوعي في العالم أجمع بعد قيام السلطة الشيوعية والاتحاد السوفييتي، وبعد الحرب العالمية الثانية سيطرت الاحزاب الشيوعية والاشتراكية المدعومة من الاتحاد السوفييتي في جميع بلدان اوروبا الشرقية ( المانيا الشرقية، بولندا، المجر، تشيكوسلوفاكيا، بلغاريا، يوغسلافيا، البانيا) ثم الى الصين التي ما زالت تحت حكم الحزب الشيوعي الصيني.
ومن أبرز تاثيرات البيان الشيوعي تأثيراته على عالم الثقافة والأدب، وهذه التأثيرات لم ترتبط فقط بوجود سلطات شيوعية تتحكم في اي بلد والتيارات الثقافية السائدة فيه، بل امتدت لتشمل كل بلدان العالم، وظلت فاعلة وقائمة حتى في البلدان التي سقطت فيها الأنظمة الشيوعية والاشتراكية، وهي أي هذه التأثيرات ما زالت قائمة وفاعلة حتى الآن، وتبلور هذا التاثير بولادة ونشوء تيار “الواقعية الاشتراكية” في الأدب والفن، إلى جانب التيارات الكلاسيكية والحداثية الأخرى المعروفة مثل الواقعية والرومانسية والسريالية وغيرها.
من ابرز رموز الواقعية الاشتراكية الكاتب الروسي الكبير مكسيم غوركي ومجموعة الكتاب السوفييت والعالميين بمن فيهم أدباء عرب وشرقيين مثل الشاعر التركي ناظم حكمت وعدد من الشعراء الفلسطينيين مثل محمود درويش في بداياته وتوفيق زياد وسميح القاسم ومعين بسيسو، وقد انعكس هذا الاتجاه على الفن كذلك، ويتلخص مذهب الواقعية الاشتراكية في نقل واقع العمال ومعاناتهم وشقائهم ونضالهم وعرض مساوئ النظام الرأسمالي وبشاعته، وصولا إلى التبشير بانتصار الفكر الانساني والاشتراكي.
ومن العلامات البارزة في الفن السينمائي المتماثل مع الفكر الشيوعي أو المؤيد له فيلم الأزمنة المعاصرة أو الحديثة ( Modern Times ) من بطولة واخراج وكتابة الممثل العالمي الانجليزي الشهير شارلي شابلن، وهو فيلم صامت مصحوب بلوحات مكتوبة تشرح بعض الوقائع التي لا تفسرها الحركات، وأرفق لاحقا بشكل مواز ومستقل بتسجيلات صوتية.
يقوم الفيلم على عرض واقع العمال في الصناعات الحديثة حيث يخضعون لأبشع ظروف الاستغلال من قبل الراسماليين، ويعرض الفيلم واقع انسحاق العمال واستلاب انسانيتهم من قبل الراسماليين وشروط العمل القاسية حيث يفعل الراسماليون كل ما من شانه زيادة الانتاج وتعظيم الارباح حتى لو كان على حساب انسانية العمال، ففي نمط العمل الرتيب والمتكرر يتحول العامل الى امتداد للآلة، وإلى كيان لا يملك السيطرة على نفسه، بل ان الرأسمالي الجشع الذي يراقب من غرفة السيطرة حركات العمال وسكناتهم ويوبخهم اذا تباطأوا او تكاسلوا، يستكثر على العمال أن يحظوا بأوقات للراحة وتناول الطعام، فيسعى الى تصميم وابتكار آلة تطعم العمال دون أن يتحركوا من أجل تقليص وقت تناول الطعام واستثمار فائض الوقت بمزيد من الانتاج والارباح.
ومن خلال مفارقات يمكن وصفها بالكوميديا السوداء يتحول العامل فعلا إلى ما يشبه الآلة، الحركات المكررة تسيطر عليه حتى في أوقات راحته وذهابه وإيابه، يقوم شارلي شابلن في الفيلم بعملية شدّ وإحكام البراغي الكبيرة من خلال مفتاح كبير (مفتاح انجليزي) حتى أنه كلما رأى شيئا دائريا يشبه البراغي ( مثل أزرار معطف سكرتيرة المدير) يحاول شدها. ومن خلال سلسلة من المواقف الكوميدية ينتهي المطاف ببطل الفيلم وزملائه بأن يلقى بهم الى الشارع ليعانوا من وحش البطالة، ويجد البطل نفسه ودون ارادة منه وسط مظاهرة احتجاجية يقودها معارضون للنظام (شيوعيون على الاغلب) لينتهي به الأمر في السجن وسط ظروف صعبة.
ابتكر شابلن شخصية الصعلوك والمشرد، وهو شخصية تتكرر في افلامه لاولى، وتتحدث عن شخص عادي مغلوب على امره يعاني من سطوة القوى الغاشمة سواء الراسمالي او رجل الشرطة او المساجين الأقوياء في السجن، وتظهر هذه الشخصية بوضوح في فيلم الأزمنة الحديثة، وربط كثير من المحللين والمراقبين بين هذا الفيلم والشيوعية بسبب تبني فكرة انسحاق العامل واستلابه، لكن كثيرا من الاتهامات التي لاحقت شارلي شابلن أطلقت بعد سنوات بسبب سلسلة الافلام التي انتقد فيها النازية والنظام الراسمالي بشكل عام، وقد لجأ شابلن للولايات المتحدة وهناك واجه مضايقات واتهامات ملفقة على الاغلب، وسط حملات شديدة طاردت الشيوعيين وافكارهم فاضطر بعدها الى اللجوء لسويسرا، وكان قد اسس شركته الخاصة لانتاج الافلام وظل ناشطا وفاعلا في مجال السينما حتى سنوات عمره الأخيرة حيث توفي عام 1977 عن 89 سنة بعد مسيرة غنية ومميزة وضعته على راس عظماء تاريخ السينما.
(1) البيان الشيوعي كما ورد على موقع الحوار المتمدن
(2) الحوار المتمدن
التعليقات مغلقة.