بحث هام للدكتور عمر رحّال حول : تحوّل توجهات الفلسطينيين في الضفة الغربية إزاء المواجهة مع الاحتلال

471

د. عمر رحال ( فلسطين ) – الخميس 29/12/2022 م …  

*ورقة مقدمة إلى مؤتمر مركز دراسات الشرق الأوسط الذي عقد تحت عنوان

(تطورات المواجهات الفلسطينية – الإسرائيلية واتجاهاتها المستقبلية)

عمان ، كانون الأول 2022 

المشهد اليومي في الأراضي الفلسطينية المحتلة

شهدت الضفة الغربية المحتلة في الآونة الأخيرة تصاعداً في وتيرة الأحداث نشأ بفعل السياسات الإسرائيلية القمعية المتمثلة في استباحة قوات الاحتلال للضفة الغربية والمتمثلة في الاقتحامات اليومية للمدن والقرى والمخيمات ، وما يرافق ذلك من انتهاكات جسيمة بحق الموطنين الفلسطينيين تتمثل بأعمال القتل والاغتيالات والعقوبات الجماعية والاعتقالات ، والاعتداء على المسيرات السلمية ، هذا إلى جانب القيود المفروضة على حرية الحركة والتنقل من خلال الحواجز الثابتة المنصوبة على أبواب المدن والقرى والمخيمات أو من خلال الحواجز المتحركة (الطيارة) ،وإغلاق وحصار المدن والقرى والمخيمات من خلال البوابات الحديدية و”السدات” الترابية ، أو المكعبات الإسمنتية ، وهدم للبيوت والمنشآت ، وما يرافق ذلك من تهجير قصري للمواطنين ، بل وتطهير عرقي ، سيطرة أمنية وإدارية على ما تسمى مناطق (C)،  والتي تبلغ مساحتها أكثر من 62% من المساحة الإجمالية للضفة الغربية ، والتي تحوي  معظم الثروات الطبيعية للفلسطينيين ، حيث يمنع الفلسطينيون من البناء بها أو الاستثمار فيها، إضافة لمصادرة أراضي المواطنين إما لبناء مستوطنات جديدة أو لتوسيع القائم منها أو لإنشاء شوارع التفافية خاصة للمستوطنين أو أماكن تدريب للجيش وإعلانها مناطق عسكرية مغلقة.

كما وشكلت الاعتداءات اليومية للمستوطنين ، ظاهرة بارزة ، حيث لم يعد المستوطنون مجرد ناهبي أرض ، بل مليشيا مسلحة هجومية تمارس القتل والتنكيل وقطع الأشجار وتخريب الممتلكات وتخريب المحاصيل الزراعية وإحراقها ، وتدمير للآبار وبرك تجميع المياه ، ومنع المواطنين من الوصول إلى أراضيهم ، خاصة في موسم الزيتون…الخ وبحماية جيش الاحتلال. عدا عن إغلاق الشوارع وقذف الحجارة على المركبات الفلسطينية والمارة منها.

فعلى سبيل المثال سقط في قرية بيتا جنوبي مدينة نابلس (10) شهداء من أبناء القرية من بينهم أطفال وأصيب أكثر من (1500) مواطن ومواطنة على يد جيش الاحتلال خلال عشرة أشهر جراء تصدي المواطنين للمستوطنين من أجل إفشال إقامة مستوطنة ومدرسة دينية على قمة جبل صبيح.

أما في القدس فالاقتحامات لا تتوقف فهي شبه يومية للمسجد الأقصى،  واعتداءات يومية على المواطنين المقدسين، سواء اعتقالات ،أو حبس منزلي للأطفال ، إبعاد للنشطاء عن القدس ومنعهم من دخول المسجد الأقصى ، وصعوبة إن لم نقل استحالة حصول المواطنين على رخص بناء جديدة بفعل القوانين العنصرية والتدابير الإدارية المعقدة داخل القدس المحتلة.

هذا بخلاف جدار الفصل العنصري الذي يلف المدينة ويفصلها عن محيطها الفلسطيني في الضفة الغربية ، واستيطان ينهش أرضها،  وإجراءات أمنية مشددة ، وتعزيزات شرطية غير مسبوقة وضرائب (الأرنونا) الباهظة ، تمييز صارخ بين الأحياء العربية واليهودية في الخدمات وغيرها .  وسحب لهويات المقدسيين ، وإلغاء (للإقامة) ،  وترحيل وطرد للمواطنين . يضاف إلى كل هذا ارتفاع في معدلات البطالة والفاقة وانتشار المخدرات ذات المصدر الإسرائيلي بين صفوف الشباب إنتاجاً وبيعاً وترويجاً ، وإجراءات الهدف منها “أسرلة” المدينة سواء من خلال الزج بآلاف المستوطنين للسكن داخل القدس المحتلة ، أو من خلال تغيير أسماء الشوارع من أسماء عربية إلى أسماء يهودية ، أو من خلال فرض المنهاج المدرسي الإسرائيلي على المدارس الفلسطينية ، فالحرب على القدس وفي القدس هي حرب على الديمغرافيا والجغرافيا ، وعلى الأسبقية التاريخية ،  بمعنى أخر هي حرب على الرواية.

هذا هو المشهد اليومي السائد في الضفة الغربية والقدس ، والذي يتكرر من الخليل جنوباً حتى جنين شمالاً، دون أي استثناء ، أما غزة فحصار غير مسبوق ، وحروب عدوانية عليها ، كلما لاح في الأفق بوادر أزمة داخلية في دولة الاحتلال ، إذاً هي سياسة موجهة بما تشمله من إجراءات وانتهاكات وجرائم مكتملة الأركان يقترفها جيش الاحتلال والمستوطنين بحق المدنيين الفلسطينيين ، في انتهاكٍ صارخ للقانون الدولي لحقوق الإنسان ، وللقانون الدولي الإنساني ، وفي مقدمته اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين الواقعين تحت الاحتلال ، واتفاقيتي لاهاي . والحال كذلك ، حيث يعيش الفلسطينيون هذه الأوضاع اللاإنسانية ذات الأبعاد العنصرية ، والسياسة الإسرائيلية الممنهجة ، والتي انتهجتها كافة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.

 

تصاعد الأحداث الأسباب والتداعيات:  تجدد أشكال  المقاومة في الضفة الغربية

برغم كل أوجه وأشكال الهجمة الاحتلالية ، فان مزيداً من القمع الاحتلالي يولد مزيدا من المقاومة ، ويخلق نعدد أشكال القمع تعددا في أشكال المقاومة الفلسطينية ، حتى لو جاءت على موجات متفرقة ، فهي يحكمها خيط ناظم  يتمثل في رفض الفلسطيني للاحتلال واستعداده لمقاومته بشكل مستمر، مرة تخفت هذه المقاومة ومرة تتصاعد، لكنها لا تتوقف ، وفي الآونة الأخيرة نشهد تصعيدا للمقاومة منتشراً في مختلف مناطق الضفة والقدس ، ومتعدد الأشكال ، من الظاهرة والاحتجاج السلمي إلى المواجهة العنيفة والمباشرة والتي تصبغ حالة المقاومة الآن ومن رد الفعل المباشر على الحدث إلى الفعل المخطط ، أو بأدنى درجاته المقصود.

يمكن أن نعزو هذه الظاهرة إلى  مجموعة من الأسباب والعوامل ،  المحركة للشباب والمواطنين في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية ،  وتصعيد المقاومة بأشكالها المختلفة،  ولا أزعم هنا أن هذه الأسباب هي الأسباب الحصرية التي أدت إلى اشتعال المقاومة بالضفة الغربية ، ربما هناك أسباب أخرى لعبت دوراً أساسياً في تصعيد المواجهة مع الاحتلال لكن ما نقدمه من أسباب إلى التالي:

  1. عدم قيام السلطة الفلسطينية بحماية المواطنين : عملياً لا توفر السلطة الفلسطينية حماية للمواطنين من الاعتداءات التي يتعرضون لها من قبل جيش الاحتلال أو من المستوطنين، فجيش الاحتلال لا ينكل فقط بالمواطنين على الحواجز العسكرية الإسرائيلية،  بل يمتد ذلك إلى داخل المدن والقرى والمخيمات، خصوصاً عندما يقوم جيش الاحتلال باستباحتها والدخول لها،  دون أن تحرك قوى الأمن الفلسطينية ساكناً،  وبالتالي لا تقوم السلطة بأي خطوة عملية لمواجهة الاعتداءات والجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال، وتكتفي بإصدار بيانات لتنديد بتلك الجرائم، الأمر الذي شكل دافعاً للمقاومين والمواطنين على حدٍ سواء للدفاع عن أنفسهم أمام الاعتداءات الإسرائيلية.

 

  1. الزبائنية السياسية : لم تكن السلطة الوطنية الفلسطينية بعيدة عن الأسس التي بنيت عليها بعض الدول العربية بعد استقلالها، والقائم على الزبائنية السياسية، وعلى ضعف وإقصاء وتهميش المؤسسات الدستورية وتبعيتها وهيمنة وتغول وتفرد السلطة التنفيذية والحزب الواحد،  واعتبار الشرعية مستمدة من (السلطة) ذاتها لا من المتعاقدين (المواطنين). واليوم ينظر للنظام السياسي الفلسطيني أكثر من أي وقت مضى على أنه نظام يعتمد “الزبائنية” في طريقة حكمه لدرجة أن المجتمع أصبح زبائنياً.

 

  1. المفاوضات كخيار أوحد للحل : لم تعد خطابات وتصريحات الرئيس الفلسطيني وكبار مسؤولي السلطة الوطنية الفلسطينية ، سواء في الأمم المتحدة أو أمام الوفود الدولية ، أو حتى في الاجتماعات التنظيمية ، بأن المفاوضات هي السبيل والخيار الوحيد لإنهاء حالة الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين والطريق الوحيد لإقامة الدولة الفلسطينية ، مقنعة أو (مستساغة) عند الفلسطينيين ، بل الأخطر من ذلك أن القيادة الفلسطينية اعتبرت المفاوضات هي إستراتيجية وحيدة وأن أي فعل لشخص أو لجماعة خارج هذا الخيار ستقوم السلطة بمواجهته ، هذا في الوقت الذي تؤكد الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أنه لا يوجد (شريك) فلسطيني من أجل العودة إلى طاولة المفاوضات،  وأن السلطة تدعم (الإرهاب) ، فيما تتمسك القيادة الفلسطينية بالمفاوضات كآلية وأداة وحيدة للحل مع الاحتلال ، هذا الوضع لم يعد مقبولاً عند الفلسطينيين ، الذين يكابدون يومياً الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية المستمرة . ويحسون عجز السلطة عن حمايتهم على جلودهم.

 

  1. استمرار الانقسام ، وعدم إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية : قد تكون مرحلة الانقسام من أخطر المراحل التي مرت بها القضية الوطنية الفلسطينية، وربما تكون الأصعب كذلك،  فبكثير من التفاؤل رحب الفلسطينيون بالمرسوم الرئاسي بشأن إجراء الانتخابات الذي صدر في 15/1/2021 كبادرة أمل بعد 15 عاماً من الانقسام، تعطلت فيها الحياة السياسية وتم تدمير المؤسسات الدستورية ، لكن هذا التفاؤل لم يدم طويلاً، إذ تم  إلغاء الانتخابات   ليتأكد أنه لا مواعيد مقدسة لدى النظام السياسي ، بل أن اختارت العديد من الفصائل أولوية ترتيب أوضاعها الداخلية على حساب المصلحة العامة، وتصديرها أزماتها الداخلية للشارع الذي يعاني بالأساس، وشراء الوقت انحيازاً لمصلحتها في البقاء ولو شكلاً على حساب مصلحة المواطنين/ات في تجديد الشرعيات وإفراز قيادات منتخبة تعمل على حل الإشكاليات المتراكمة في المستويات كافة، الأمر الذي يعكس أنانية قد ترتقي إلى مستوى الفساد السياسي، إذ يتم إعلاء المصلحة الحزبية الخاصة على العامة وعبر مقدرات الدولة.

الانتخابات هي استحقاق دستوري وقانوني دوري وليست منّة من أحد ،  وإن غياب سمة الدورية  عن الانتخابات تجاهل للقانون الأساسي ومخالفة للعرف الديمقراطي ، وانتهاك للمادة الثانية من القانون الأساسي الفلسطيني التي تؤكد أن الشعب مصدر السلطات ،  كما راهن البعض أن إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية قد تكون المدخل الأفضل لإنهاء الانقسام ،  والاتفاق على برنامج سياسي ،  وعلى تعزيز الشراكة السياسية بين مختلف ألوان الطيف السياسي الفلسطيني.

 

  1. التنسيق الأمني : هو واحد من القضايا الخلافية الكبيرة بين الفلسطينيين ، ففي الوقت الذي ترى قيادة السلطة أن التنسيق هو(التزام وضرورة) ، التزام بفعل اتفاقية أوسلو والاتفاقيات الأمنية الموقعة مع دولة الاحتلال ، وضرورة باعتبار ذلك مرتبط بتدفق السلع والمواد الأساسية ، وبالتحويلات الطبية وبحرية الحركة والتنقل لقيادة السلطة، وبمنح العمال الفلسطينيين مزيداً من التصاريح للعمل داخل دولة الاحتلال ، بالإضافة إلى قضايا أخرى مثل تحرك قوات الأمن الفلسطينية خارج مناطق (أ)،  في المقابل يرى معظم الفلسطينيين أن التنسيق الأمني مع الاحتلال هو أقل ما يقال عنه (خيانة)،  وذلك بسبب سياسة السلطة تجاه خصومها السياسيين ،  والتضييق عليهم سواء بالملاحقة أو الاعتقال . إذ يعتبر غالبية الفلسطينيين ملاحقة المقاومين واعتقالهم عمل مرفوض ومدان وغير مقبول وطنياً.

 

  1. حيوية الشعب الفلسطيني، واستعداده للتضحية : ليس من المبالغة القول أن التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني منذ أول مستوطنة صهيونية أقيمت في قرية ملبس (بتاح تكفا) عام 1878،  وحتى اللحظة،  تؤكد على أن النضال الوطني الفلسطيني بكافة أشكاله،  يأتي في إطار من التعقيدات الفريدة من نوعها إذا ما قورن بظروف كفاح الشعوب المستعمرة من أجل حريتها واستقلالها نظراً للطبيعة الخاصة للدولة الاستعمارية الاستيطانية والاجلائية.

لذلك فإن مقاومة الشعب الفلسطيني بأشكالها المختلفة ، هي دليل وتأكيد على عدم إذعانه للمحتل،  من جهة ، وعدم قدرة الاحتلال على تطويع  وتدجين الشعب الفلسطيني ومقاومته من جهة ثانية ، بل إن الأمر يتعدى ذلك وهو الأهم في أن إرادة الشعب الفلسطيني أقوى وأصلب من أن تكسر،  صحيح أن موازين القوى المادية تميل لصالح الاحتلال فهو قوة لا يستهان بها،  ولكن الاحتلال وعلى الرغم من جبروته وبطشه بالفلسطينيين ،  لم يستطع هزيمة الفلسطينيين،  فلغاية اللحظة لا يزال الاحتلال يبحث عن فلسطيني يمكن أن يوقع معه على اتفاقية إنهاء الصراع ،  وما دام الأمر كذلك ،  فإن المعنى الوحيد هو استمرار المقاومة والنضال الفلسطيني،  يضاف لذلك تجدد أشكال النضال والمقاومة وكأنها “جينات”،  ففي الغالب الأعم عندما تسأل شاب أو شابة فلسطينية عن النموذج بالنسبة لك ،  فإنه أو أنها تتحدث عن أسير أو شهيد أو مطارد أو مقاوم أو فدائي،  فلا حديث هنا عن مطرب أو ممثل أو فنان . هذا دليل آخر على حيوية الشعب الفلسطيني وإصراره على الصمود والمقاومة.

 

  1. إدارة الظهر للشباب وقضاياهم : يوصف المجتمع الفلسطيني بأنه مجتمع فتى، حيث هناك 1.17 مليون شاب وشابة ضمن الفئة العمرية ( 18-29 ) سنة في فلسطين، يشكلون أكثر من خمس المجتمع الفلسطيني؛ أي 22% من إجمالي السكان، وذلك حسب إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في العام 2022.  اليوم كل من هو بعمر (32) عاماً من الشباب الفلسطينيين لم يشارك بأي انتخابات تشريعية أو رئاسية،  كما يواجه الشباب الفلسطيني تهميشاً واضحاً في المشاركة السياسية، وفي عملية صنع القرار والتي تقل عن 1%، حيث لعبت التحديات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية ونمط توزيع القوة في المجتمع إلى جانب بعض المعيقات التشريعية دوراً أساسياً في ذلك . واليوم كما في الأمس يشكل الشباب أكثرية من الناحية العددية، إلا أنهم أقلية بمفهوم التأثير السياسي. كما تزداد نسبة البطالة بين صفوف الشباب، حيث وصلت نسبتها 62% بين الإناث و33%بين الذكور. هذا يولد نوعاً من البحث عن حلول فردية  للخلاص في ظل انسداد الأفق أمامهم ، ويتمازج ذلك مع إدراك عميق وواع بأن المشكلة الأساسية لتحقيق الشباب لذواتهم هو وجود الاحتلال. وهذه هي الخميرة الأولى لروح المقاومة.

 

  1. تأصل المشاعر الوطنية: لم تفلح أي من جهود الدول المانحة أو (الراعية) لعملية التسوية ومعها دولة الاحتلال ، وبعض الفلسطينيين عبر برامجها ومشاريعها وخططتها ، أن (تدجن) الفلسطينيين ، وتقنعهم من أن (إسرائيل) جادة في عملية التسوية ، وبالتالي بناء علاقات حسن جوار معها ،  هناك مثل يقول أن (المية بتكذب الغطاس) ، فسلوك وممارسة الاحتلال على الأرض لا تشير بأي حال من الأحول أن (إسرائيل) جادة أو ربما معنية بالتسوية ، بل أنها تبطش بالفلسطينيين ، ولا تريد لهم أكثر من (كيان) مفصل على المقاس الإسرائيلي يضمن سطوتها وسيطرتها على الأراضي الفلسطينية . لذلك فإن ثمة العديد من الدلائل التي تشير إلى أن الروح النضالية تزداد حضوراً وعنفواناً وتتضح بشكل كبير بين صفوف الشباب ، سيما وأن الخمود والخمول السياسي الفلسطيني الرسمي والفصائلي ، خلق فراغاً يملأه الآن الشباب على وجه التحديد ، غالبيتهم خابت آمالهم وتطلعاتهم من سلوك وأداء السلطة.   بأي شكل كان ، فإن ازدياد المشاعر الوطنية وانبعاثها لدى الشباب ،  لم تأتِ من فراغ ، بل هي امتداد أصيل للدور الذي لعبته الحركة الوطنية والإسلامية في مختلف مراحل النضال الوطني الفلسطيني ، كما أن المناخ السائد في الأراضي الفلسطينية المحتلة هو مناخ وطني– نضالي –كفاحي . هذا إلى جانب تأثير المقاومة في قطاع غزة على الروح الوطنية للفلسطينيين في الضفة.

 

ما هي الخيارات والسبل إذاً أمام الفلسطينيين : غير المواجهة وتصعيد المقاومة ؟

 

يدرك الفلسطيني اليوم ، أن لا خيار أمامه سوى الصمود والمواجهة والمقاومة، بعد أن سقط رهان المفاوضات، كما يدرك جيداً أن لا جيوش عربية على مقربة من الحدود ، (بل هناك موجة تطبيع رسمي عربي) وأن لا جامعة عربية يمكن تنعش آماله،  وأن لا أمم متحدة يمكن أن توفر له الحماية،  وأن عالم اليوم أكثر التصاقاً بمصالحة من ذي قبل ، عالم يكيل بمكيالين ، وسياسة خارجية ذات معايير مزدوجة. يقابل ذلك صلف إسرائيلي ، وتحلل من الاتفاقيات المبرمة بينه وبين منظمة التحرير الفلسطينية ، بل إدارة ظهرٍ وتنصل وتنكر لتلك الاتفاقيات ، يستخدمها ويفعّلها ويلغيها ويتنكر لها ، وذلك حسب مصالحة.

على مدار العقود الماضية جرّب الفلسطينيون (وَهْمّ) التسوية ففي 30/10/2022 يكون قد مضى على الدعوة لمؤتمر مدريد “للسلام” (31) عاماً بالتمام والكمال ، وعلى التوقيع على اتفاقية أوسلو (29) عاماً ، ويكون قد مرّ على انتهاء المرحلة الانتقالية التي كان من المفترض أن تنتهي بتاريخ 4/5/1999 ، (23) عاماً ، انبرى خلالها أهل التسوية وأنصار (السلام) في التنظير على أن التسوية هي نقطة الارتكاز لتحقيق المشروع الوطني وإقامة الدولة ، وإخراج الفلسطينيين من حالة الفقر والفاقة إلى حياة أكثر رفاهية ، حتى وصفوها أنها ستكون (سنغافورة) ، وأن الاتفاق بين الطرفين سيضع حداً للصراع وإراقة الدماء ،  ولكنه لم يتحقق شيء مما وُعد به الفلسطينيين ، بل إن الانتهاكات والجرائم الإسرائيلية بعد أتفاق أوسلو تضاعفت مئات المرات عما كانت عليه في السابق ، سواء في الاستيطان ،  أو القتل ، أو هدم البيوت ، أو الاعتقالات ، أو منع حرية الحركة والتنقل… إلخ. لذا كان الحال مزيداً من إراقة الدماء والخراب.

 

قواعد اشتباك يحددها الشباب ، وبروز أشكال جديدة للمقاومة الفلسطينية

 

لعل أشكال النضال الوطني الفلسطيني وأدواته وأساليبه تراوحت تاريخياً بين المؤتمرات، التظاهرات، المسيرات، الإضراب والعصيان المدني،  المقاومة الشعبية، الانتفاضة بكل أشكالها،  استخدام السكاكين، الدهس، العمليات العسكرية، العمليات التفجيرية،  المفاوضات،  والآن العودة من جديد للبندقية كخيار،  بما يعني أن النضال الوطني الفلسطيني يعلو ويخبو،  وذلك حسب المرحلة والظروف الذاتية والموضوعية التي تحيط بالقضية الفلسطينية، ومع ذلك فطيلة مرحلة النضال الوطني لم تُسقط من الحسبان المقاومة بكل أشكالها لتحقيق المشروع الوطني.

أوجدت المقاومة بأشكالها المختلفة وبارتفاع وتيرتها وتصعيدها قواعد اشتباك جديدة، بل أنها غيرت من قواعد اللعبة، وهذا عائد بشكل مباشر وأساسي إلى الجرائم اليومية التي ترتكبها قوات الاحتلال ، حيث يعتبر العام الحالي أكثر الأعوام دموية منذ أكثر من عقد على الأقل في الضفة الغربية ، سواء من حيث عدد الشهداء ، أو المعتقلين، أو هدم المنازل وتشريد سكانها، أو مصادرة الأراضي ، أو بناء وتوسيع المستوطنات ، أو في عدد الحواجز وحصار المدن، أو بالاقتحامات التي لا تتوقف لكل أرجاء الضفة الغربية.

تثور اليوم مجموعة واسعة من الأسئلة من قبل الأكاديميين والسياسيين والحزبيين وحتى من أشخاص عاديين، هل نحن أمام انتفاضة ثالثة ، أم هبة جماهيرية أم احتجاجات أم مظاهرات،  أم مقاومة شعبية ، أم مقاومة مسلحة ، وهل نحن أمام مجموعات مسلحة تُشكل من تلقاء نفسها وبمبادرة من الشباب أنفسهم ، إذاً هل نقول أن عصر المجموعات العسكرية الكلاسيكية التابعة للفصائل قد ولى، وهل يمكن أن نتحدث عن ظاهرة جديدة من البطولات (الفردية)؟. كما أن هناك أسئلة تطرح الآن في الشارع الفلسطيني لها علاقة بجغرافية المقاومة وحَصّرها في بعض المدن والقرى الفلسطينية في الضفة الغربية ، وعلاقة ذلك بإمكانية محاصرة تلك المجموعات وتصفيتها.

بصرف النظر عن كل ذلك على أهميته ووجاهته ، إلا أن من المؤكد أننا اليوم أمام (ظاهرة)  وشكل جديد من أشكال الكفاح المسلح ، وهي ظاهرة (الفردانية) بمعنى عدم وجود تنظيم يسلح ويدرب ويمول وينظم ويصدر الأوامر لأعضائه، فأصحاب القرار هنا هم الشباب أنفسهم،  والأهم أن هؤلاء الشباب وعلى الرغم من صغر سنهم استطاعوا وبسرعة من أن يوجدوا لهم حاضنة شعبية ،بل وتأييد شعبي ، وابعد من ذلك الرهان عليهم (لقيادة) المشهد للخلاص من حالة الضعف والتراجع التي أصابت القضية الوطنية خلال السنوات الماضية وقيادة الحركة الوطنية.

الشيء الآخر اللافت للنظر في مواجهة الفلسطينيين لجيش الاحتلال وللمستوطنين هو أن الشباب أنفسهم من يحدد قواعد الاشتباك ذاتياً بعيداً عن الفصيل الذي كان يختار المكان والزمان واللحظة والمناسبة لإصدار أوامره لمجموعاته العسكرية لتنفيذ العمليات ضد جيش الاحتلال والمستوطنين ، فالفصائل في السابق كانت أغلب عمليتها مرتبطة بتواريخ وأحداث سياسية وتاريخية ومناسبات وطنية وحزبية ،  مثل ذكرى انطلاق الفصيل أو ذكرى يوم الأرض أو ذكرى انطلاق الثورة الفلسطينية ، أو رداً على مجزرة أو عدوان ، أو ذكرى شهيد ، كما أن بعض الفصائل ربطت تصعيدها العسكري في الأراضي المحتلة بأوضاع سياسية لها علاقة بمشاريع سياسية ،  أو بإجراء مفاوضات ، وهكذا.

اليوم قد تكون المقاومة بأشكالها المختلفة مرتبطة بالخذلان الذي يعيشه الفلسطينيون من المجتمع الدولي، وأيضاً بسبب عجز وشلل القيادة الفلسطينية ومحدودية ردود فعلها ، وبسبب حجم العدوان الممارس على الفلسطينيين من قبل جيش الاحتلال ، يضاف لذلك سياساته وإجراءاته التميزية والعنصرية ، هذا إلى جانب عمليات التطبيع من قبل بعض الدول العربية مع دولة الاحتلال ، من جهة ، والطبيعة المتمردة للشباب الفلسطيني على الاحتلال من جهة ثانية ،  كلها وغيرها أسباب تجعل من الفلسطيني مقاوم للاحتلال بطريقته الخاصة ، يختار اللحظة التي تناسبه كما يختار المكان ، هذا إلى جانب الأداة والآلية والطريقة لمقاومة الاحتلال ، سواء باستخدام البندقية ،  أو السكين ، أو الدهس ، أو المولوتوف ،  أو التظاهر، أو الاعتصام ، أو أي شكل آخر يقرره المقاوم بذاته دون أي تدخل فصائلي حقيقي.

 

ظاهرة عرين الأسود وكتيبة جنين.. رؤى شبابية نضالية متجددة

يمكن القول أن (ظاهرة) كتيبة جنين ومخيمها وعرين الأسود في مدينة نابلس قد تكون الشكل الثالث بعد ظاهر الفهد الأسود التابعة لحركة (فتح) والتي كانت بلدة قباطية جنوب مدينة جنين مهدها الأول ،  ومجموعات النسر الأحمر التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ،  والتي بدأت من جنين ومخيمها ، التي تشكلت في الانتفاضة الأولى عام  1987، كانت تلك المجموعات من حيث التسليح والتدريب ،  والتمويل وإصدار الأوامر تتبع لفصائلها على الرغم من وجود قيادة لها،  والحال كذلك في الانتفاضة الثانية،  فقد كانت المجموعات المسلحة والتي انتشرت بشكل أكبر وأكثر في المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية ، حيث كان لهذه المجموعات مرجعتين تنظيميتين واحدة للفصائل،  والأخرى لبعض قيادات السلطة الوطنية الفلسطينية.

في الحالة التي نحن اليوم بصددها قد يبدو الأمر مختلف كلياً عن الشكلين السابقين،  بل نحن اليوم أمام شكل جديد من العمل المسلح والمقاوم،  اليوم تشكلت هذه المجموعات استناداً لرؤية شبابية محلية ، دون أن يكون لتنظيماتها التأثير المباشر عليها، بمعنى  أنها تشكلت دون تعليمات من جهات تنظيمية أعلى، كما أن هذه المجموعات تتشكل اليوم من عدد من التنظيمات الفلسطينية ، مثل حركة فتح والجبهة الشعبية ، حركة حماس ، حركة الجهاد الإسلامي. ومن شباب دون انتماء سياسي واضح ، هذه المجموعات من الناحية العملية تقود ذاتها بذاتها، كما أن بعض تمويلها ذاتي ، والأهم أنها لا تتلقى تعليمات من فصائلها . فحسب البيانات التي تصدر عنها، فإنها هي من تحدد قواعد الاشتباك مع قوات الاحتلال ،  إذاً نحن أمام ظاهرة جديدة وغير معهودة في تاريخ العمل المقاوم الفلسطيني ،أن تكون مجموعة مسلحة باسم واحد وبقيادة مشتركة ،وأن تتكون تلك المجموعات المسلحة من تنظيمات مختلفة ،دون أن يكون للتجاذبات والمناكفات السياسية ، والخلفيات الفكرية والأيديولوجية ، وللانقسام أي تأثير وأن يلتقي الجميع في ميدان المواجهة مع الاحتلال.هذا يشير إلى إمكانية بناء جيش تحرير وطني بديلاً عن الأجهزة العسكرية للفصائل ، جيش ينمو ويكبر في الميدان ولا يخضع لاتفاقات سياسية بين الفصائل .

اختلاف في مشهد الفعل المقاوم ، والتفاف شعبي حول الظاهرة

المقاومة في السابق كانت محصورة بالفصائل ، وكأن لسان الحال يقول من يريد مقاومة الاحتلال يجب أن يكون منتمياً لأحد الفصائل الفلسطينية ، أما اليوم فالمشهد مختلف فبعض الفصائل التي كانت تنادي بالكفاح المسلح كأسلوب وآلية وأداة لم يعد موقفها كما كان في السابق ، لذلك نجد الشباب اليوم بشكل خاص يخوضون مواجهة وقتالاً مع الاحتلال بعيداً عن الفصائل،  حتى لو كان بعضهم ينتمي أو أنه مؤيد لهذا الفصيل أو ذاك ، ونرى اليوم الفصائل وكأن لسان حالها يقول أن هؤلاء المقاومين أعادوا الاعتبار للعمل الفلسطيني المقاوم ، ولكن دون أن يكون لها تأثير على توجهاتهم النضالية.

وعلى هذا النحو استطاع هؤلاء الشباب أن يجددوا نوعاً جديداً من المقاومة (العمل المسلح)،  وأن يحدثوا حضوراً والتفافاً جماهيرياً حولهم ، كما أنهم ولأول مرة منذ قيام السلطة الوطنية الفلسطينية_ باستثناء الانتفاضة الثانية _ يستطيعون العمل بشكل علني وبأسمائهم ويظهرون بأسلحتهم دون تخف بتحدٍ للسلطة وللاحتلال في آن واحد ، وبهدف واحد هو مقاومة الاحتلال،  يضاف لهذه الظاهرة  ظاهرة أخرى وهي تسلح بعض الشباب الفلسطيني بشكل فردي بعيداً عن التنظيمات أو المجموعات المسلحة الجديدة.

كما زادت جدية أعضاء المجموعات المسلحة أو المقاومين بشكل فردي واستعدادهم للتضحية وعزمهم على المواجهة ، وسلوكهم الوطني والأخلاقي والاجتماعي القويم ، من شعبيتهم، والالتفاف حولهم، كما أن جسارتهم في مواجهة قوات النخبة في جيش الاحتلال ، وتنفيذهم لمجموعة من العمليات العسكرية النوعية ، كما فعل عدي التميمي منفذ عمليتي حاجز شعفاط ومستوطنة معالي أدوميم ، أو عملية قتل الجندي على حاجز دير شرف الاحتلالي إلى الغرب من مدينة نابلس ، أو المواجهة المباشرة بين المقاومين في نابلس وجنين أدى ذلك إلى تغني المواطنين ببطولات أولئك الشباب والهتاف لهم والالتفاف حولهم، بل وتشكيل حاضنة شعبية لهم ، الأمر الذي مكّن تلك المجموعات من الصمود والمواجهة ، وزيادة الفاعلية والقوة على الأرض.

المقاومة بشكلها الحالي هل هي (ظاهرة) مستمرة أم عابرة ؟ : وخيارات السلطة

 

استمرار(ظاهرة) المقاومة المسلحة من عدمه مرتبط بشكل رئيسي في القبول المجتمعي لظاهرة المجموعات المسلحة_القديمة الجديدة_ وحجم التضامن معها ، كما يعتمد على توفّر الإمكانيات البشرية والمادية ، وعلى مدى قدرة تلك المجموعات ذاتياً من الاستمرار ، كما أن استمرار المقاومة وتوجهاتها مرتبط أيضاً بالإجراءات والسياسة الإسرائيلية تجاه المجموعات المسلحة أو المقاومة بأشكالها المختلفة ، لا سيما سياسة الاغتيالات والاعتقالات ، وتضييق الخناق وفرض العقوبات الجماعية ، والحصار والإغلاق ،  وغيرها من الإجراءات العقابية التي يقصد منها إنهاء الظاهرة ، وعدم تعميمها إلى مناطق جغرافية أخرى.

كما أن هناك لاعباً آخراً ، وإن كان غير محترف هو السلطة الوطنية الفلسطينية ، بمعنى هل ستسمح السلطة بوجود مجموعات مسلحة في مناطق تحت سيطرتها الأمنية _ولو نظرياً_ والإدارية والمعروفة بمناطق (أ) ؟ ، تلك المجموعات التي يمكن أن تشكل ليس إزعاجاً للسلطة فحسب ، بل أكثر من ذلك من قبيل التأييد الشعبي والالتفاف الجماهيري حولها ، وكبديل عن السلطة ولو من الناحية المعنوية ، أو بسيطرة تلك المجموعات على بعض المناطق داخل المدن ومنعها للسلطة من الوصول لتلك المناطق ، في استحضار لتجربة المخيمات الفلسطينية في لبنان ، والأبعد من ذلك أن دولة الاحتلال ومعها بعض الدول الحليفة لها ستستخدم حضور المجموعات المسلحة في المشهد كشكل من أشكال الابتزاز السياسي للسلطة ، كتأكيد من دولة الاحتلال أن السلطة غير قادرة على بسط سيطرتها على المناطق التي تتبع لها .

يبدو هنا أن السلطة أمام ثلاثة خيارات أحلاهما (مر) فإما المواجهة مع تلك المجموعات أو التفاوض معها (احتوائها) ، أو الإذعان لها ، وفي كل الحالات تكون السلطة هي الخاسر الأول والوحيد . فداخلياً فإن السلطة أمام مشهدين الأول شعبي مؤيد لتلك الظاهرة ويقف إلى جانبها ، باعتبار أن تلك الظاهرة تمثله طالما بحث عن نموذج ثوري ، ومشهد آخر يمثله رأس المال والشركات الاحتكارية التي ترى بهذه الظواهر الشعبية أو الثورية تهديداً لمصالحها الاقتصادية ،  يقابل ذلك بعض العائلات التقليدية مع بعض الفصائل الفلسطينية التي ترى بهذه المجموعات تهديداً جدياً لحضورها وتمثيلها وشرعيتها . هذا إلى جانب الضغط التي تمارسه دولة الاحتلال ومعها بعض الدول على السلطة الوطنية الفلسطينية لإنهاء (الظاهرة) ،وفرض (النظام والقانون).

كما أن تطورات المواجهة الفلسطينية مع الاحتلال ترتبط أيضاً بالمجموعات ذاتها وبإرادتها وباستعدادها لمواصلة المقاومة ،  واتساع نطاقها ،  فعامل الجغرافيا غاية في الأهمية فكلما اتسع نطاق المواجهة يعني في المقابل زيادة إرباك الاحتلال ، وتكبيده خسائر بشرية ومادية ،  قد لا يقوى عليها إذا كانت كبيرة وباهظة . ومع ذلك يحسب لهذه المجموعات أنها جددت نموذجاً نضالية ، وأعادت من جديدة إحياء فكرة المقاومة بأشكالها المختلفة ، وخلطت من جديد الأوراق،  ونسفت كل التوقعات والسيناريوهات والنتائج التي كانت قد توصلت لها مراكز البحث الإسرائيلية والدولية المعنية بالشأن الفلسطيني ، والدوائر الأمنية والاستخباراتية والعسكرية الإسرائيلية ، والتي كانت تراهن على أن الفلسطينيين بحالة (خواء) ، وأن العمل المسلح قد انتهى عصره ، على الأقل في الضفة الغربية ، وأن الأوضاع بمجملها تحت السيطرة ، وأن سياسات الاحتلال القمعية ، يضاف لها السياسات الأمنية والاقتصادية للسلطة الوطنية الفلسطينية ، يضاف لذلك الوضع العربي المتردي ، وتطبيع بعض الدول العربية مع دولة الاحتلال ، هذا إلى جانب عدم اعتبار القضية الفلسطينية على رأس أولويات النظام الرسمي العربي ، الغارق بعضه في مشاكله الداخلية والإقليمية ، هذا أيضاً إلى جانب الدعم الذي تتلقاه دولة الاحتلال من بعض عواصم القرار الدولي ، وما يرافق ذلك من حماية لها في الأمم المتحدة ، لا سيما في مجلس الأمن الدولي ، كلها تصب حسب الرؤيا الإسرائيلية القاصرة في اتجاه أن الشعب الفلسطيني ، أصبح قاب قوسين أو أدنى ، (للتسليم) للاحتلال ، والقبول بشروطه .

ومع ذلك لا استطيع الجزم أن هذه المجموعات المسلحة ستستمر في تُصدر المشهد ، على الرغم من العدد الكبير للعمليات العسكرية وعمليات إطلاق النار والاشتباكات التي نفذتها وخاضتها تلك المجموعات المسلحة في العام 2022 ، والتي يمكن أن تكون الأكبر منذ العام1967 حتى الآن ، فقد قتل (29) جندياً ومستوطناً ، وأصيب (129) آخرين ، في (200) عملية نفذها مقاومون فلسطينيون _ أذا ما استثنينا مرحلة انتفاضة الأقصى_ ، لأنه لن يكون مسموح لهذه المجموعات المسلحة ذلك ، سواء من  قبل الاحتلال الذي يتربص بكل فعل وعمل نضالي فلسطيني ، أو من قبل السلطة الوطنية التي ليست بوارد السماح لتلك المجموعات أن تكون حاضرة في المشهد لأسباب كثيرة ، ليس أقلها الخوف من الالتفاف الجماهيري حول تلك المجموعات الأمر الذي قد يشكل تهديداً لشرعية السلطة ، واستمراريتها ، كما أن قيادة السلطة الفلسطينية لا تؤمن في الأصل بالعمل المسلح كنهج وطريق لتحرير فلسطين ، وذاتياً أن هذه المجموعات المسلحة تفتقر للقيادة السياسية المجرّبة التي يمكن أن توجه وتقود وتخطط ، وأن تتخذ القرار ، أو على الأقل أن (تستثمر) العمل العسكري كرديف ومساند للعمل السياسي ، كما لا يمكن التأكيد من الناحية العسكرية أن هذه المجموعات المسلحة سيكون بمقدورها منفردة مواجهة جيشاً منظماً ومدرباً يمتلك من العدة والعتاد ما يؤهله لحسم المعركة ، لكن الرهان يبقى وهذا هو إيمان الفلسطينيين ، أن خسارة معركة لا تعني بالمطلق خسارة الحرب ، وبالتالي الرهان يوماً على الشباب الفلسطيني ، بأنه سيحسم الحرب آجلاً أم عاجلاً .

 

أخيراً اليوم نحن أمام مفترق طرق ،  وقضيتنا الوطنية ومشروعنا الوطني على المحك ، بل في مهب الريح ، فما بين قيادة سياسية عاجزة ، ومنظمة تحرير مشلولة ، وأوضاع داخلية فلسطينية سيئة ، وسياسة إسرائيلية أقل ما يقال عنها أنها سياسة عنصرية في ظل صمت دولي مريب.  ببساطة شديدة الوقت ليس بصالحنا ، وعلينا استخلاص الدروس والعبر وإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني كمشروع تحرري يواجه واقعاً استعمارياً ، الأمر الذي يتطلب الاتفاق على برنامج إجماع وطني ، من خلال شراكة سياسية بين الكل الفلسطيني ، دون إقصاء لأحد.

هذا الحال أوجد حالة من الاغتراب السياسي عند غالبية الفلسطينيين ، الأمر الذي أدى إلى نأي عدد كبير من الشباب على وجه التحديد عن الانتماء للفصائل الفلسطينية ، وبالتالي ممارسة النشاط السياسي المنظم ، ولكن ذلك لم يمنعهم في البحث عن أطر وحراكات وصيغ أخرى لتنظيم أنفسهم أو العمل من خلال تلك الحراكات المختلفة سواء من خلال ممارسة العمل المسلح أو الشعبي ، لذلك نجح اليوم عديد من الشباب في إيجاد الفضاءات السياسية / الاجتماعية / المطلبية للتعبير عن مواقفهم ، سواء لجهة الإصلاح ومحاربة الفساد واحترام الحريات وضرورة إجراء الانتخابات ، أو في تعزيز المقاومة والمواجهة مع الاحتلال ، سواء الشعبية أو المسلحة.

ومع كل ذلك سيبقى يُذكر التاريخ للأجيال المتعاقبة أن الفلسطينيين ، لم يتوقفوا عن الكفاح على مدار قرن ويزيد،  ضد قوى الاستعمار والاحتلال ، وذلك من أجل  تقرير مصيرهم  وتحرير وطنهم وإقامة دولتهم المستقلة على ترابهم الوطني ، مئات الآلاف من الشهداء والجرحى والأسرى والمبعدين والمفقودين،  كفاح قل نظيره في حركات التحرر،  وما زال الطريق طويل .

 

التعليقات مغلقة.