السطوحي ومأزق التفكير العقلانيّ النقديّ / د.عدنان عويّد
د.عدنان عويّد ( سورية ) – الإثنين 26/9/2022 م …
أكيد أن الكثير منا يتذكر مسرحيّة (سطوحي) للفنان المسرحيّ الكبير “محمد صبحي”. تلك المسرحيّة التي شخصت على المسرح آنذاك الشخصيّة الساذجة التي تعاني من قصور شديد في فهم الكثير من برتوكول العلاقات الاجتماعيّة, وأسلوب التعاطي معها. وأمام هذه الشخصيّة, يوجد برأي أنماط كثيرة من الشخصيات المسطحة عقولها أو السطوحيّة في إدراكها للفن والأدب والثقافة والسياسة. ولم تزل للأسف صاحبة رؤية في هذه الحياة, بل وصاحبة قرار, وبخاصة تجاه ما نعيشه اليوم من مآسي ليس لها حدود, وعلى رأسهم هنا (السطوحيون السياسيون) أو ممتهنو الخطاب السياسيّ تنظيراً وتحليلاً وممارسة وكذباً, الذين يُنظرون علينا يومياً منذ بداية الخريف العربيّ بأفكار ورؤى لا تمت إلى حقيقة ما نعيشه بصلة, إلا من كون هذه الأفكار والرؤى تزيد في الطين بلّة من حيث زيادة أزمة الواقع وإشعال نيران فتنها طائفيّاً وعرقيّاً وأيديولوجيّاً, إضافة إلى جوع الموطن وقهره وتغريبة وتشريده ودفع إلى الموت البطيء دون رحمة أو شفقه من أحد.
إن أية رؤية فكريّة تُطرح للحوار أو النقاش حول أية ظاهرة لا ترتكز في بنيتها وآلية عملها المعرفيّة على تحليل الظاهرة وتركيبها وفقاً لمنهج فكريّ عقلانيّ نقديّ, تظل رؤية سطحيّة تنطلق من عقليّة تلامس سطح الواقع وقشوره ولا تدخل في أعماق الظاهرة والنظر في مكوناتها, وبالتالي هي هنا لا تتعدى في معطياتها, أكثر من صورة فوتوغرافيّة جسدت الظاهرة كما هي في شكلها بعيداً عن عمقها الذي يتضمن شروط وجودها وسيرورتها وصيرورتها وتحولاتها وحتى تلاشيها.
قد نختلف في رؤانا منهجياً تجاه الظواهر السياسيّة التي تفرض علينا النظر فيها والجدال حولها, وهذا أمر طبيعيّ – أي الاختلاف – تكونه درجة ثقافتنا ومصالحنا واهتماماتنا ومصادرنا الثقافيّة والمنهج الفكريّ لكل منا, ولكن المهم في النتيجة أننا ندخل إلى عمق الظاهرة أثناء تناولها في حواراتنا لنصل إلى حالة من المثاقفة أو التبادل المعرفيّ, نتعلم فيه من بعض ونستفيد بما يخدم خروجنا من هذه الأزمة التي نمر بها جميعاً, وفي النهاية نكمل بعضنا بعضاً للوصول إلى الحقيقة التي لا يمكن أن يصل إليها أي منا لوحده (فرد كان أو مجموعة). وهذا ما يساهم في خلق قواسم مشتركة بين الجميع, تؤكد عندنا على أن هذه الظاهرة موجودة ولها معطياتها وسماتها وخصائصها وحواملها الاجتماعيّة. وهي ظاهرة قد تفيد المجتمع أو تضره.
أما هؤلاء النماذج “السطوحيّة” التي أشرنا إليها, وفي مقدمتها المهتمين بالشأن السياسيّ منهم بشكل خاص, الذين راحوا يعالجون أزمتنا العربيّة التي نعيشها اليوم بكل حمولاتها المخزية. فمعظم هؤلاء على ما يبدو من مجريات الأحداث, ليس لديهم بالأساس لا رؤية ولا منهجاً فكريّاً ولا حتى معرفة في المبادئ الأوليّة للحوار, بقدر ما يهمهم مصالحهم الخاصة الضيقة الأنانيّة, وفي مقدمتها التشبث بالسلطة أو الوصول إليها .وبالتالي يمكن أن نوصفهم ضمن المعطيات التالية :
1- هم يفتقدون في رؤيتهم للظواهر منهجيّاً. أي لا يمتلكون منهجا محدداً يتكئون عليه في عرض ومناقشة ما نمر به اليوم من مآسي. وإنما في غالبيتهم يتكئون إما على إيديولوجيا صماء جامدة مفوّته تاريخيّاً, يعتقدون أنها صالحة لكل زمان ومكان, وعليهم ليّ عنق التاريخ دائما كي ينسجم معها. أو أنهم يتحركون وفقاً لرؤى ذاتيّة تحركها مصالح شخصيّة أو قبلية او طائفية أو حزبيّة أنانيّة ضيقة غالباً ما تكمن وراءها شهوة السلطة, والغنيمة.
2- قسم كبير منهم, ربما يمارسون فعل القراءة, ومتابعة الأحداث, ولكنهم لا يمتلكون القدرة على تحليلها وإعادة تركيبها. وبالتالي فهم, من موقفهم المعرفيّ هذا, ليسوا أكثر من آلة تصوير تلتقط الحدث الذي تراه أو تشاهده وتقدمه كصورة فاقدة لروحها الحقيقة أو شروطها الموضوعيّة والذاتيّة .
3- أكثرهم إطلاقيون في رؤيتهم للظواهر, وهذا ما يجعلهم يأخذون الظاهرة وكأنها كاملة في مكوناتها أو بنيتها ومعزولة عن محيطها, أي ليس لها أية علاقة مع ما يحيط بها من الظواهر الأخرى.
4- إن ما ضويتهم, ونمطيتهم, وسكونيتهم (جمود تفكيرهم), تولد عندهم كرهاً للمختلف معهم فكراً وعقيدة ورؤية للحياة, في داخل السلطة أو المعارضة. فهم هنا يتحولون إلى عناصر عدائية للآخر المختلف, وغالباً ما يتعاملون مع الآخر من مواقعهم الدينية الطائفيّة والمذهبية, أو من مواقع عرقيّة وسياسويّة وانتهازيّة رخيصة, أو من معطيات عشائرية وقبلية يمتلكها حب الظهور. أو من مواقع سلطويّة, وفي المحصلة هم يميلون إلى التطرف, ولديهم القابلية لممارسة الإرهاب على الأخر بكل أنواعه الفكريّ والجسديّ, أي الماديّ والروحيّ, رغم ادعائهم الحياديّة والموضوعيّة والعلمانية والديمقراطيّة.
5- أكثرهم استسلاميون, امتثاليون, يفتقدون القدرة على المحاكمة ومقاربة الأشياء المحيطة بهم واستخلاص النتائج بشكل عقلاني.
6- أكثر مثقفيهم منمذجون وسطحيون وكذابون ومنافقون , يلوكون عبارة ثورية ووطنية مستهلكة فكراً وممارسة, وغالبا يرددون ما يقوله قادتهم بطريقة ببغاويّة, لتاكيد التزامهم بالخط الفكري والسياسي القائم, وهم أكثر بعداً في سلوكياتهم وتفكيرهم عن أفكار هؤلاء القادة.
6- أخيراً إن هؤلاء السطوحيين أصبحوا اليوم كالنباتات الفطريّة يتكاثرون في عالمنا العربي مع أيّة أزمة يتعرض لها الوطن أو الأمّة, وبالتالي يحملون سمومهم القاتلة معهم, يبثونها في عقول الكثير ممن افتقدوا أصلا من أجيال الشباب العربيّ للرعاية والتوجيه السليمين معرفيّاً ومنهجيّاً, وهذا ما زاد في تعميق أزمتنا وتخلفنا .
كاتب وباحث من سورية
التعليقات مغلقة.