فلسطين وأراكان.. وجهان لجريمة واحدة / د. محمد عمارة تقي الدين
د. محمد عمارة تقي الدين – الثلاثاء 20/9/2022 م …
في معرض دراسة سابقة لي بعنوان ” مسلمو أراكان وجحيم ما بعد الحداثة”، والتي تناولت فيها بشيء من التفصيل بعض جوانب مأساة المسلمين الروهينجيا في ميانمار وتحديداً في إقليم أراكان وما يُرتكب بحقهم من جرائم تهجير وإبادات ممنهجة ترقى لكونها جرائم تطهير عرقي مكتملة الأركان، ولأنني متخصص في المقام الأول في الصراع العربي الصهيوني، فقد هالني وجه التشابه الكبير بين المأساتين، القضية الفلسطينية هنا والقضية الأراكانية هناك، وكأن التاريخ يعيد إنتاج نفسه بشكل رتيب.
فكما أن هنا، وفي فلسطين، جرائم التطهير العرقي والإبادة والطرد للفلسطينيين والتي جرت على نطاق واسع ، نجد الأمر نفسه هناك وفي أراكان.
ولعل مشهد المُهجَّرين الروهينجيا في عام 2017م وما سبقه من قتل وإبادة بهدف التطهير العرقي عبر الخلاص النهائي من العرق الروهينجي، يعيد إلى أذهاننا بقوة مشهد نكبة فلسطين عام 1948م وما حدث بها من قتل وتهجير على نطاق واسع.
فهي ذاتها استراتيجية التفريغ والإحلال التي يتبعها كل استعمار استيطاني، وهي تدور في متتالية من خطوتين:
الأولى: تفريغ الأرض من أهلها قتلاً أو تهجيراً ( الفلسطينيون هنا، والروهينجيا الأراكانيون هناك).
الخطوة الثانية : توطين المستعمر مكانهم( الصهاينة هنا، والبورميون هناك).
هنا، وفي فلسطين، آلة عسكرية مدججة بالسلاح (الصهاينة) ضد شعب أعزل(الفلسطينيون)، وهناك، وفي ميانمار، المأساة ذلتها حيث الألة العسكرية البورمية في مواجهة أهل أراكان العُزَّل.
بل إن الأرقام ذاتها تكاد تتطابق بشكل عجيب، فهنا وفي فلسطين تم تهجير 750 ألف شخص في عام النكبة وحدها، وفي أراكان وفي عام 2017 م تم تهجير حوالي 735 ألف من الروهينجيا، نفس العدد تقريبا، ياله من درس وتطابق مثير للعجب!!
وكأن الدرس التاريخي يعلمنا أنه علينا الإفلات من تلك الحلقة المرعبة عبر إيقاظ الضمير العالمي ومن ثم فرض صيغة تراحمية أخلاقية عادلة للسلام على هذا الكوكب، وإلا تكررت جرائم الإبادة تلك مرات ومرات.
وها هي معسكرات اللاجئين الروهينجيا في بنجلاديش تعيد إلى أذهاننا بقوة مشاهد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وغيرها، وكأن بنجلاديش هي الأردن هي مصر هي سوريا هي لبنان.
وكما أن هنا محاولة (أسرلة) ما تبقى من الفلسطينيين المقيمين داخل الكيان الصهيوني وتذويب وطمس هويتهم، هناك وفي بورما تجري على قدم وساق محاولات (برمنة) ما تبقى من المسلمين في الكيان البوذي البورمي.
وكما أن هنا، وفي فلسطين، نجد الاستيطان الصهيوني يعمد جاهداً لتغيير الوضع الديموجرافي وإيجاد واقع جديد على الأرض عبر بناء المستوطنات ليسكنها الصهاينة وحدهم، هناك سنجد الاستيطان البورمي في أراكان من أجل تغيير التركيبة السكانية عبر بناء ما يسمى بالقرى النموذجية ليسكنها البورمان ومن ثم يصبحوا هم الأغلبية في الإقليم.
هنا، وفي فلسطين، تقاطعت مصالح الدول الكبرى لزرع الكيان الصهيوني في المنطقة العربية، هناك وفي أراكان الشيء ذاته، وإن كان بشكل أقل.
هنا، وفي فلسطين، كانت لعنة الجغرافيا، حيث الأهمية المفرطة للموقع وقد جنت على أصحابه، فها هي فلسطين تكاد تكون ميدان العالم حيث الأطماع بها بلا حدود، وهناك، وفي أراكان، حيث موقعها المتميز كمنفذ هام على خليج البنغال والمحيط الهندي.
وكما ساهم الانقلاب العسكري وتاريخ طويل من الديكتاتورية وعوامل أخرى في إحداث تحول مركزي في الديانة البوذية داخل ميانمار من بوذية المحبة والسلام إلى بوذية القتل والدمار، هكذا تحولت اليهودية بفعل الصهيونية من ديانة سماوية إلى أيديولوجية قتل وإبادة.
هنا، وفي فلسطين، جرى توظيف الإعلام والبروباجاندا على نطاق واسع للترويج للأساطير الصهيونية، وهناك وفي ميانمار جرى توظيف الإعلام وبخاصة السوشيال ميديا للهجوم على الروهينجيا والتحريض ضدهم وادعاء أن صور القتل والحرق والإبادة لأطفال ونساء الروهينجيا لا تعدو كونها مشاهد مفبركة ولا تمت للواقع بصلة.
غير أن الفلسطينيين بدأوا في تدارك الأمر والاهتمام بمعركة الإعلام، وهكذا بدأ يفعل الروهينجيا الآن.
القضيتان: الفلسطينية والروهينجية، هما إرث الاستعمار الغربي، بل إنه إرث نفس المستعمر( بريطانيا) والتي تركت أوضاعاً تفجيرية مهدت الطريق لكلتا المأساتين.
هنا، وفي فلسطين، تزييف صهيوني واسع وممنهج للتاريخ بادعاء أن الوجود العربي في فلسطين هو وجود طارئ وحديث بل بلغ الأمر حد الترويج لأكذوبة (أرض بلا شعب)، وهناك، وفي أراكان، نجد الأمر ذاته بادعاء أن الوجود الإسلامي لا يزيد عمره عن قرن من الزمان وأنها قبائل أجنبية مهاجرة ومن ثم عليها العودة مرة أخرى لأوطانها.
هنا، وفي فلسطين، نجد حاخامات التطرف يدعون لقتل وإبادة الآخر، فها هو الحاخام (مائير كاهانا) مؤسس منظمة كاخ الإرهابية والذي يدعو لقتل العرب وتهجيرهم، وهناك وفي بورما ستجد رهبان التطرف، وكأنها صورة كربونبة، فها هو الراهب البوذي البورمي (آشين ويراثو) زعيم حركة (969) البورمية المتطرفة الذي وضعت مجلة التايم صورته على غلافها في عام 2013م تحت عنوان( وجه الارهاب البوذي) ، فهو المحرض الأول على قتل المسلمين في بورما، إذ يصفهم بأنهم ديدان وحشرات سامة ويتكاثرون بسرعة ومن ثم يتحتم القضاء عليهم، فهم وحسب زعمه ” وباء يهدد بورما”، وهي ذات الصيغ التي يستخدمها حاخامات التطرف الصهيوني.
هنا، وفي فلسطين، نجد شعار وسياسة يهودية الدولة وأن الأرض للصهاينة وحدهم، وهناك، وفي بورما، نجد شعار وسياسة بورما للبوميين وحدهم.
هنا، وفي فلسطين، تجري المحاولات الصهيونية الرامية لطمس أية ملامح للوجود التاريخي الفلسطيني، مثل طمس كلمة الفلسطينيين لتصبح القبائل العربية، وها هي تل الربيع أصبحت (تل أبيب) وأم الرشراش أصبحت( إيلات )، و بئر السبع أصبحت( بير شيفع)، والقدس أصبحت(أورشليم)، وعسقلان أصبحت (أشكيلون)، والأشرفية أصبحت( كيبوتس رشافيم) وهكذا.
على الجانب الآخر، وفي ميانمار، تجري محاولة طمس كلمة روهينجيا لتصبح القبائل الأجنبية، كما أن أراكان أصبحت (ركهاين) نسبة إلى الركهاين البوذيين، والعاصمة التاريخية لأراكان (مروهانج) أصبحت (موراك يو)، والعاصمة الإدارية (أكياب) أصبحت (ستوي).
من هنا يمكن أن نتفهم الشعور الدفين بحالة التوأمة التي تجمع هذين المجرمين(الكيان البورمي والكيان الصهيوني)، ولعل ذلك ما يفسر الدعم العسكري وصفقات السلاح التي يقدمها الكيان الصهيوني للمجموعة العسكرية الحاكمة في ميانمار دون أن يعبأ بمطالب المجتمع الدولي لوقفها.
وفي التحليل الأخير، نعود لنؤكد أن هاتين المأساتين انعكاس لأزمة نظام عالمي تأسس على نسق القيم ما بعد الحداثية المغالية في لاإنسانيتها، إذ لا يؤمن إلا بمنطق القوة وحده حيث البقاء للأقوى، ويذهب بعيداً فيما يعرف بالنفعية السياسية منزوعة القيم.
حيث قتل الأبرياء دون وخز من ضمير قد أضحى خصيصته المركزية، والإفراط في القتل والإبادة على نطاق واسع عبر استخدام أسلحة ما بعد حداثية متطورة لا تفرق بين أطفال وشيوخ ونساء، وتبني الكثيرون مواقف سلبيىة عبر إلقاء اللوم دوماً على الضحية، وإن كانت هناك مواقف إيجابية فلا تعدو كونها إدانات كلامية لا أكثر، واستشراء مبدأ المصلحة البراجماتية والنفعية السياسية، فالمواقف يجري تقديرها بمقياس الربح والخسارة، فطالما لن أستفيد فلما أتدخل؟
ومن ثم فلا مكان للضعفاء في هذا العالم مهما تكن عدالة قضيتهم، ونسبية كل شيء، وإعادة تفسير كل معتقد، وزعزعة كل أساس ومبدأ وقيمة، فكلها أمور تدور مع المصلحة البراجماتية حيث دارت، ولا ثوابت يمكن القتال من أجلها.
ومن ثم نعتقد أنه طالما ظلت تلك الحضارة تسير بذات منطقها وقيمها فستظل الإبادات تتكرر دائمًا مع اختلاف الضحية والمكان، فكأنما هي ماكينة صُنعت خصيصاً لإنتاج مثل هذه الإبادات.
ما بعد الحداثة، والتي خرجت من رحمها كا هذه الجرائم، هي إذن قطيعة كاملة مع الإنسان بما هو إنسان، هي سلسلة تفاعلية من الإبادات التي لن تتوقف بل ستزداد عدداً وبشاعةً بمرور الوقت، ولن تسلم منها بقعة في هذا العالم.
في حين أن ما نريده هو إحداث تفاعل إنساني قيمي عكسي ليصبغ الحداثة بصبغة روحية أخلاقية، ما نريده حقاً هو زرع جين أخلاقي قيمي تراحمي في نخاعها(يمكن أن نستفيد من المخزون الديني في ذلك) من أجل إعادة إنتاج نظام عالمي جديد، أقل نفعية وأكثر تراحمية وانحيازاً للضعفاء في هذا العالم.
حاجتنا وبحق هي لشق نهر جارف من القيم الإنسانية التراحمية، لإخماد جحيم ما بعد الحداثة، وإلا التهمنا جميعاً.
التعليقات مغلقة.