المواطن المقدسي يعرّف عن نفسه : ” أنا العقبة!! “
مدارات عربية – السبت 8/5/2021 م …
كتبت فاطمة خليفة …
يقف المقدسيّ على بساطه ليصلّي، فيطلع أذانه “عقبة”.يتوجه إلى قبلة المسلمين، يصوّب بوصلة قلبه إلى المسجد الأقصى، فيغدو خشوعه “عقبة”، يحمي بيته بلحمه الحيّ فيصير جسده “عقبة”. “أنا عقبة”، هكذا يعرّف المقدسيّون عن أنفسهم. هم عقبة أمام مخططات الاحتلال الجائرة.
7 أيار/مايو 2021، يوم كانت القدس فيه أقرب من أيّ وقت مضى. تاريخ يضاف إلى الذاكرة الفلسطينية والأرشيف المقاوم. كان يوم أمس الجمعة يوماً للقدس بالإسم، يرافقه المعنى، واللغز، والأحجية، واليقين، ثم الجواب. ليلة أمس كانت دافئة، رحيمة، خاصة جداً. كانت رسالة في كتاب محفوظ، جاء وقتها المناسب.
لم تمر ليلة أمس على فلسطين المحتلة والقدس ومحبيها مرور الكرام، بل مرّت مرور الأحبة، مرور المشتاقين، مرور اللاهثين وراء الحق، والمؤمنين بالعودة، الذين عرفوا وخبروا أن الحق لا يُعطى، بل يؤخذ، والأيام شواهد.
بعد انتهاء صلاة المغرب أمس الجمعة، اقتحمت قوات كبيرة من شرطة الاحتلال الإسرائيلي باحات المسجد الأقصى، مستخدمة الرصاص المطاطي وقنابل الغاز. وأجبرت المصلّين على الخروج من المسجد بالقوة، كما أغلق الاحتلال المصلى القبلي داخل المسجد الأقصى بالسلاسل الحديدية، بعدما اقتحمه وأطلق قنابل الصوت صوب المصلين.
قنابل صوتية وقنابل مسيلة للدموع، ورصاص مطاطي، ورصاص متفجر، معروف بالدمدم (لشدة ما يحدث صوتاً مدوّياً)، واعتداء وتنكيل وظلم تجاه قوم يمارسون فعل الصلاة، في نهار خاص بهم جداً، نهار الجمعة، في يوم له في وجدانهم ما له، يوم القدس. في شهر هو عند المسلمين أفضل الشهور، شهر رمضان المبارك، في مكان هو قبلة المسلمين الأولى، المسجد الأقصى.
يُصرّ المحتل أن ينكّل بالفلسطيني في أعز أيامه، يزعجه إيمانه. يعجز أن يفهم اللغز، كيف يتمسك الفلسطيني بأرضه، متسلّحاً بهذا القدر من الثقة، رغم المشهد الذي يقطر بؤساً وسوداوية؟ ورغم كل ما يتعرّض له من قتل وأسر وتنكيل؟ ورغم التطبيع الذي اعتقد من اعتقد أنه سيصفي القضية، ويعدم ما تبقى من أمل؟
يصب المحتل جل لؤمه على مصلين متسلّحين بالإيمان والحجر. يخاف رغم أنه مدجج بأشد الأسلحة فتكاً. يرجف وهو يوجّه رصاصه إلى صدور قوم عُزّل، لم يتخلوا في زمن التخلّي رغم كل مشاهد الدم والاغتصاب والأذى والخذلان والتطبيع.
اللؤم الذي تراه في عيون المستوطن والمجند الإسرائيلي هو استنكار خفي، كيف يتمكن هؤلاء العُزّل من تجاوز كل هذا الصخب ولا ينهارون؟ كيف يتخطون كل هذا الرشق ويقاومون؟
مأساة حي الشيخ جراح.. قصة أخرى
– يعقوب، أنت تعلم أن هذا ليس منزلك؟
– نعم، ولكنك تعلمين جيداً أنني حتى وإن خرجت فأنت لن تعودي للمنزل. وإذا لم أسرقه أنا، سيسرقه غيري.
كل من تابع أخبار حي الشيخ جراح في القدس شاهد هذا الفيديو على مواقع التواصل والذي يظهر حواراً بين سيدة فلسطينية ومستوطن إسرائيلي.
ببساطة، بكل ما تحمله الكلمة من غبن وظلم وهدر للحقوق واغتصاب وتعدٍّ علني: “إذا لم أسرقه أنا، سيسرقه غيري”.
عندما استقرت 28 عائلة في حي الشيخ جراح عام 1956، كانت تأمل أن يكون هذا هو اللجوء الأخير، بعد أن تمّ تهجيرها من منازلها إثر نكبة عام 1948. لكن العائلات التي ازداد عددها إلى 38 منذ ذلك الحين، تعيش نكبة متجددة يومياً.
مفوضیة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أعلنت اليوم أن ما يجري من انتهاكات في حي الشيخ جراح في القدس المحتلة يرقى إلى “جريمة حرب”. واعتبرت أيضاً أن عملیات الإخلاء القسري قد تنتھك الحق في السكن اللائق والخصوصیة وحقوق الإنسان الأخرى لمن تم إجلاؤھم.
حي الشيخ جراح شهد ليالٍ صعبة، وثقها ناشطون فلسطينيون بفيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث شهد الحي مواجهات بين الأهالي المهددين بإخلاء منازلهم من ناحية، وقطعان المستوطنين مسنودين بقوات الاحتلال الإسرائيلي من ناحية أخرى.
قصة أهالي حي الشيح جرّاح تحسبها سوريالية لفرط ما فيها من افتراء وظلم. فجأة يأتي من يستوطن أرضك، أرض أهلك وجدتك وجدك ووالدك ووالدتك. ويطالبك أن تخرج من بيتك الصغير، ويريد منك تفريع دارك من أي معنى وذاكرة، وعليك أن تتصرف كأنك تسلّم أوراقاً لا تعنيك، لا كأن تسلّم هويتك وسبب وجودك وصك حقوقك وممتلكاتك.
تخيل أن يأتي يومٌ تكون فيه مكان منى كرد مثلاً. الصبية الفلسطينية التي تقطن بالقدس في حي الشيخ جراح، وتكتب للعالم أن أياماً قليلة تفصلنا عن انتهاء المدة التي حددتها محكمة الاحتلال لتهجيرنا من منازلنا.
“لتهجيرنا من منازلنا”. من بيتنا. من دارنا. تخيل فرط القهر، يريدون قتل من في البيوت عبر تهجيرهم. أوليس تهجير هؤلاء من بيوتهم هو شروع في القتل أيضاً؟
لكن أصحاب هذه البيوت يقولون كلمتهم منذ أيام، منذ أن اندلعت المواجهات في حي الشيخ جراح. “أنا عقبة”. هاشتاغ استعمله أهالي الحي، ليقولوا للمحتل أنهم عقبة في وجه إكمال مشروعه.
أنا عقبة ولن تأخذ بيتي الصغير. أنا عقبة، ولو استمريت في السعي، أنا عقبة وسأصر أن أمنعك من الوصول.
يقول الشاعر ابراهيم نصرالله، الفلسطيني الأصل والأردني المولد، في كتابه “السيرة الطائرة أقل من عدو أكثر من صديق”، إن “الشاعر الإسرائيلي يكتب شعره عن البيت الذي أخذه مني، وأنا أكتب شعري عن بيتي الذي سأعود إليه”.
وهذا صلب الموضوع على أي حال.
التعليقات مغلقة.