غور الصافي…صفاء ونقاء وبياض الملح والسكر / أ.د. أحمد ملاعبة .. والإعلامي أسعد العزّوني

357

 مدارات عربية – الخميس 6/5/2021 م …

كتب :أ.د. أحمد ملاعبة .. والإعلامي أسعد العزّوني

 هناك في الأفق البعيد وعلى مسافة 170 كيلو متر من العاصمة عمّان، والقريب وجدانا يقع غور الى شرق ضفاف الحوض الجنوبي للبحر الميت، وهو غور يمتد لأكثر من 100 كم مربع ،عند نهاية العديد من الاودية العملاقة مثل وادي الصافي ونميرة وعسال والحسا شرقا نحو مرتفعات  الكرك والطفيلة، هذا الغور الذي يحاور غور حديثة والمزرعة، له من إسمه نصيب ،حيث عندما كان البحر الميت يشكل بحرا يعرف بإسم بحيرة اللسان، والتي كانت تمتد من غور فيفا الذي يقع الآن 40 كم إلى الجنوب من نهاية البحر الميت رغم أن مياه بحيرة اللسان كانت تغرقه، والشاهد على ذلك رسوبيات الملح والجبص المتواجدة في غور فيفا أو ما تعرف رسوبيات السلام أو  الرقائق (Varvs)، وعلى إمتداد ال 40 كم الفاصلة الآن بين الغور والحوض الجنوبي.

بحيرة اللسان قصة نجاح لفصل كبير أو موسوعة علمية جبولوجية شاملة،حيث كان البحر الميت على هيئة غير الهيئة  التي نراها الآن، هيئة حددت من خلال الأبحاث العلمية الرصينة  والشواهد الطبيعية والجيولوجية والبيئية، إذ كان البحر الميت قبل 70 ألف عام ولغاية 14 ألف عام قبل الآن، بحرا عذبا يمتد من غور فيفا شمالا إلى أن يصل بحيرة طبريا وبحيرة الحولة التي جففتها (إسرائيل؟) بين عامي 1951-1956 م ،بحجة أنها مكرهة صحية تسبب الملاريا، ولكن السبب الحقيقي المبطن هو إيجاد مستنقع آمن لزراعة الرز، ولكنه وعند إنحسار البحر وأصبح على وضعه الحالي، وإنقسم إلى حوضين الشمالي والجنوبي ،وبينهما منطقة مرتفعة لم تغطيها المياه تشبه اللسان، ولذلك فإن سبب ظهور  منطقة اللسان هو الذي جعل إسم بحيرة اللسان القديمة يطلق على البحر.

إن علاقة ذلك مع الغور الصافي نجم عن ترسب المياه آنذاك برسوبيات من العصر الرباعي او العصر الجيولوجي الذي نعيش فيه، وبعضها رسوبيات رملية وأخرى مالحة من المتبخرات، ومنها الأملاح البيضاء الصافية التي جعلت العرب  إبان الحضارة الايوبية والمملوكية (الفترة من  1200 إلى 1600 م)، ينشئون أقدم لا بل أول معاصر  السكر وسبخات استخراج  الملح التي ما تزال تعمل وشواهدها موجودة بشكل أساسي في غور الصافي ووادي النميرة المجاور.

وهناك مطلب لترميمها وجعلها مزارا لبيان قوة العقل العربي والحضارة الإسلامية في الإستفادة من عيدان قصب السكر التي لا تزال تنمو على إمتداد الغور الأردني بشماله ووسطه وجنوبه.

عشرات المعاصر لاستخراج قصب السكر ما تزال موجودة على إمتداد الغور الأردني ،وأكبرها في غور الصافي حيث كان يتم عصر قصب السكر المحلي والقادم أيضا من الهند عن طريق قنوات مائية ،تحرك حجر العصر الثقيل (البد) وهو مصنوع من الجرانيت ثم ينتقل العصير عبر قنوات ويحزن في الأواني الفخارية والجرار ،ومن ثم يغلى لإعطاء قوالب السكر الصلب التي يتم طحنها على هيئة الحبات الناعمة المعروفة، واليوم عمّان كما بقية المدن تشرب عصير قصب السكر من نفس ذات القصب الذي إستغله العرب في العصر الأيوبي- المملوكي، لإنتاج حبات السكر البيضاء وعصير القصب الشهي،إضافة إلى بياض السكر وصفاته.

يأتي بياض ملح الهالايت: Halite  وهو كلوريد الصوديوم “NaCl”،وهو السبب أيضا في إنشاء شركة البوتاس العربية التي تنتج البوتاس”او بالانجليزية البوتاش:Potash”،وهو الإسم التجاري لمعدن السلفايتSylvite “ كلوريد البوتاسيوم:KCl” ومعدن  الكرنلايت وهو كلوريد الصوديوم والمغنيسيوم، وبالتأكيد كميات هائلة من الهالايت أو الملح الأبيض الصافيين روحيا بهذا الغور القريب من الشواطيء الجنوبية الشرقية للبحر الميت.

تتميز جوانب الوادي بإرتفاع شاهق كونه تعلوه نهايته قرب البحر صخور جلاميد السرموج وهي من أقدم الصخور بعد صخور القاعدة ،وأكثرها جمالا،وقد تحطمت من صخور القاعدة التي يبلغ عمرها ما بين 600 مليون عام- واحد مليار عام ،وأعطت هذا المشهد المتناسق الأنيق من صخور  بحجم الجلاميد المتلاحمة بالرءوبيات ،ولكل قطعة صخرية لون وداخل كل صخر معادن بهية وزاهية.

هذه الميزة الفريدة تميز الأودية المشاطئة للبحر الميت، ويميز غور الصافي  هذه الصخور السرموجية(نسبة إلى وادي السرموج في معان جنوب الاردن)  وكما أسلفنا في وادي نميرة  سابقا، وجود مدن ومستوطنات بشرية من العصر البرونزي المبكر 5200 عام، لذلك فإن وادي الصافي يتميز بالكثير من هذه المستوطنات وأهمها مستوطنات غور الصافي في القرى التي يعتقد أنها كانت موجودة ،وهي المؤتفكات وعمورة وسدوم وأصغر وجدير ذكره أن سيدنا إبراهيم في رحلته من بابل و أور إلى شمال العراق  ثم إلى تركيا فمصر فسوريا وفلسطين وإستقراره في الخليل، كان يرافقه سيدنا لوط عليه السلام إبن هاران عم سيدنا إبراهيم، وخرج الى غور الصافي وسكن مع  وبناته في دير أو كهف وعين عباطة ، بعد أن خرج من منطقة قرى المؤتفكات والتي سكنها معهم خلق  كثير، لم  يؤمنوا به وبرسالته وخرجوا عن مألوف البشر، وتزوجوا الغلمان والذكور  فحل بهم الخسف ومعهم زوجته التي خالفته، ويقال أن هناك تمثالا يقال له تمثال إمرأة لوط (وهو رمز غير صحيح إذ أنه مكون من صخر الترافتين المعروفه في المنطقة والمترسبة من المياه الحاره ومن يستطلع المكان حول التمثال ،يجد أشكال كثيرة تسمى الغراميل أو الأشكال التضاريسية الجميلة ولا علاقة لها بالخوف ،كما أن غربي البحر الميت يوجد تمثال من الملح فوق قبة ملحية “Salt Dome” ،عند مدخل الكهف الملحي  مما يؤكد أنها تشبيه لشكل نحتته الطبيعة وليس لبشر) ، ولكن نجا النبي لوط الذي إتخذ بعدها صومعة في المنطفة العصر البرونزي، ولم تكن هناك ديانة سوى  ديانة إبراهيم”مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ“.صدق الله العظيم.

ربما من أصل القول وأصالته أن الكهف الموجود، أوما يعرف بكهف لوط الذي جرى ترميمه في العهد البيزنطي في القرن السادس، بعد ثلاثة عقود من إعتناق الرومان المسيحية، وعادوا يجمّلون الأماكن التي كانت تعارض ديانتهم الوثنية، فقاموا بتجهيز دير بأعمدة مزخرفة أمام الكهف وفي الفناء خارج الكهف الذي إتخذه لوط وأهل بيته مصلى.

نستطيع القول أن الغور والوادي ومحيطه يعج بالأماكن الأثرية والدينية وفوق ذلك كله ،هنالك على إمتداد المنطقة نزلات ومصاطب تسير عليها مياه رقراقة صافية تضيف إلى الصفاء صفاء،ولذلك سمي الصافي  ،شلالات مائية وينابيع كثيرة إختلط فيها العذب البارد مع الكبريتي الساخن ،ليعطي هذا الوادي ميزة أخرى كي يتألق بين الأودية مناط البحث.

عرف الغور وإشتهر سابقا بكثرة الغزلان الباحثة عن الماء في بلدة الصافي، وكذلك الوشق والنمر العربي ،وسجل تاريخيا تواجد الأسود إضافة إلى المفترسات الأخرى مثل الثعالب والذئاب  والحصيني والفينك والضباع، ولا تزال الضباع تتجول على يابس أرض الغور في الضفتين.

مياه البرك التي تجمعت في أرضية الغور تسمع نعيق الضفادع  وصغاب الأرانب، وصوت فيه بحّة من البوم الذي ينتشر على أغصان أشجار الطرفة والسدر والنبق والعبهر ،وتجملها طلّات عسف النخيل الكثيف الممتد من جنبات الغور وأرضيته وشجيرات كثيرة  يصعب حصرها مثل الطيون والشنات وبعض الأشجار العطرية مثل حصى البان والريحان.

صحيح أن الإهتمام الحكومي بدأ منذ إكتشاف كهف لوط في عام 1987،وتم إنشاء متحف على مدخل الوادي لتوثيق حقبة سيدنا لوط، لكن هناك توجس من الناس لإعتقادهم أنها أرض خسف وأنه موصى بالسرعة عند المرور بها، ولذلك لا بد من بيان انه لا تعارض  بين الدين وسياحة المنطقة ، كون إن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصانا بزيارة القبور لأخذ العبرة والإتعاظ، ،على الرغم من أن حادثة الخسف بحاجة إلى تحقيق أكبر كون الحوض الجنوبي أقدم من عمره ب 5 ملايين عام على أقدم الإنسان الشمالي ب30 مليون عام، لذلك نقول ان الخسف كان في بقعة محددة ومساحة محصورة، ولا بد  من توضيح ذلك علميا حتى لا يبقى العقل  محصورا في قمقم أن البحر تكون بفعل الخسف،بل بتكوين طبيعي، وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين ، فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم ”  وسكن أهل سدوم وعمورة إن صح مكان تواجدها طلبا للأراضي الزراعية  المنتشرة على ضفتي الوادي ومصادر الرزق من البحر .

كل هذه الأفكار تحتاج إلى عصف ذهني  يتمخض عنه مشروع سياحي عملاق إسمه مشروع غور الصافي  ونقاء سيدنا لوط.

التعليقات مغلقة.