الدروز الموحدون أو بنو معروف: طائفة دينية أم جماعة ثقافية متميزة؟ / ابراهيم غرايبة

0 218

إبراهيم غرايبة ( الأردن ) – الإثنين 17/3/2025 م … 

يفضل الدروز تسمية بني معروف أو الموحدين. لكن التسمية سلطة كما يقال. فقد غلبت عليهم تسمية الآخر لهم، نسبة إلى “الدربزوني” أحد ولاة الدولة الفاطمية من طربزون المدينة التركية على البحر الأسود. ثم حرفت الكلمة بسبب ثقلها إلى درزي، حين كانت أقاليم الشام ومصر وشمال أفريقيا تابعة للدولة الفاطمية (909 – 1171م) وتحدت الدولة العباسية في بغداد، وفي تلك المرحلة دخلت في الإسماعيلية قبائل وجماعات عربية كثيرة، منها على سبيل المثال بنو هلال، كما تحالف معها جماعات وإمارات محلية وإن لم تتغير مذهبيا. بعد وفاة أو اختفاء الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله عام 1021م استقل التنوخيون وقبائل وإمارات عربية في بلاد الشام بأنفسهم عن الدولة الفاطمية حتى إن صراعا مسلحا لم يكن لصالحهم نشب بينهم وبين الفاطميين.

يفضل الدوروز أن يسموا أنفسهم “الموحدون” أو “بنو معروف” ويرون ويقدمون أنفسهم مسلمين وهم وإن كانوا تاريخيا اسماعيليين لكنهم اليوم مستقلون عن الجماعة الإسماعيلية الرئيسية التابعة للإمام الاسماعيلي الآغاخان، ولكنهم تحيط بهم وبتاريخهم معلومات وأفكار وأوصاف كثيرة متعددة المصادر والدوافع تجعلهم مجموعة غامضة.

المؤكد أنهم ينتمون إلى قبائل عربية عريقة استوطنت المنطقة مثل لخم (المناذرة) والتنوخيون، وبنو مخزوم، والمعنيون (نسبة إلى معن بن زائدة) من عمرو بن ربيعة، وبنو هلال بن عامر، وبنو كلب وطي وفزارة، وقد اعتنقت نسبة من هذه القبائل في فترة من الزمن الإسماعيلية كما اعتنقت فئة أخرى الشيعة الاثني عشرية، والسنية، وبعضها ظل مسيحيا كما كان الحال منذ القرن الثالث والرابع الميلادي.

تعرضت الإسماعيلية إلى حملة تشويه منظمة ومزدوجة بسبب العداء مع الشيعة الاثني عشرية ومع الدولة العباسية في فترة من الزمن عندما استطاعت الاسماعيلية أن تنشئ دولة كبيرة ممتدة استولت على شمال أفريقيا ومصر والشام (الفاطميون) وانقسم الشيعة بعد وفاة الإمام جعفر الصادق سنة 765م بين أتباع الإمام اسماعيل بن جعفر (الإسماعيليون) والإمام موسى الكاظم بن جعفر (الاثني عشرية)، ثم اختلف الدروز مع الأئمة الفاطميين بعد الحاكم، وتعرضوا لاضطهاد فاطمي عنيف ومروع يقترب من الإبادة الشاملة.

يؤكد الدروز أنهم لا علاقة لهم بالداعية الدرزي وهو أحد دعاة الإسماعيلية المتطرفين والخارجين على الاسماعيلية، وأن تسمية الدروز ألصقت بهم زورا لأسباب عدائية وللإساءة إليهم، ويؤكدون أنهم مسلمون، ويفضلون أن يسموا مذهبيا “الموحدون”، ونسبا “بني معروف”

تأثرت الدعوة الإسماعيلية ومعها الموحدون مثل اتجاهات سنية بالفلسفة والتصوف، ولكن الطبيعة المغلقة للمجتمع الدرزي والسرية التي أحاطوا بها أنفسهم ومذهبهم جعلتهم أكثر ثباتا وأقل تغيرا في أفكارهم وسلوكهم ولغتهم ومظهرهم، فما يبدو اليوم وصفا درزيا يخص الدروز كان في واقع الحال اتجاه وحال نسبة واسعة من العرب في مذاهبهم وأفكارهم وثقافتهم وأسلوب حياتهم، ولكن العرب السنة في انفتاحهم على العالم تغيروا كثيرا وصاروا يحسبون ما كانوا هم عليه ثقافة وفكرا درزيا، وقد زادت العداوات والصراعا والسرية الدرزية الأوهام والظنون حولهم، لكنهم بدأوا في الفترة الأخيرة يقدمون ويوضحون أنفسهم.

السرية الدرزية لم تكن تخص الدروز وحدهم فهي أسلوب وثقافة عربية وآرامية راسخة في الوعي والسلوك وأضاف إليها الخوف والنزاع أبعادا دينية بل وقداسة، وتغير العرب وتخلوا عن السرية، ولكن الدروز ظلوا متمسكين بالسرية كمبدأ دينيي ورمزي كما تمسكوا بأشياء أخرى كثيرة.

تمكن الدروز بفضل انغلاقهم على أنفسهم أن يحافظوا على سلسلة قياداتههم التاريخية الممتدة إلى قرون طويلة، وظلت الأسر الدرزية مثل المعنيين والتنوخيين والشهابيين والأرسلانيين وعلم الدين تحتفظ بأملاكها ومجتمعاتها وقياداتها منذ قرون طويلة، ولم تتلاشى كما حدث للأسر العربية الأخرى في الفضاء الإسلامي السنّي التي لم تعد تعرف نفسها!

وقد وسع الامير فخر الدين المعني في القرن السابع عشر وأبناؤه من بعده حدود الإمارة المعنية وسلطتها في لتشمل معظم بلاد الشام، ووسع علاقاته التجارية والسياسية مع الأوروبيين، لكنه دخل في صراع مع الدولة العثمانية قضى على العائلة لتؤول قيادة الدروز في نهاية القرن السابع عشر إلى أنسبائهم الشهابيين الذين ينتسبون إلى خالد بن الوليد (بنو مخزوم)، ودخلت العائلات الحاكمة وحلفاؤها في صراعات دموية طويلة، وصعدت في هذا الصراع أسرة جنبلاط وحلفاؤها، وهي أسرة تعود إلى أصول كردية هاجرت من حلب في عام 1630 ودخلت في مصاهرات وعلاقات تحالف وصداقة مع المعنيين والأرسلانيين، وفي التقارب والتحالف مع الموارنة تحول أمراء شهابيون إلى المسيحية المارونية بدءا بالأمير بشير شهاب وابنائه في القرن الثامن عشر، وجاء منهم فيما بعد الرئيس اللبناني فؤاد شهاب (1958 – 1960). وهناك أيضا عشائر شهابية كثيرة في سوريا ينتمون إلى السنة، ومنهم حكمت الشهابي (1931 – 2013) رئيس هيئة أركان الجيش السوري (1974 – 1988

يشترك الدروز مع المسلمين في المظاهر العامة والطقوس والاحتفالات الدينية والمناسبات، ويطبقون التعاليم والأحكام الإسلامية في الزواج والوفاة،.لكن من ا لمعروف عن الدروز أنهم لا يظهرون التزاما دينيا بالصلاة والصيام والحج، ويحتفلون بشكل خاص بعيد الأضحى ويصومون الأيام العشرة التي تسبقه، ولكن الدروز يظهرون احتراما كبيرا وولاء للإسلام، ولديهم أيضا طرق صوفية وخلوات ومجالس للذكر يقرأ فيها القرآن والأذكار والأوراد والأناشيد الدينية، وربما يعود التقاعس الظاهر عن الواجبات الدينية إلى مؤثرات صوفية وفلسفية واتجاهات اجتماعية شعبية هيمن عليها في مرحلة من الزمن ضعف التدين والتمسك بالشعائر الدينية، وبعض الدروز يؤدون الصلاة والصيام مع السنة في مساجدهم ويشاركونهم التطبيقات الفقهية، ويعتبر المذهب السني الشافعي هو الأقرب إليهم، ويتمسك الشيوخ و”العقال” في المجتمعات الدرزية بالشعائر والتطبيقات الدينية، ولكن البقية “الجهال” لا يظهرون التزاما طقسيا وان كانوا يعتبرون أنفسهم مسلمين، ويلزم الانتقال من “الجهل” إلى “العقل” عمليات اختبار وانتظار وتكريس، ويحافظ الدروز على أسرارهم الدينية والطقسية ولا يطلع عليها حتى الدروز الجهال، والواقع أنه وعلى نحو غير طقسي كانت المجتمعات الشامية السنّية أيضا يغلب عليها هذا الحال، إذ لم يكن يؤدي الصلاة في المسجد سوى عدد قليل من الشيوخ وكان الناس جميعهم يكتفون بأداء صلاة الجمعة. وعلى سبيل المثال فإن دار الندوة لقريش لم يكن يسمح بدخولها إلا للحكماء الذين تجاوز عمرهم الأربعين سنة.

يؤمن الدروز كما يذكر تيسير ابو حمدان (درزي) في كتابه الدورز مسلكا ومعتقدا بالتقمص، وهي فكرة قريبة من التناسخ لكنها مختلفة، فالجسد قميص للروح واذا بلي الجسد (الوفاة) تحل الروح لأنها خالدة لا تموت في جسد آخر وبالولادة، وبالانتقال المتواصل بالأجساد يكون امتحان الروح وتطورها.

وبشكل عام تؤكد الكتب والدراسات التي وضعها مؤلفون دروز مثل كتاب أنور فؤاد أبي خزام/ إسلام الموحدين: المذهب الدرزي في واقعه الإسلامي والفلسفي والتشريعي على أن الدروز مسلمون موحدون متمسكون بالقرآن والشهادتين.

كان يغلب على الدروز الصمت والسرية وعدم الردّ على الكتابات التي تصفهم بأنهم غير مسلمين، ولكن في العقود الأخيرة بدأت تظهر كتابات لدروز تعرف بالمذهب ومبادئه وتاريخه، وتبنت مشيخة الدروز مجموعة من الكتب والدراسات التي تعرف بهم، مثل كتاب عبد الله النجار” مذهب الدروز الموحدين، وكتاب أمين طليع: أصل الدروز الموحدين، وكتاب انور فؤاد أبي خزام: إسلام الموحدين، المذهب الدرزي في واقعه الإسلامي والفلسفي والتشريعي، ويعرض أبي خزام عشرات الكتب الدرزية التي نشرت في السنوات الأخيرة.

يغلب على المذهب الدرزي الطابع الصوفي الفلسفي، ويعتبر الدروز الصحابي سلمان الفارسي رأس السلسلة الصوفية التي ينتسبون إليها، ويقول أبي خزام إن العرفان التوحيدي لدى الدروز يعكس ملامح أفلوطينية وفيثاغورية ولكنه يبقى في الدائرة الفكرية الإسلامية المتفاعلة مع الفلسفة اليونانية، وهي اتجاهات وأفكار ورثها الدروز عن المذهب الإسماعيلي ورسائل إخوان الصفا التي يعتقد أن أئمة الإسماعيلية وعلماءها قد وضعوها لتكون منهجا فكريا وفلسفيا للإسماعيليين.

في التشريع والاحوال الشخصية يتبع الدروز المحاكم الشرعية السنية في بلادهم حسب المذهب السائد في مناطقهم، فهم في حلب يتبعون المذهب الشافعي وفي لبنان يتبعون المذهب الحنفي في لبنان، وأما تاريخهم السياسي والاجتماعي فهم جزء من المنطقة وأهلها، ويغلب عليهم تاريخيا الشجاعة والبطولة في القتال والدفاع عن البلاد.

ومن الشخصيات الدرزية الفكرية والسياسية المهمة في الفضاء العربي والإسلامي الأمير شكيب أرسلان (1869 – 1946) وهو شاعر ومفكر كما هو مناضل وقائد سياسي، وينتسب إلى الملك النعمان بن منذر، ومن كتبه: تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط، والحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية، وترجمة لرواية آخر بني سراج: تأليف الكونت دي شاتوبريان، والسيد رشيد رضا، أو إخاء أربعين سنة، وشوقي، أو صداقة أربعين سنة، ولماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ وبيوتات العرب ولبنان، وكان في مكتبته الخاصة أكثر من 24 ألف مخطوط وأضعافها من الكتب المطبوعة، وهو جد وليد جنبلاط لوالدته.

وهناك أيضا الأمير حسين بن فخر الدين المعني (1627 – 1697) مؤلف كتاب “التمييز” وقد نشأ في قصر السلطان العثماني، وعمل سفيرا للدولة العثمانية ووالده الأمير فخر الدين شخصية مهمة ومؤثرة في تاريخ المنطقة.

الحال بتقديري (لا أعلم إن كان الدروز يوافقون على هذا التقدير) أن الدروز ليسوا طائفة دينية ذات هوية وطقوس ومرجعيات واضحة محددة، مثل الشيعة أو الاسماعيليين. لكنهم جماعة ثقافية تحمل موروثا ثقافيا ودينيا عميقا وممتدا في التاريخ العربي، ينتمي بعضه إلى الإسماعيلية، والكثير منه ينتمي إلى موروث ديني كان سائدا بين العرب قبل الإسلام وبعده، ظل مكرسا لدى بني قبائل بني معروف وتخلى عنه الغالبية الكبرى من العرب، حتى الملابس واللهجة التي تنسب إلى الدروز هي ثقافة عربية أصيلة، تخلى عنها العرب واحتفظا بها الدروز، فصارت تسمى درزية. وربما يكون من هذا الموروث العربي خصوصية النبي شعيب لدى الدروز، ومن المعروف أنه لا ينتمي إلى السلالة التقليدية الغالبة للأنبياء المعتمدين في اليهودية والمسيحية والإسلام (أبناء إبراهيم) لكنه ينتمي إلى فرع آخر في سلالة نوح نعرف أيضا منه صالح وهود وربما أيوب.

ومما نستنتجه أو نعرفه اليوم عن “الحنيفية” التي تنسب إلى إسماعيل أنها قائمة على الإيمان بالله والعمل الصالح وأنها تتقبل جميع الأديان والمعتقدات الأخرى. وفي القرآن الكريم “وعهدنا إلى إبراهيم وإسمعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود” “وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق” وهي آيات تشير إلى التنوع الديني وأن الحج والبيت الحرام يشمل كل مؤمن بالله، وبالفعل فقد كان يطوف بالكعبة ويحج إليها يهود ومسيحيون وغيرهم، وفي السيرة النبوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة أمر بمحي جميع الرسوم والرموز من الكعبة عدا الرموز والايقونات المسيحية.

وختاما فإني أظن الدروز مسلمون أقرب إلى السنة، لكنهم أيضا جماعة ثقافية تحمل ميراثا دينيا وثقافيا عميقا وممتدا ومتنوعا يحتاج إلى تأمل ودراسة تاريخية وانثروبولوجية، وأنهم قد يكونون مصدرا متبقيا يستدل بها الباحثون على التاريخ الديني الممتد إلى آلاف السنين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

5 × 3 =