كمال ميرزا يكتب عن الرئيس السمسار!

كتب كمال ميرزا ( الأردن ) –
الأربعاء 5/3/2025 م …
كلّنا تابعنا المشادّة التي حصلت بين الرئيس الأمريكيّ “دونالد ترامب” والرئيس الأوكرانيّ “فلودومير زيلنسكي” في البيت الأبيض.
وكلّ شخص منا قام بتأويل هذه المشادّة تبعاً لانحيازاته ومواقفه المسبقة، سواء موقفه من “ترامب” و”زيلنسكي”، أو موقفه من “أمريكا” و”أوكرانيا” وموقع كلّ منهما ضمن السياق العالميّ الأكبر، كالحرب بين روسيا وأوكرانيا، أو حرب الإبادة والتهجير التي تشنّها الولايات المتحدة عبر الكيان الصهيونيّ على الشعب الفلسطينيّ في غزّة والضفة الغربيّة.
عقدة المنشار في هذه المشادّة كانت اتفاقيّة استغلال المعادن النادرة في أوكرانيا، وسبب غضب “ترامب” مطالبة “زيلينسكي” بضمانات أمنيّة تتعلّق بالصراع مع روسيا قبل توقيع الاتفاقيّة.
محبو “ترامب” اعتبروا هذه المشادّة نقطة تسجّل لزعيمهم، هذا الأمريكيّ الأصيل، الذي يتصرّف بطريقة “الكاوبوي”، ويريد أن يعيد أمريكا عظيمةً كما كانت، وهو لهذه الغاية لا يخجل ولا يهادن ولا يجامل، بل ينتزع ما هو حقّ لأمريكا انتزاعاً مقابل كلّ ما تقدمه لحلفائها وأتباعها وأذنابها!
الشيء الذي لا ينتبه إليه هؤلاء، شأنهم شأن الأغلبيّة، أنّ أمريكا الدولة، أو أمريكا الأمّة (على فرض أنّ هناك شيء اسمه أمّة أمريكيّة)، هي آخر هموم “ترامب”!
الشيء الذي يفوت الجميع أنّ اتفاق المعادن النادرة إذا وُقّع، فإنّه لن يُوقّع فعليّاً لصالح أمريكا الدولة، ولا لصالح أمريكا الشعب، ولا لصالح أمريكا الأفراد.. بل سيُوقّع لصالح شركات!
تعاطي الأغلبيّة مع الموضوع، حتى وسائل الإعلام، يعطيكً إنطباعاً وكأنّ عقود استثمار المعادن النادرة ستكون باسم وزارة الصناعة والتجارة الأمريكيّة، أو سلطة المصادر الطبيعيّة الأمريكيّة، أو هيئة تنظيم المعادن النادرة الأمريكيّة، أو شركة قطاع عام يتم تأسيسها خصيصاً لهذه الغاية ويتم تمويلها من خلال فتح باب الاكتتاب أمام جميع المواطنين الأمريكيّين!
كلّ هذا هراء!
فالاتفاقيّة إذا أُبرمت، والعقود إذا وُقّعت، فإنّ المستفيد منها الشركات الأمريكيّة.. والشركات الأمريكيّة في زمن العولمة هي أمريكيّة بالاسم فقط، فهذه الشركات في حقيقتها هي شركات عابرة للقارات ومتعدّدة الجنسيّات لا نعرف بالضرورة “قرعة أبو” مساهميها ومالكي حصصها “من وين”، أو في أي ملاذ ضريبيّ هي والشركات الفرعيّة التابعة لها مرخّصة، أو في أي ملاذ ضريبيّ آخر تحتفظ بأرصدتها وعوائدها وأرباح الصفقات التي تعقدها من فوق ومن تحت الطاولة!
والشركات الأمريكيّة في حال توقيع الاتفاقيّة ليس بالضرورة أن تستعين بأيدي عاملة أمريكيّة، وربما لن تستعين بعمالة أساساً، فغالباً من أجل تعظيم الأرباح وتقليل الكلف والتهرّب من المسؤوليات والأعباء القانونيّة والأمنيّة والبشريّة والبيئيّة، ستلجأ هذه الشركات إلى تعاقدات مع مشغّلين ومزوّدي خدمات من الباطن.
بكلمات أخرى، “دونالد ترامب” في مشادته مع “زيلينسكي” لم يكن يتصرّف كرئيس دولة يحاول أن “يُدير القرص” لصالح دولته، “دونالد ترامب” كان يتصرّف كـ “سمسار” لصالح الشركات التي أتت به إلى الحكم، والذي هو جزء منها وأحد أدواتها في آن واحد.
والأمر لا يتوقّف عند مشادّةٍ قد يراها بعض السذّج حدثاً عارضاً وعابراً، فكامل النهج الذي ينتهجه “ترامب” يسير ويصبّ في هذا الاتجاه.
هذا ما يفعله “ترامب” داخل أمريكا قبل خارجها، ويعاونه في ذلك الأداة الأخرى “إيلون ماسك”: وضع اللمسات الأخيرة على الترتيبات التي عمل النظام الرأسماليّ العالميّ على إرسائها بدأب على مدار العقدين الماضيّين، والإعلان رسميّاً عن انتقال أمريكا، الدولة المركزيّة في هذا النظام، من طور “الدولة القوميّة” التقليديّ إلى طور “الدولة الشركة” أو دولة الشركات!
وهنا سبب غضب “ترامب” من “زيلينسكي”؛ فلو أنّ “زيلينسكي” طلب فقط أن يُمنح عمولةً نظير توقيع الاتفاقيّة، أو حصّةً من الأسهم، أو أن يُحال عطاء خدمات نقل المعادن النادرة إلى شركة مملوكة لزوجته، أو عطاء خدمات الأمن والحماية لشركة مملوكة لصهره، غالباً كان “ترامب” سيمنحه ما يريد عن طيب خاطر دون غضب أو تشنج.. أمّا أن يُطالب “زيلينسكي” بضمانات أمنيّة كرجل دولة “حقيقيّ” وزعيم دولة “مصدّق حاله”.. فهذه الخطيئة التي لا تغتفر، سيما من طرف ممثّل أمريكا هي مَن أتتْ به إلى سدّة الحكم!
وحتى موقف حلفاء “زيلينسكي” داخال وخارج أوكرانيا لا يخرج عن هذا الإطار؛ فهم دفعوه إلى التراجع سريعاً عن موقفه “الوطنيّ” المُفترَض، والإعلان أنّه ما يزال مستعدّاً لتوقيع اتفاقيّة المعادن، لأنّهم ببساطة لا يريدون أن يخسروا حصّتهم “وتلحيسة الأصابع” التي يمكن أن تنوبهم جرّاء ذلك!
ما يسري على “زيلينسكي” يسري على غيره؛ فباعتبار أنّ أمريكا هي الدولة المركزيّة في النظام الرأسماليّ العالميّ، فإنّ نموذج القيادة السائد فيها هو “النموذج القياسيّ” الذي يجب أن يسري على بقية دول العالم.
فإذا كان الرئيس الأمريكيّ سمساراً، فالمتوقع من بقيّة الرؤساء والزعماء والقادة أن يكونوا سماسرة هم أيضاً حتى يمكن التعاطي معهم، وحتى ينالوا القبول، ويحظوا بالرضا، وينعموا بـ “الشرعيّة”، ولا يُرفع عنهم الغطاء!
أو بلغة الرياضيات، وعلى طريقة الاقتران المتّصل الذي تكون نهايته من اليمين مساوية لنهايته من اليسار: حتى ترضى أمريكا/ ترامب عن زعيم دولة فيجب أن يكون سمساراً.. ورضى أمريكا/ ترامب عن زعيم دولة بعينه هو مؤشّر على أنّ هذا الزعيم هو سمسار بالفعل!
طبعاً الحديث هنا عن زعماء الدول التابعة أو ما تسمّى “دول الأطراف” في النظام العالميّ، وليس “دول المركز” التي يزاول زعماؤها السمسرة من موقع الندّ وليس من موقع التابع!
خلاصة الكلام، مجنونٌ مَن يظنّ أنّ ترامب مجنون، وأنّ مراكز القوى والقرار الفعليّة ضمن النظام الرأسماليّ العالميّ تقف متفرجةً ومكتوفة الأيدي وهو يمارس جنونه لأنّها “يا حبّة عيني” لا تملك ما تصنعه، أو لأنّها “يا عمري” تحترم إرادة الناخب الأمريكيّ!