السنغال – ظروف وآفاق فَوْز حزب “باستيف” المُعارض / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الجمعة 22/11/2024 م …
جَرَت الانتخابات الرئاسية يوم 24 آذار/مارس 2024 وأسفرت عن انتخاب يصيرو ( بشير) جمعة فاي، الأمين العام لحزب “باستيف (حزب الوطنيين الأفارقة في السنغال من أجل العمل والأخلاق والأخوة، وهو حزب حَلَّتْهُ السلطات خلال شهر تموز/يوليو 2023 ) بنسبة 54% من أصوات الناخبين، منذ الجولة الأولى، وهزيمة منافسه أحمد با ( 36% ) مُرشّح الحزب الحاكم ( BBY ) والمقرب من الرئيس “ماكي سال” الذي ألغَى الإنتخابات التي كانت مُقرّرة يوم 25 شباط/فبراير 2024، قبل إقْرار المجلس الدستوري السنغالي إجراء الانتخابات في أقرب وقت ممكن، ولذلك جرت الإنتخابات يوم الرابع والعشرين من آذار/مارس 2024، وتَمَيّز حكم الرئيس ماكي سال بقمع المعارضة، وتمت مُحاكمة عثمان سونكو، زعيم ومؤسس حزب “باستيف” مرة أولى ( حزيران/يونيو 2023) وصَدَره ضدّه حُكم بالسّجن سنَتَيْن، وتم استئناف الحكم أمام المحكمة العليا، ومرة ثانيةً بتهمة التّشهير والإهانة ( 17 شباط/فبراير 2024)، وسَط احتجاجات أنصاره العديدين، وقررت الحكومة حل الحزب المُعارض ” باستيف” ( PASTEF ) الذي يتزَعَّمُهُ عثمان سونكو، ولتجنّب الصّدامات مع الحكومة والتّأويلات القانونية، تخلّى عثمان سونكو عن الترشح ورشّح حزب باستيف أمينه العام بصيرو ديوماي فاي (بشير جمعة فاي، زميل المِهْنَة والعمل النقابي لعثمان سونكو في إدارة الضّرائب) مكانه يوم 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وكان فاي مسجونًا منذ نيسان/أبريل 2023، بسبب انتقاده – على وسائل الإتصال “الإجتماعي” – سَيْرَ محاكمة عثمان سونكو الذي استعاد حقوقه المدنية وحقّه في التّرشح خلال شهر كانون الأول/ديسمبر 2023، وتعهّدَ فاي، الرئيس الخامس لجمهورية السنغال منذ استقلالها عن فرنسا سنة 1960، ب”الحكم بتواضع وشفافية، ومحاربة الفساد على جميع المستويات”، و إعادة بناء المؤسسات الدّستورية”، وجاء هذه الإنتصار بعد حوالي شهر من أزمة سياسية عميقة سببها إلغاء الانتخابات الرئاسية ثم تأجيلها، وبعد عشرة أيام من إطلاق سراح الرئيس الجديد – الذي لم تتم إدانته من قِبَل القضاء، ولذلك يمكنه الترشح للإنتخابات – ورئيس حكومته ومُعَلِّمِهِ عثمان سونكو الذي واجَهَ عددًا من القَضايا المُلَفَّقَة، وأحكامًا بالسجن، وانْتُخِبَ باسيرو ديوماي فاي رئيساً للسنغال في الجولة الأولى – رغم افتقاره إلى الخبرة السياسية – بفضل حماسة الشباب ورغبتهم في التغيير، بعد السنوات الثلاث الماضية التي تميزت بالمواجهات السياسية في ظل أزمة اقتصادية كانت البطالة وارتفاع الأسعار من أهم مظاهرها، وأصبح عثمان سونكو ( مُعَلِّم ومُرْشِد باسيرو فاي ) رئيساً للوزراء. وكان يفترض أن يكون سونكو مرشح “باستيف” للرئاسة لكن صدور حكم عليه بالسجن لمدة عامين خلال شهر حزيران/يونيو 2023، كان عائقًا لترشحه رغم عدم صدور حكم نهائي.
تَضَمَّنَ البرنامج الإنتخابي لحزب “باستيف” الخروج من مجموعة “الفرنك الأفريقي” المرتبط بالمصرف المركزي الفرنسي وباليورو، والموروث من الاستعمار، وإعادة التفاوض بشأن عقود التعدين والمواد الهيدروكربونية وحتى عقود التّسَلُّح والدفاع، فضلاً عن إصلاح النظام الرئاسي لإخضاعه للضمانات القانونية، وتُمثل هذه المُقترحات صدى لدعوات التّغيير الصّادرة عن الجمهور المُساند، أو “القاعدة السياسية والإنتخابية” الدّاعمة له والمُتعطّشة للتغيير ولبرنامج الرئيس الجديد ورئيس حكومته، مثل “استقلال السنغال وإعادة تخصيص الموارد لدعم التوظيف بسبب ارتفاع نسبة بطالة الشباب، ودعم مستوى المعيشة، وتخفيف حدة ارتفاع الأسعار ونسبة التضخم… “، وتمكن الثُّنائي فال و سونكو من الحصول على دَعْم الشباب الغاضب بسبب قتل الشرطة عشرات المتظاهرين واعتقال مئات المتظاهرين خلال فترات الاضطرابات التي شهدتها البلاد بين شَهْرَيْ آذار/مارس 2021 وتموز/يونيو 2023…
بعد حوالي ثمانية أشهر من الإنتخابات الرئاسية، وفوز باسيرو ديوماي فاي رئيسًا، دُعِيَ نحو 7,3 مليون ناخب ( من إجمالي 18 مليون نسمة) لاختيار 165 نائباً لمدة خمس سنوات، وحقق حزب “باستيف” انتصارًا ساحقًا في الإنتخابات التّشريعية التي جرت يوم السابع عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2024، وحصل على أغلبية مطلقة في البرلمان، وأقَرّت الأحزاب الأخرى بهزيمتها، بدون احتجاجات أو اعتراضات، مما يُشَكِّلُ اختبارًا لحزب “باستيف” الذي لن يُمْكنه التّذرّع بالعوائق السياسية لتطبيق برنامجه القائم على “السيادة الاقتصادية”، وهو يتمتع بدعم قوي بين السكان، وخاصة بين الشباب الذين اجتذبهم برنامجه للتغيير ( أو القَطِيعة مع مع الممارسات السابقة) الذي يُرَكِّزُ على تشغيل العمالة والإصلاح المؤسسي والسيادة الغذائية ومُكافحة الفساد والعدالة الإجتماعية، وفق تحليل نشرته وكالة الصحافة الفرنسية – أ.ف.ب. يوم الاثنين 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2024
انتخب باسيرو ديوماي فاي رئيساً للسنغال في الجولة الأولى على رغم افتقاره إلى الخبرة السياسية اللازمة، لكنه تمكن من الفوز بفضل الحماسة والحاجة إلى التغيير لدى جيل الشباب الذي أرهقته الأزمة السياسية والإقتصادية خلال السنوات الثلاث الماضية، وتعزز فوز الرئيس ورئيس الحكومة بحصول حزبهما على أغلبية برلمانية، وتحتاج السلطات إلى ثُلُثَيْ النّوّاب لتتمكّن من مُراجعة الدّستور، أو اللُّجُوء إلى تنظيم استفتاء، وحَصَلَ حزب “باستيف” على 80% من المقاعد، أو 132 نائبا من أصل 165 في الجمعية الوطنية، وحصل على المركز الأول في 47 دائرة انتخابية من أصل 54، وهي أغلبية تسمح للسلطة الجديدة بإطلاق الإصلاحات الرئيسية لبرنامج القطيعة، وفي مقدّمتها إقرار موازنة 2025 وإصلاح المالية العامة، وزيادة الإنفاق – الذي وعدت به الحكومة الجديدة – بنسبة 15,5% مُقارنة بسنة 2024، وترشيد الإنفاق وخفض حجم الدّيْن العام، و فق وسائل الإعلام المحلية ( من بينها موقع صحيفة والفجري يوم الثلاثاء 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2024)، كما وعدت الحكومة، بتسهيل حصول المواطنين على الرعاية الصحية، وتوسيع نطاق الكهرباء إلى كل الإقليم ودعم تدريب الشباب للتخفيف من حدّة بطالة هذه الفئة من المواطنين والتي بلغت نسبتها 23%، وكانت الحكومة الجديدة قد أنْجَزَتْ مُراجعةً لحسابات البلاد، نُشِرت نتائجها خلال شهر أيلول/سبتمبر 2024، واتّهَمَ رئيس الحكومة (عثمان سونكو) السلطات السابقة بإخفاء الوضع المُتأزّم للإقتصاد وللمالية العامة للبلاد، حيث أعلنت الحكومة السابقة عجْزًا بنسبة 5,5% بينما كشف التّدقيق الذي أمرت به الحكومة الجديدة عن عجز بنسبة 10,5%، كمعدّل خلال الفترة من 2019 إلى 2023، وأرسلت الحكومة نتائج التدقيق إلى مجلس المحاسبة للمصادقة عليه، مما قد يؤدي إلى إجراءات قانونية ضد مسؤولين سابقين، مما زاد من حِدّة التّوتُّر بين الرئيس السابق (ماكي سال) وعثمان سونكو رئيس باستيف، وبعد نشر نتائج التدقيق تم خفض تصنيف السنغال وجَمَّد صندوق النقد الدّولي برنامج قروض بقيمة 1,9 مليار دولار، تعاقدت عليه السلطات السابقةخلال شهر حزيران/يونيو 2023، وتُشكل هذه الإجراءات (خفض التصنيف وتجدميد القرض) أدوات ضغط على السلطات الحالية، فيما غادر الرئيس السابق البلاد طَوْعًا نحو المغرب، ملجأ الفاسدين والمُسْتَبِدِّين، خوفًا من نتائج التّحقيق في الفساد والجرائم الإقتصادية وتبديد المال العام طيلة 12 عامًا قضاها كرئيس للجمهورية، وكان حزب باستيف قد وَعَدَ – ضمن إصلاح المُؤسّسات – بإنشاء محكمة العدل العليا، التي يُمْكنها اتهام الرؤساء والوزراء ومحاكمتهم في حال ثبوت تهمة ارتكاب أعمال الفساد وسوء الإدارة.
خلفيات
جرت الإنتخابات الرئاسية ثم التشريعية في السّنغال في ظرف اهتزت فيه سلطة فرنسا – القوة الإستعمارية السابقة – في غرب إفريقيا وفي البلدان المُحيطة بالصّحراء، وتُعتبر السّنغال ( بلاد المُدافع العنيد عن الفرنكفونية، ليوبولد سيدار سنغور، أول رئيس للسنغال سنة 1960 ) مَعْقَلاً للغة الفرنسية وللمصالح الإقتصادية والعسكرية الفرنسية، وحافظت كل الحكومات السابقة على المصالح والنفوذ الفرنسي و”الغربي” عمومًا، لكن تأجيل الإنتخابات من قِبَل الرئيس ماكي سال جعل الإتحاد الأوروبي (وخصوصًا فرنسا) والولايات المتحدة يَضْغَطان – فضلا عن الضّغوط الشعبية الدّاخلية – لكي تُلْغِيَ المحكمة الدستورية السنغالية قرار رئيس البلاد تأجيل الانتخابات، وإيجاد حل دستوري يُجنب تَحَوُّل السنغال – معقل النّفوذ الإمبريالي – إلى صف البلدان “المُتَمَرِّدَة” مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو وغينيا، وتزامنت هذه المناورات الإمبريالية مع قُدْرَة المعارضة على إقامة تحالف واسع يضم أحزابًا ومنظمات ونقابات، وطَرْح برنامج سياسي مُشتَرَك يرتكز على التنمية الاقتصادية والشفافية ومحاربة الفساد وإعادة توزيع عائدات البلاد، وتعميم التعليم والرعاية الصحية، مع “الدّفاع عن الديمقراطية ومبدأ التداول السلمي على السلطة “، وطَمْأنت قيادة حزب “باستيف” الدّول الإمبريالية – خصوصاً فرنسا – ووعدتها بصيانة مصالحها، مما جعل فرنسا – وكذلك الولايات المتحدة – تتخلّى عن دَعْم حكومة “ماكي سال” في السنغال الذي يُعَدُّ آخر معاقل النُّفُوذ الفرنسي في إفريقيا الغربية، و”السماح بتغيير السّلطة” بعد اتّساع رُقعة المُعارضة والإحتجاجات، وبعد ارتفاع شعبية روسيا لدى شعوب البلدان المجاورة، في منطقة وسط وغرب أفريقيا، وبعدَ فَشَلِ سياسات الاحتواء، واضطرار فرنسا والولايات المتحدة إلى إخلاء القواعد العسكرية في النيجر ومالي وبوركينا فاسو… وَعَدَتْ السلطات الجديدة في السنغال بإعادة التفاوض على عقود استغلال الغاز والنفط وكذلك اتفاقيات الدفاع وصيد الأسماك، وإنشاء أقطاب اقتصادية إقليمية، وتطوير وتعزيز البنية التحتية الاقتصادية (السكك الحديدية، والكهرباء، والخدمات البريدية، والاتصالات، وشبكة الطرق)، والتفضيل الوطني والاستهلاك المحلي… أما على المستوى الخارجي، فقد وعدت السلطات الجديدة “بتأسيس علاقات اقتصادية وتجارية عادلة بين السنغال وفرنسا، مُستَقْبَلاً”، وهي عبارات غامضة سوف تتجلّى مَدْلولاتها فيما بَعْدُ…
تمكّن حزب “باستيف” من تجميع جماهير الغاضبين والنقابيين والمعارضين للسُّلْطة التي كان يرأسها ماكي سال، وحصل على دَعْم بعض رموز المُعارضة، من بينهم بعض قُدَماء التّيّارات “المَاويّة”، وحَصَل بذلك على أغلبية برلمانية عريضة تسمح له بتعديل الدّستور وبتطبيق برنامجه، لكن هل تمتلك قيادة الحزب الجَرْاَةَ السّياسية والمَوارد المالية لتنفيذ الإصلاحات التي وعدت بها أثناء الحملة الإنتخابية؟