الفرنكفونية – استعمار ثقافي وسياسي / الطاهر المعز

0 225

الطاهر المعز ( تونس ) – الجمعة 11/10/2024 م …

ربطت فرنسا الإستقلال الشّكلي لدول إفريقيا الغربية، في بداية عقد الستينيات من القرن العشرين، باستمرار الهيمنة الإقتصادية والمالية (عبر الفرنك الإفريقي المرتبط بالفرنك الفرنسي) والثقافية من خلال اللغة الفرنسية (واللغة جزء من الثقافة والحضارة والتعليم وسير الإدارة…)، وناقش مجلس الوزراء الفرنسي موضوع إنشاء إطار فرنكوفوني، منذ سنة 1963، وأنشا الجنرال/الرئيس شارل ديغول ورئيس وزرائه جورج بومبيدو، سنة 1966 “اللجنة العليا للدفاع عن اللغة الفرنسية وتوسيعها ” بتواطؤ من بعض الزعماء الأفارقة مثل “ليوبولد سيدار سنغور” ( السينغال) و “هوفويت بوانْيي” (ساحل العاج) وبورقيبة (تونس) وغيرهم، وأعلن الجنرال ديغول:”الآن وبعد أن أنهينا الاستعمار، سوف يعتمد موقعنا في العالم على قوة تأثيرنا، ومن ضمنها قوتنا الثقافية “، لتُمثِّلَ بذلك اللغة الفرنسية (والفرنكوفونية فيما بعد) مشروعًا سياسيًّا يخدم طموحات الإمبريالية الفرنسية التي تراجعت هيبتها بعد الحرب العالمية الثانية، وخصوصًا بعد هزيمَتَيْ فيتنام (ديان بيان فو – 1954) والجزائر (1962)، وأنشأت الدّولة الفرنسية سنة 1970 وكالة التعاون الثقافي والتقني (سَلَف المنظمة الدولية للفرنكوفونية) كأداة للإستعمار “اللّيِّن” المُخْتَفِي وراء الثقافة…

تنعقد القمة الفرانكفونية مرة كل سنتَيْن، وانعقدت القمة الثامنة عشر سنة 2022 بجزيرة جِرْبَة بتونس، وانعقدت القمة التاسعة عشر يومي 4 و5 تشرين الأول/أكتوبر 2024 في فيليرز-كوتيريه (Villers-Cotterêts ) بفرنسا تحت شعار “الابتكار والإبداع وريادة الأعمال باللغة الفرنسية، ويندرج هذا الشعار ضمن الإستراتيجية الجديدة للمنظمة الدولية للفرانكفونية التي أضافت قضايا الإقتصاد إلى المسائل الثقافية، لتتمكن فرنسا من بيع سياراتها وسلعها وأسلحتها وترويج الإيديولوجيا المعادية للثقافات الشعبية المحلية، وانتهت القمة بوعود لن تتحقق مثل مضاعفة جهود تدريب وتشغيل الشباب…

لم يستفد مواطنو الدّول الأعضاء من الزّج ببلادهم في منظومة ثقافية استعمارية تُهيمن عليها فرنسا التي انحدرت مكانة لُغَتثها الفرنسية بين طلابها وباحثيها، غير إن اللوبي الفرنكوفوني – المستفيد من العلاقات غير المتكافئة بين الإمبريالية الفرنسية ومستعمراتها – لا يزال قويا في مجمل المستعمرات الفرنسية السابقة وخصوصًا في إفريقيا، من الجزائر إلى مدغشقر، مرورًا بإفريقيا الغربية والوُسطى والبلدان المحيطة بالصحراء الكبرى، ويعمل على سيادة اللغة الفرنسية في التعليم والبحث العلمي والإدارة، على حساب اللغات المحلية (العربية في المغرب العربي)، رغم إغلاق حدود فرنسا (والإتحاد الأوروبي) في وجه العمال والطلبة والسائحين وأقارب المقيمين العرب والأفارقة في فرنسا، فضلا عن العداء السّافر للغة العربية والحضارة والتاريخ والمواطنين العرب…

 

ظروف انقاد مؤتمر الفرنكفونية التاسع عشر

داخليا: تم تعيين ميشيل بارنييه رئيسًا للوزراء في فرنسا من قبل إيمانويل ماكرون، يوم الخامس من أيلول/سبتمبر 2024 ضمن عملية إعادة هيكلة الحياة السياسية وإنشاء التحالف الرسمي بين اليمين التقليدي واليمين المتطرف، حيث اشتهر ميشيل بارنييه بالتقارب مع أطراف اليمين المتطرف وبدا ذلك جليا خلال حملته الانتخابية سنة 2022، من خلال تحميل المهاجرين كل مشاكل فرنسا ومن خلال معارضته توزيع حبوب منع الحمل، ولذلك عبّرت قيادات حزب “التّجمع الوطني” (أهم وأقدم أحزاب اليمين المتطرف ) عن ارتياحها لتعيينه رئيسًا للوزراء، ويُستشف من تصريحات قيادات اليمين المتطرف إنها لن تُعرقله، ولو لم تُشارك في الحكومة التي لا تستطيع الإعتماد على أغلبية برلمانية لدعمها، دون تحالف أو “شراكة” بين اليمين التقليدي واليمين المتطرف الذي تمكّن من اسْتِمالة قسم واسع من “الفِئات الشعبية”، فضلاً عن دعم قيادات منظمات أرباب العمل ودعم وسائل الإعلام المملوكة لفنسانت بولوريه ولمجموعة “بويغ” وبعض الفئات الوُسْطى.

عمومًا، أظهرت انتخابات 2024 في فرنسا، وانحياز وسائل الإعلام (بما فيها محطات الإذاعة والتلفزيون للقطاع العام) لليمين المتطرف، انْزِياحًا لليمين التقليدي نحو اليمين المتطرف، في مجمل بلدان الإتحاد الأوروبي

 

خارجيا: هل تحتل الصين مكانة فرنسا في إفريقيا؟

كانت فرنسا قوة استعمارية كبرى لفترة طويلة في أفريقيا، تهيمن شركاتها على العقود المُرْبحة للبنية التحتية وبناء الموانئ ومحطات الطاقة وشبكات الطرقات والإتصالات، وتتعرض الهيمنة الفرنسية حاليا للتهديد بسبب المنافسة مع الولايات المتحدة وإيطاليا وروسيا وغيرها، وخصوصًا الصّين التي تنمو علاقاتها مع أفريقيا منذ أكثر من عِقْدَيْن، ويمثل مشروع طريق نيروبي- مالابا السريع نموذجًا لهذا التغيير، حيث حصل كونسورتيوم فرنسي شكلته شركتا فينشي وميريديم سنة 2019 على عقد تنفيذ هذا المشروع العملاق، ثم أعلن الرئيس الكيني ويليام روتو خلال منتدى التعاون الصيني الأفريقي في بكين من 04 إلى 06 أيلول/سبتمبر 2024 إلغاء العقد ومنحه إلى مجموعة صينية، ما يُشكّل انتكاسة للمصالح الفرنسية في المنطقة، ويتمثل المشروع في بناء طريق سريع ذو مسارين لِرَبْطِ العاصمة الكينية بالحدود مع أوغندا، بقيمة تفوق مليار يورو، بهدف تسهيل نقل البضائع من كينيا إلى أوغندا ورواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وجنوب السودان، وكان المشروع يعتمد على نظام رسوم يسمح للشركات الفرنسية بجعل استثماراتها مربحة لمدة ثلاثة عقود، غير إن مجموعة الشركات الصينية التزمت بتقديم تمويل ضخم وفترة قصيرة لإنجاز المشروع، وسبق أن اختبرت دولة كينيا جِدِّيّة ونجاعة الشركات الصينية من خلال بعض الإنجازات السابقة مثل طريق ثيكا السريع، وطريق نيروبي السريع، وخط السكة الحديد بين ميناء مدينة مومباسا والعاصمة نيروبي.

يُشير هذا المثال إلى تراجع نفوذ الإمبريالية الفرنسية في إفريقيا (وفي العالم) و إلى الصعوبات التي تواجهها الشركات الفرنسية في التكيف مع الواقع الجديد للسوق الأفريقية، وعدم قدرتها على الصمود أمام المنافسة الصينية، وبعض القوى الناشئة الأخرى مثل تركيا أو الهند، إذْ لم يَعُدْ بوسع فرنسا أن تتعامل مع أسواق معينة ( غربي إفريقيا مثلاً) كجزء من فضائها الحَيَوِي، وأدّى تزايد النفوذ الصيني في مجالات استخراج المواد الخام والبُنْيَة التحتية والإستثمار والتبادل التجاري والتعاون الثقافي إلى إعادة تشكيل الأسواق في قارة إفريقيا، خصوصًا منذ إنجاز طريق الحرير الجديد، منذ نحو عشر سنوات الذي مَكّن الصين من تعزيز نفوذها ونفوذ شركاتها في معظم مناطق إفريقيا، ومن بينها المغرب العربي الذي تعتبره المُخطّطات الصينية بوابة أوروبا – من خلال التّحايُل على تعريفات الإتحاد الأوروبي – وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وأصبح شمال إفريقيا يحتل مكانة مركزية في استراتيجية التوسع هذه، وأشارت وسائل إعلام المغرب مؤخّرًا إلى الإستثمارات الضخمة للشركات الصينية العملاقة ( مثل CNGR و Gotion) التي سوف تُحْدِث “تغييرًا جذريًّا في المشهد الصناعي في المنطقة” من خلال “ضخ عدة مليارات من الدولارات، في إنتاج البطاريات الكهربائية في المغرب”، بهدف تصديرها إلى أوروبا وربما إلى أمريكا الشمالية كإنتاج مغربي والإستفادة من الإتفاقيات التجارية والجمركية بين الاتحاد الأوروبي والمغرب، والإلتفاف على قرار زيادة الرسوم الجمركية الأوروبية على الواردات الصينية في قطاع السيارات الكهربائية والبطاريات، وتعد استراتيجية الصين جزءا من استراتيجية أوسع لإعادة تعريف سلاسل التوريد الدولية، حيث تسعى الصين إلى استغلال موارد المغرب المعدنية الأساسية لصناعة البطاريات، مثل الكوبالت والنحاس والفوسفات، بهدف الحفاظ على مكانتها المهيمنة في الصناعات المتطورة، وتوفر اتفاقيات التجارة الحرة بين المغرب والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إمكانية وصول الصين إلى تلك الأسواق، ما يُحَوِّلُ المغرب إلى حلقة وصل حاسمة في استراتيجية الصين للتحايل على الحصار التجاري “الغربي”، كما يمتلك المغرب بنية تحتية لوجيستية أنشأتها الشركات الفرنسية، ليُصبح المغرب أكبر مُنتج للسيارات في أفريقيا، فيما يسمح ميناء طنجة، الذي يقع على بعد 30 كيلومترا من الساحل الإسباني، بإرسال الحاويات إلى أوروبا والولايات المتحدة بشكل فوري، ويأمل المغرب – من خلال التعاون مع الصين – تعزيز مكانته في سلسلة الإنتاج الدولية للسيارات الكهربائية. بالنسبة للمغرب، والتّحَوُّل إلى مركز صناعي وتكنولوجي دولي، وهو ما لم تُوَفِّرْه فرنسا

تستعد مجموعة “شروق الشمس” ( Sunrise ) الصينية، إحدى أهم المجموعات في العالم، لاستثمار 4,1 مليار درهم في الاقتصاد المغربي، بدءًا بمشروع صناعة النسيج الذي يحظى بدعم من المَلِك المغربي نفسه، ووعدت الشركة الصّينية على عدم الإقتصار على مجرد نقل الإنتاج، بل “إنشاء نظام بيئي متكامل يغطي سلسلة قيمة المنسوجات بأكملها، بدءًا من زراعة القطن وحتى تصنيع الملابس”، وتتخوف النقابات من التّأثير السّلبي لمثل هذه المشاريع العملاقة من تدمير الصناعة والحرف المحلية، رغم الوعود “بخَلْق الآلاف من الوظائف ونقل التكنولوجيات والمعرفة وإحداث تحول دائم في المشهد الصناعي المغربي” وما إلى ذلك من الوُعُود

على مستوى الثقافة والإتصالات والإعلام والتعليم، انحدرت مكانة اللغة الفرنسية في العالم، بما في ذلك في الجامعات ومراكز البحث الفرنسية فضلا عن الإعلام والقطاع المالي والتكنولوجي، ومع ذلك بقيت سائدة في المُستعمرات الفرنسية السابقة، بفعل هيمنة فرنسا على اقتصاد هذه البلدان، بتواطؤ من فئات أوسع بكثير من الطبقة أو الإئتلاف الحاكم، وتشمل المثقفين والمُدرّسين والوُسطاء والوكلاء التجاريين الذين يُروّجون السلع الفرنسية، على حساب الإنتاج المحلي.

قبل عشر سنوات من انعقاد القمة التاسعة عشر يومي 4 و5 تشرين الأول/أكتوبر 2024، طلب الرئيس فرنسوا هولاند من جاك أتالي ( الوزير والمُستشار المُقرب من فرنسوا ميتران) تقريرًا عن “الفرانكوفونية الاقتصادية” وأكّد التقرير على ”  الارتباط بين نسبة الناطقين بالفرنسية في بلد ما والحصة السوقية للشركات الفرنسية في ذلك البلد ” ويقترح تعزيز مكانة فرنسا في العالم عبر إنشاء سوق مشتركة للبلدان الفرنكفونية  تُديرها فرنسا، في شكل “اتحاد اقتصادي مُتكامل للبلدان الناطقة بالفرنسية، شبيه في هيكلته بالاتحاد الأوروبي”، مع الإعتماد على المنظمة الدولية للفرنكفونية كأداة غير مكلفة لإنجاز المشاريع التي تحتاجها فرنسا لزيادة نفوذها على الساحة الدولية…

تُعتَبَرُ الفرنكفونية واحدة من أَذْرع الأخطبوط الإستعماري الفرنسي، من خلال ترويج لغة الإستعمار، واللغة ليست مجرد وسيلة تخاطب وتعبير، بل هي وعاء ثقافي وحضاري، وتهدف المنظمة الدّولية للفرنكفونية إدامة الإستعمار عبر تشكيل الوعي والتعبير ورؤية العالم من خلال الإعلام ومنظومة ومناهج التعليم والثقافة في “المركز” الإستعماري الفرنسي، ويُشكل الفرنكفونيون في إفريقيا نخبة أي أقلية من المواطنين التي ورثت السّلطة – بمختلف درجاتها – من الإستعمار، لأن اللغة الفرنسية لا تُستخدَم في المحيط العائلي وفي الأحياء الشعبية وفي الأرياف، بل هي لغة الإدارة والتعليم والبحث العلمي، وأصبحت لغة المُستعمِر والإرتباط الثقافي بالمستعمر منصة للحصول على المنح الدراسية وعلى تمويل المنظمات “غير الحكومية” ولغة المصارف والمُحاسبة وبعض القطاعات المرتبطة بالإستعمار وإيديولوجيته، وتؤكّد العديد من التقارير البرلمانية الفرنسية على أهمية نشر اللغة والثقافة الفرنسية لتنمية العلاقات الفرنسية الأفريقية…

 

الإمبراطورية اللغوية- الثقافية – الإقتصادية الفرنسية

تم افتتاح أول مدرسة فرنسية في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى يوم السابع من آذار/مارس 1817، في السينغال (سانت لويس)، حيث تمّ فَرْضُ اللغة الفرنسية كلغة التدريس الوحيدة، “لتعليم وتدريب نخبة متعلمة على الطراز الأوروبي، وربط السكان الأصليين بفرنسا بواسطة اللغة الفرنسية التي يمكنهم بواسطتها من التعرف على بضائعنا وصناعاتنا، وخَلْق نخبة من أبناء القادة والأعيان لتقوم بنشر العناصر الحضارة الأوروبية والفرنسية بين سكان المناطق الداخلية، كعمل مُتَمّم للحملات العسكرية وبذلك تُسيطر فرنسا على الأجساد والأراضي والعقول”، وفق حاكم المُسْتعْمَرَة “جان غوبلان” في رسالة موجّهة إلى وزير البحرية الفرنسية (وهو وزير المُستعمرات) بتاريخ 23 آذار/مارس 1829…

يُعْتَبَرُ حاكم هذه المُستعْمَرة (السينغال حاليا) من مُبْتَكِري الادوات الثقافية الإستعمارية المُكَمِّلَة للعمل العسكري، فهو يعتبر “إن دَوْرَ المدرسة يتجاوز تعليم قواعد اللغة والحساب، فالمدرسة أداة لفهم نوايا الشعب المُسْتَعْمَر لجعله مُساعدًا لنا في غزو العُقُول…”، بعدما يتكفل الجيش بغزو الأراضي.

تم استخدام كلمة “الفرنكفونية” لأول مرة من قبل الجغرافي الفرنسي أونيسيم ريكلوس بنهاية القرن التاسع، ضمن حملة التّرويج لاستعمار إفريقيا، وهو ينتمي إلى مجموعة من أنصار الإستعمار والتّوَسُّع، تَضُمُّ السياسي ليون غامبيتا والخبير الاقتصادي بول ليروي بوليو، واعتقد أونيسيم ريكلوس إن أحسن دواء “للشفاء” من الهزيمة العسكرية الفرنسية أمام بروسيا (ألمانيا) سنة 1870، يكمن في استعمار إفريقيا وفَرْض اللغة والثقافة الفرنسية لإتمام “نهضة الإمبراطورية الفرنسية”، مستشهدًا بالإمبراطورية الرّومانية التي فَرَضت اللغة اللاّتينية على الشعوب المُنْهَزِمَة بقوة السلاح، وهو الذي ابتكر عبارة “الفرنكفونية” وهي بمثابة الهيمنة الإيديولوجية على “الأشخاص الناطقين بالفرنسية” ومُحيطهم الجغرافي والثقافي ، واستيعابهم – ضمن السياسة الإستعمارية – من خلال اللغة التي تصبح شرطًا أساسيًا لتوسيع الوجود الفرنسي خارج أوروبا، وفق أونيسيم ريكلوس، وهي نفس الأيديولوجية الاستعمارية لمشروع الهيمنة التي لا تزال قائمة، كخَلْفِيّة للفرنكوفونية الحديثة…

تُرَوِّجُ فرنسا إن إنشاء مؤسسة لتعزيز اللغة والحضارة الفرنسية، هي فكرة إفريقية، بذريعة نَشْر ليوبولد سيدار سنغور مقالة سنة 1962 بعنوان “الفرنسية لُغَةُ الثقافة”، لكن الوقائع تُفنّد هذه الأسْطُورة، فالفرنكفونية فكرة تخمّرت في ذهن القادة السياسيين الفرنسيين وخصوصًا شارل ديغول الذي أطلق المبادرة سنة 1966 ليتم تحويلها إلى إنجاز سنة 1970، تحت إسم “اللجنة العليا للدفاع عن اللغة الفرنسية وتوسيعها”، لما أصبح رئيس الوزراء “جورج بومبيدو” رئيسًا للجمهورية بعد استقالة الرئيس الجنرال شارل ديغول، وساعده الرئيس السينغالي ليوبولد سيدار سنغور والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة ورئيس النيجر حماني ديوري، بدعم من نورودوم سيهانوك (كمبوديا)، لِخَلْقِ كُتلة من البلدان الناطقة باللغة الفرنسية تكون رافدًا للنفوذ الفرنسي في مناخ الحرب الباردة والصراع الأمريكي السوفييتي كترجمة للصراع بين الرأسمالية والإشتراكية، وحاولت فرنسا شق طريق لها، لكنها تعثرت ثم عاودت الإلتحاق بالولايات المتحدة…  

 توسّع الإستغلال الفرنسي للفرنكُفُونية ليشمل عدة مجالات فأنْشأت مؤسسات مثل الجمعية البرلمانية للفرانكفونية ( APF ) والرابطة الدولية لرؤساء البلديات الناطقين بالفرنسية   ( AIMF ) ومعهد الفرانكوفونية للتعليم والتدريب ( IFEF ) فضلاً عن المؤسسات الإعلامية الفرنسية المُشاركة في استراتيجية التأثير الثقافي الفرنسي، وأهمها “فرانس ميديا موند” التي تضم  فرانس 24 وإذاعة فرنسا الدولية ومونت كارلو الدولية (الإذاعة الناطقة باللغة العربية) بالإضافة إلى قناة فرنسا الدولية التابعة لها، وتعتبر هذه الأدوات الإعلامية ذراعًا لوزارة الخارجية الفرنسية “لمجابهة  التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والمؤسسية (…) وتعزيز تغلغل اللغة والثقافة الفرنسية في بلدان أفريقيا  بهدف الحفاظ على المصالح التجارية والصناعية الفرنسية وتطويرها، وفق  ” إيفون بورجيه” وزير الدولة للشؤون الخارجية المكلف بالتعاون في خطاب ألقاه في الجمعية الوطنية (البرلمان) يوم 23 تشرين الأول/اكتوبر سنة 1967 وهو يعتبر إن اللغة مفتاح الأسواق، فمن يُفكّر باللغة الفرنسية يُحبّذ الإنتاج الفرنسي ( الإنتاج الثقافي أو الصناعي أو الغذائي…) ويؤدّي تعزيز الشبكة الاقتصادية الفرنسية في إفريقيا إلى تعزيز النفوذ الثقافي والسياسي الفرنسي، وفق “جاك أتالي” الذي أشار، سنة 2014، إلى تراجع نُفوذ اللغة الفرنسية في العالم، مما قد يؤدّي إلى تراجع حجم وقيمة الصادرات الفرنسية، وقدّم للرئيس فرنسوا هولاند عدة توصيات، من بينها “تعزيز تدريس اللغة الفرنسية بالخارج، وتسهيل تنقل الطلاب والباحثين ورجال الأعمال، وتنظيم شبكات الناطقين بالفرنسية، وتحويل “المنظمة الدولية للفرنكوفونية” إلى “اتحاد اقتصادي فرنكفوني”، ولكن تلك التوصيات وتوصيات العديد من البرلمانيين بقيت حبرًا على ورق، لأن فرنسا (مهما كان لون حكومتها) تريد نهب موارد إفريقيا وتجاهل أو إقصاء سُكّان إفريقيا، مما يؤكّد إن اللغة الفرنسية والفرنكوفونية، استمرار للسياسة الخارجية لفرنسا في  مستعمراتها السابقة، وعمومً لا يمكن فَصْلُ الفرانكفونية عن السياسات الدّولية (السياسة الخارجية) الفرنسية، فالادعاءات بمنع الصراعات، وبعثات مراقبة الانتخابات والتدريب باللغة الفرنسية لقوات حفظ السلام، هي بَوّابة توسيع الهيمنة العسكرية (خصوصًا بعد تركيز البرنامج العسكري الأمريكي في إفريقيا: “أفريكوم”) والسياسية الفرنسية، حيث لا يمكن إنكار الصلة القوية بين استخدام جيش أجنبي للغة الفرنسية واستخدام المُعدّات العسكرية الفرنسية…  

خاتمة

نَشَرَت مجموعة من الكتاب (“توماس بوريل” و “حمزة بوخاري يابارا” وبينوا كولومبات وتوماس ديلتومبي)، سنة 2022، كتابًا ضخما ( 1308 صفحة) عن ما يُسمّى ( Françafrique ) بعنوان “تاريخ فرنسا أفريقيا – الإمبراطورية التي لا تريد أن تموت” ، طبعة الجيب، ويثير الكتاب جوانب غير معروفة للعموم من تاريخ العلاقات الفرنسية الأفريقية، ويُثير الكتاب العديد من التساؤلات حول المنافسة التي تجابهها الإمبريالية الفرنسية في إفريقيا الغربية، من قِبَل روسيا والولايات المتحدة والصين، وعلّقت الصحيفة اليَمِينِيّة “لوفيغارو” (ملك أُسْرة “دَاسُّو” مُصنّعة الطائرة العسكرية “رافال”) بتاريخ السادس من شباط/فبراير 2023، على تقهقر دور فرنسا، خصوصًا بعد مطالبة الأنظمة العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو بإغلاق القواعد الفرنسية ورحيل الجيش الفرنسي الذي دعم الحُكّام الدّكتاتوريين لأنهم مدافعون عن مصالح فرنسا مثل بول بيا (الكامرون) الذي يرأس البلاد منذ أربعة عقود، ومحمد إدريس دبي ( تشاد) الذي ساعده الجيش الفرنسي على الإنقلاب على أبيه، ودنيس ساسو نغيسو (الكونغو) الذي يدعم استغلال الشركات الفرنسية ثروات بلاده، ومنها النفط، وكذلك “علي بونغو” ( ابن الرئيس السابق للغابون، عمر بونغو) الذي يدعم نهب الشركات الفرنسية ثروات ونفط وسواحل البلاد…    

يُدَوّن هذا الكتاب الضّخْم تاريخ العلاقات الفرنسية الإفريقية على مدى عُقُود وتفنيد الرواية الرسمية لهذه العلاقات باستخدام الوثائق بشكل منهجي ويُبيّن بالحجج والبراهين إن الدّول الإفريقية التي استعمرتها فرنسا سابقًا لا تتمتع بالسيادة الكاملة، حيث تحتفظ فرنسا بقواعد ومنشآت عسكرية على أراضيها، ولا تمتلك هذه الدّول عملة خاصة بها، بل بقي الفرنك الأفريقي  – المرتبط بالمصرف المركزي الفرنسي – العملة الرسمية لأربعة عشر دولة أفريقية، وما الإحتجاجات الشعبية المناهضة لفرنسا في عدة بلدان إفريقية، سوى رغبة في إنهاء الاستعمار الفرنسي، فيما تُروّج الدّعاية الفرنسية إن روسيا والصّين تقف وراء هذه الإحتجاجات وتأجيج ما يُسميه الإعلام الفرنسي “المشاعر المعادية لفرنسا”، وما ذلك في الواقع سوى تعبيرًا عن مُعاداة الإمبريالية والإستعمار الفرنسي الجديد…

تُمثّل الفرنكفونية غطاءً للهيمنة الفرنسية مُتعدّدة الأشكال، حيث تحقق الشركات الفرنسية أرباحًا ضخمة، في حين يُعاني مواطنو إفريقيا – بما فيها البلدان الغنية بالموارد – من الفقر والبطالة ومن صدّ أبواب العمل والدّراسة في فرنسا، بل يُعانون الإذلال اليومي في قنصليات فرنسا التي تفرض رسومًا مرتفعة على طالبي التّأشيرة قبل رفض أكثر من 90% من الطّلبات والإحتفاظ بمبلغ الرّسُوم، بل تعاقدت فرنسا والإتحاد الأوروبي مع بلدان شمال إفريقيا لمراقبة فُقراء إفريقيا الذين يحاولون المخاطرة بحياتهم وعُبور البحر الأبيض المتوسط هربًا من الفقر، وبحثًا عن عمل في أوروبا، وفي فرنسا بالذّات لأبناء المستعمرات الفرنسية السابقة، بحكم وجود أقارب لهم في هذا البلد الذي يعرفون لُغته…

رغم النفوذ المتزايد لروسيا والصين والهند وتركيا والولايات المتحدة، تحتفظ فرنسا بترسانة مؤسسية واقتصادية ونقدية وعسكرية ودبلوماسية وثقافية مهمة في إفريقيا، وتهيمن الشركات الفرنسية على العديد من القطاعات كالنفط والغاز والمرافئ والاتصالات السلكية واللاسلكية أو الصناعات الزراعية، في العديد من البلدان الإفريقية، بما فيها غير الناطقة بالفرنسية ( نيجيريا وغانا وكينيا ورواندا وغيرها

انطلقت القمة الفرنكفونية الـ19 يوم الجمعة 04 تشرين الأول/اكتوبر 2024 في فيليرز-كوتيريه تحت شعار “الابتكار والإبداع وريادة الأعمال باللغة الفرنسية، ويندرج هذا الشعار ضمن الإستراتيجية الجديدة للمنظمة الدولية للفرانكفونية التي أضافت قضايا الإقتصاد إلى المسائل الثقافية، لتتمكن فرنسا من بيع سياراتها وسلعها وأسلحتها وترويج الإيديولوجيا المعادية للثقافات الشعبية المحلية، وانتهت القمة بوعود لن تتحقق مثل مضاعفة جهود تدريب وتشغيل الشباب… لم يستفد مواطنو الدّول الأعضاء من الزّج ببلادهم في منظومة ثقافية استعمارية تُهيمن عليها فرنسا التي انحدرت بين طلابها وباحثيها وجامعاتها مكانة اللغة الفرنسية، غير إن اللوبي الفرنكوفوني – المستفيد من العلاقات غير المتكافئة بين الإمبريالية الفرنسية ومستعمراتها – لا يزال قويا في مجمل المستعمرات الفرنسية السابقة وخصوصًا في إفريقيا، من الجزائر إلى مدغشقر، مرورًا بإفريقيا الغربية والوُسطى والبلدان المحيطة بالصحراء الكبرى، رغم إغلاق حدود فرنسا (والإتحاد الأوروبي) في وجه العمال والطلبة والسائحين وأقارب المقيمين في فرنسا، فضلا عن العداء السّافر للغة العربية والحضارة والتاريخ والمواطنين العرب…   

ساهمت فرنسا بنشاط في إزاحة أو قَتْل الزّعماء الإفريقيين الذين ناضلوا من أجل الوحدة الإفريقية منذ عقد الستينات من القرن العشرين واستمر هذا النّهج الإستعماري إلى اليوم، مرورًا بقتل معمر القذافي الذي عمل على تأسيس اتحاد إفريقي وعملة إفريقية وصندوق إفريقي للموارد الخ، لكن مكانة فرنسا تتقهقر، لصالح قوى امبريالية أخرى أو قوى “ناشئة”، ولن تُصبح البلدان الإفريقية مستقلة بالفعل، قبل السيطرة على مواردها وتكثيف التجارة البَيْنية والتعاون بين بلدانها… 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ثلاثة × ثلاثة =