سابع أخر في تموز جديد، لا تَمُتْ قبلَ الموت؟ / د. سمير أيوب

214

د. سمير محمد ايوب ( الأردن ) – الأحد 7/7/2024 م …

وإيَّاها، كنت اجلس على احد المقاعد الخشبية، المبعثرة عشوائيا في ظلال جُزُرٍ من شجر السرو والصنوبر والكينا، موزعة عشوائيا في الباحة الغربية لجامعة عمان الاهلية، بمشاعر مختلطة نجتر ثرثرات قديمة حول فشل اختياراتنا وخيبات املنا، من بعض الذين حملناهم تَطوُّعا على ظهورنا، حين نبهتني لبصمات الزمن الذي بات يُذكِّرُني بأن غدا هو سابع من تموز جديد يذكرني مرة اخرى بمولدي في وادي النسناس في حيفا المحتلة، وانني غدا سارتقي عتبة اخرى في سلم العودة، وتابَعَتْ وابتسامة غامضة تجتاح تضاريس وجهها، وسُبَّابَتُها تشيرُ وكأنها تققول لي: تأهب!!!
رغم اني لا افتش وراء ما يقال عادة، إلا أنني أملك شيئا يشبه الحدس ، شيئا جعل ما تقصده جليا أمامي. فإنتصبتُ واقفا بمواجهتها وانا أضاحكها: قبالة السابع الجديد من تموز، سأخبرك بما كانت تقوله لي امي خيرية وهي توصيني بالاستعداد للرحيل في اي لحظة: تأهب يا فتى، وإن لم يُذكِّرُكَ أحدٌ بما مضى من عمرك. فالأمر ليس وهْما. وعندما لا تكون قادرًا على تقديم ما يشفع لك بالبقاء في الحياة، غادِرْ بِحِرصٍ ، ولا تقف متفرجا على نفسك. مارس عناقيدا من مهارات التخلي دون ابتعاد أو انطواء. لا تفقد الاهتمام، بل انتقِ واحذف، شذِّبْ وهذِّبْ، وارمِ الكثير من كراكيبِكَ في مَجامِرِك، قبل ان تستبدل المكان.
وعندما لا يكون بحرُك صاخبا، لا تتواطئ مع حَزَنِك، بل اصنع من قعرِ كفِّكَ القويِّ بحرا لك، أمواجُه مُتلاطمة. وستكسب الرهان مع الله، إن تذكَّرْت أن بمقدوره خلقَ سفينةٍ، دون أنْ يأمرَ نوحًا بالبناء، وأن يشقَّ البحرَ دون أن يضرب موسى بعصاه. لكنها محطات تُعلِّمُنا أن الضرورات لا تستبيح إثما، أي إثم. فالأهداف الانيقة لا تتحقق إلا بعمل دؤوب نبيل.
ثم عاوَدْتُ الجلوسَ إلى جانبها وأنا أواصل القول: أظنني يا سيدتي، أنني الآن في المنتصف الأروع من العمر. أعيش حذافير طُمَأنينتي بشغف، ولكن بلا مبالغة. لا تقلقي كثيرا، فإني أعِدُ كلَّ مَنْ يَتكئُ عليَّ أن لا أميل مهما بلغت هشاشتي. فأنا لا أشكو من اضطرابات النوم، مُهتمٌّ بكل ما أحب، لست مريضا ولا حزينا ولا مكتئبا، لأهْرَم مبكرا، ولا أخاف موتا يحملني يوما ما عاجلا ام آجلا. ولكني أعد أن لا أتَحَرْكَش بِخِقَّةٍ به، وأن لا أناديه ولا استعجله قبل اوانه. فأنا مُصِرٌّعلى أن لا أموت قبل الموت ابدا.
سأحرص على أن أبقى شابا مع من أحب. أحاول عيش الحياة بمهارة حتى آخر قطرة لي فيها نصيب. أحب في معارجها وفي مدارجها الأطفال وابتسامات الغرباء. وإن عجِزتُ عن التَّنَعم بحب الناس، سأحرص على احترامهم. وسأعبر كل صالون لي بحيوية مقبلة لا مدبرة، مبتسمة لا متجهمة، وممسكا برواية واقعية سحرية، أكثر مما اعتدت أن أفعل.
سأعيش حياتي بالطريقة التي أراها أنا مُناسبة، كلما نهش أو تطفل الشيبُ رأسي، او غيَّرْتُ عدساتَ نظاراتي، أوسرق الرحيل حبيبا من حياتي، أو تساقط من حولي عزيز، أو كلما أشرقت شمس أو غابت، دون ان أجد من أشاركه شيئا من تفاصيلي، أو حين تستغيث أذناي طلبا لكلمة دافئة شغوفة، تُشاركني أرقَ الليل، يستيقظ الزمنُ ساعتَها، أحسُّ بِسبابَتِه تشيرُ إلى يوم ميلادي البعيد.
حينها لن أقاوم عاديات الزمان. ولكني ساقاوم تعبي، ولا اهدر وقتي في التَّشَكّي. فالعمر كما أفهم، مجرد ومضة سرعان ما تُطوى في طرفة عين، لنبقى مجرد سطر في ذاكرة من بصدق أحبونا، فالموت لا يهرب إلا من السعداء، ومن المقبلين بحماسة غير مشوشة على الحياة.
إطمئني يا سيدتي، لان العمرَ عُمري أنا، أعرف حجمي وزمني الحقيقي، وطالما لا زال في العمر بقية، ستبقى ذاكرتي مُصانة كي لا تخذلني. وسيطفو دائما إرثيَ العقلي النقدي، دون أن يسمح لقلبي المُشاغب أن يشيخ. فعرّافة المعبد،كثيرا ما تهمس لي: تذكَّر أيُّها الشاهينُ وأنت تَمنحُ نفْسَكَ فُسَحاً مِنَ الأحلام، أن الشيخوخة في الروح لا في الجسد، تفانى في تهذيب ضَجَرك وعُزْلَتك، وباتقانٍ شَذِّب ريشَ أجنحتك كيلا تطيرَ بعيدا.

التعليقات مغلقة.