فرنسا عشية الإنتخابات المبكرة  2024 / الطاهر المعز

251

الطاهر المعز ( تونس ) – الإثنين 1/7/2024 م …

كُتِبَ هذا النّص قبل بدء عملية الإقتراع، ويولي اهتمامًا  للمُقدّمات السياسية والإقتصادية التي أدّت إلى تعزيز صف اليمين المتطرف، ولا يهتم بالنتائج الكمِّيّة، مثل عدد الأصوات المُصرّح بها ونسبة التّصويت لكل مجموعة أو تيار أو ائتلاف وعدد نواب كل مجموعة…

تُشير مؤسسات سَبْر الآراء – وهي أدوات للدّعاية والتّعبئة الإيديولوجية – إلى استحواذ اليمين المتطرف على أغلبية الأصوات ومقاعد البرلمان، خلال الإنتخابات التّشريعية المُبكّرة يومَيْ 30 حزيران يونيو ( الدّورة الأولى) والسابع من تموز/يوليو 2024 (الدّورة الثانية)، وأدّى نَشْرُ هذه التّوقُّعات إلى كَشْف مواقف الجناح اليميني الحاكم الذي رَكّز على مهاجمة ائتلاف اليسار ( وهو يسار مائع) وعلى اتخاذ موقف مُغازل لليمين المتطرف، ولا غرابة في ذلك، فلفرنسا تاريخ استعماري وعنصري عريق يبُثُّ الإيديولوجيا العنصرية ضد العرب والأفارقة، منذ القرن التاسع عشر، ولليمين المتطرف تاريخ عريق يعود إلى ثلاثينيات القرن العشرين، بالتوازي مع نمو التيار الفاشي في أوروبا (خصوصًا في إيطاليا وألمانيا والنّمسا)، فضلا عن النّمو المستمر لليمين المتطرف في أوروبا وفي فرنسا، منذ ثمانينيات القرن العشرين، ولم تختلف بعض تصريحات الرئيس “الإشتراكي” فرنسوا ميتران أو اليميني الدّيغولي جاك شيراك أو الليبرالي فاليري جيسكار ديستان عن تصريحات زعيم اليمين المتطرف بشأن المهاجرين العاملين بفرنسا، سوى في الشّكل، وجلّ هؤلاء المهاجرين من المستعمرات السابقة لفرنسا في إفريقيا، شمال وجنوب الصحراء الذين خرّبت الإمبريالية الفرنسية وحلف شمال الأطلسي بلدانهم ونهبت شركات أوروبا وأمريكا ثروات بلادهم، فاضطرّوا إلى الهجرة…     

 

موقع اليمين المتطرف في الخارطة السياسية الفرنسية

احتفلت فرنسا سنة 1989 بالذكرى المائوية الثانية لثورة 1789 التي أقامت النّظام الجمهوري وكان شعارها “حرية – مُساواة – أُخُوّة”، وخلال نفس السنة (1989) زادت حِدّة الحملات الشوفينية والعُنصرية ضد أبناء المهاجرين، وجسّد إقصاء تلميذة، بسبب غطاء الشَّعر الذي تضعه على رأسها، وحرمانها نهائيا من الدّراسة، مُنعرجًا في العلاقة بين السلطات الفرنسية ( كان الحزب “الإشتراكي” يمسك بزمام السلطة التشريعية والتنفيذية آنذاك) والمهاجرين – من المستعمرات الفرنسية السابقة –  وأبنائهم، غير إن هذه الحادثة ليستالأولى من نوعها، حيث وصَف الوزير الأول “الإشتراكي” بيير موروا العُمّال المُضْرِبين سنة 1982، من أجل تحسين رواتبهم وظروف عملهم بالمجموعة الخاصة لصناعة السيارات “بيجو- سِتْرُوان” بالإسلاميين “الأصوليين” أو “المُتعصّبين”، لأن جميع العاملين في أسفل درجات السُّلَّم الوظيفي من المغرب العربي وبعضهم من بلدان جنوبي الصحراء الكبرى..

انطلق العُدْوان على العراق من آب/أغسطس 1990 حتى شباط/فبراير 1991، بمشاركة فرنسا، التي كان يحكمها الحزب “الاشتراكي” الذي تَجَلَّى طابعه الاستعماري في فيتنام والجزائر، وكانت معارضة هذه الحرب الاستعمارية ضعيفة للغاية، باستثناء ضواحي وأحْياء الطبقة العاملة التي يسكنها المهاجرون العرب وأبناؤهم وأحفادهم، وكانت هذه الحرب العدوانية فرصة إضافية لإظهار “الوحدة القومية” لأهم الأحزاب والمنظمات السياسية ضد السكان “المهاجرين”، كما كانت تلك الحقبة إحدى أهم حلقات سلسلة طويلة من عملية إعادة توجيه اليسار المؤسّساتي ووسائل الإعلام والرأي العام، نحو اليمين، فانتشر الخلط المُتَعَمّد بين العرب والإسلام السياسي ( ولو كان العربي غير مسلم) على نطاق واسع، وأصبحت الهجمات الإستفزازية ضد “المسلمين” شائعة إما باسم العلمانية أو باسم حرية التعبير، ولقيت هذه الهجمات العنصرية تشجيعا على مستوى قادة جهاز الدّولة، فقد صرح جاك شيراك (رئيس حزب التجمع من أجل الجمهورية ورئيس بلدية باريس آنذاك) في مدينة أورليان يوم 19 حزيران/يونيو 1991: “… ربما يكون صحيحًا أنه لم يعد هناك عدد أكبر من الأجانب عما كان عليه قبل الحرب (العالمية الثانية)، ولكن هناك فرق لأن المشاكل التي يطرحها وجود الإسبانيين والبولنديين والبرتغاليين الذين يعملون هنا، أقل من المشاكل التي يطرحها وجود مسلمين وسود”، قبل أن يتحدث عن “ضجيج وروائح” المهاجرين، ولم ينفرد جاك شيراك بالتعبير العَلَنِي عن الفكر العنصري وترويج الأخبار الزائفة فقد أظهر الرؤساء فرانسوا ميتران وفاليري جيسكار ديستان وفرنسوا هولند علناً أنهم عنصريون لا يختلف خطابهم وممارساتهم عن خطاب وممارسات زعماء اليمين المتطرف. أما نيكولا ساركوزي وإيمانوييل ماكرون فلم يُحاولا “تغطية عين الشمس بالغربال”، بل كانا نيوليبرالِيّيْن وصهيونِيّيْن وأَطْلَسِيّيْن موالِيْن للإمبريالية الأمريكية ويخدمان عَلَنًا مصالح المصارف والشركات الكُبْرى بدون مواربة، ولا يستنكفان من اللقء والعشاء والرحلات معهم علنًا، ويُبَيِّن تاريخ الجمهورية الفرنسية إن الثقافة الاستعمارية هي قاسم مشترك يُوَحِّدُ معظم القادة السياسيين الفرنسيين، وهو ما يفسر تَوَسُّعَ دائرة تفشي كراهية العمال العرب والأفارقة، وفي المقابل أصبح الزعماء السياسيون يتسابقون على تقديم الولاء للمنظمات الصهيونية (مثل “كريف”) وإعلان الدَّعْم غير المشروط للدولة الصهيونية…

 

بعض الركائز النظرية لليمين المتطرف

تعتبر النيوليبرالية أن السوق التنافسية ليست فطرية أو عفوية، بل على العكس من ذلك، فهي وليدة بناء سياسي وقانوني واجتماعي،  ومن ثم فإن النيوليبرالية تقدم، على نحو متناقض، عودة الدولة إلى “جميع مجالات الحياة الاجتماعية”، بهدف بناء نظام تنافسي لا تستطيع “اليد الخفية” للسوق تحقيقه. غالبًا ما يُنظر إلى النيوليبرالية على أنها إعادة تأسيس لِلِّيبرالية من خلال مجموعة من الحلول، أو كدليل لتدمير التضامن الاجتماعي و”دولة الرفاه”، وهذا ما يسميه بعض الاقتصاديين “استراتيجية الصدمة”، أي التدخل في حالة وقوع الكارثة وإفراغ وبيع مؤسسات الخدمات العامة ونقلها إلى الشركات الخاصة، كالرعاية الصحية والتعليم والكهرباء والمياه والنقل وغيرها، ومن ثم، فإن الليبرالية الجديدة تضع نفسها في مواجهة مبدأ “عدم التدخل” الكلاسيكي.

كان هربرت سبنسر (1820 – 1903)، عالم اجتماع وبيولوجي إنغليزي ليبرالي للغاية وله تأثير كبير، فهو المُرَوِّج لقانون “البقاء للأصلح” في المجال الاقتصادي والاجتماعي، لأن هذا القانون الطبيعي، بالنسبة لسبنسر، يُطبّق قانون البقاء للأصلح (أي الأقْوى) على الأفراد وكذلك على الشركات والكيانات الاقتصادية فَيُبْقِي على الشركات النشطة والمُربحة ويقتل الشركات والكيانات “المُخْتَلَّة”، مِمّا يسمح بظهور رأسمالية أكثر كفاءة، ومع عولمة السوق، ومع صعود “الأصلح” يتم إرساء “السلم الاجتماعي”، ويصبح المجتمع أكثر “تكيفا” مع تحديات الرأسمالية الصناعية، لأنه يُصبح أكثر قدرة على المنافسة، بنفس الطريقة التي يصبح بها النوع الحيواني أكثر “تكيفا” مع ظروفه، حيث يختفي أضْعَفُ أعضاء المجموعة ولا يبقى سوى القَوِيّ الذي “يسْتَحِقُّ البقاء”، وفق هذا المبدأ الإنتقائي.

كان الاقتصادي البريطاني والأستاذ الجامعي والباحث جون ويليامسون (1937 – 2021)، أحد كبار مُنظِّرِي الحلول النيوليبرالية، ومن أهم مُصمِّمِي إجماع أو وِفاق واشنطن (1989)، وهو الذي أطلق على هذا اللقاء “وفاق” أو “إجماع واشنطن”، وهو الإجتماع الذي وضع أُسُس الإقتصاد الرأسمالي لفترة ما بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، وكان ويليامسون موظفا بالبنك العالمي ( 1996 – 19999) وموظفا ساميا بالأمم المتحدة (برامج التنمية سنة 2001) وهو من مُنْتَقِدِي “تحرير رأس المال”، وطوَّرَ خلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين مفهوم “سعر الصّرْف المُتوازن” الذي يجب أن يتزامن مع نمو اقتصاد البلدان للتحكم في العجز، وابتكر مصطلح “العجز المُستدام” الذي يعتمد على نسبة النّمو المحتمل…  

أَعَدّ مُلتقى واشنطن قائمة من عشر إجراءات وجب فَرْضُها على “الدول النامية”، تتراوح من الإصلاح الضريبي إلى تحرير الإقتصاد والتجارة من خلال الخصخصة، وفتْح الأسواق وإزالة الحواجز الجمركية من جانب واحد، ويعتبر جون ويليامسون إن هذه الإجراءات هي بمثابة “الإصلاح الضّروري لتحفيز النّمو”…

 إن النيوليبرالية تشبه كتاب الوصفات، الذي يدّعِي تقديم العلاج الشافي للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية، لكن كتابات الليبراليين الجدد أنفسهم تجعلنا نكتشف أن التفكير النيوليبرالي لا يقترح الحلول، بل يطرح المشاكل، دون اقتراح حلول، فالنيوليبرالية التي ساهم جون ويليامسون في تصميمها وأقرها إجماع واشنطن تفوض الدكتاتوريين أو المصرفيين أو رجال الأعمال وتمنحهم سلطة فرض النظام الاقتصادي الجديد على المجتمعات على أساس منطق السوق…

لودفيغ فون ميزس (1881 – 1973)، هو اقتصادي نمساوي أمريكي، وأحد أعمدة مدرسة الاقتصاد النمساوية التي تدافع عن الرأسمالية والليبرالية الكلاسيكية، وهو يرى أن الاشتراكية محكوم عليها بالفشل بشكل لا يمكن إصلاحه بسبب غياب آليات تحديد الأسعار من قبل السوق، وكان فريدريش هايك من بين طلابه الأكثر تأثيرًا، ويظهر تأثير الأستاذ ( لودفيغ فون ميزس) على تلميذه في كتاب “الطريق إلى العبودية” المنشور سنة 1944، حيث يرى الاقتصادي والمفكر السياسي النمساوي فريدريش هايك (1899 – 1992) أن تدخل الدولة يميل دائمًا إلى التعدي على حريات الأفراد وأنه يمكن أن يؤدي تدريجيًا إلى الشمولية، أي لعبودية الشعوب، وتجدر الملاحظة إلى شيوع استخدام مُصطلح “الشّمولية” في أوساط اليسار (التيارات التروتسكية) والمُفكّرين (حنّا آرندت) ومنظّري الإقتصاد الليبرالي والنيوليسبرالي، مثل فريدريك هايك…

ذكرنا أعلاه بعض مراجع الفكر الإقتصادي اليميني واليميني المتطرف، وإذا تأمّلنا في البرامج الإقتصادية لكل من الطرَفَيْن نلاحظ التقاطعات – إلى حدّ التطابق – بينهما، وبشكل عام هيّأَ اليمين التقليدي الظّروف لِيتولى اليمين المتطرف السلطة، حيث استولى هذا اليمين المتطرف على السلطة، ليس من خلال انقلابات عسكرية أو دستورية بل من خلال الإنتخابات الدّيمقراطية، كما الحال في إيطاليا وبولندا والمجر، واكتسب نفوذًا سياسيا تم ترجمته إلى نسبة مائوية مرتفعة من الأصوات في انتخابات بريطانيا وألمانيا، وكان اليمين المتطرف ينمو في فرنسا بقوة منذ ما يقرب من 25 عاما، بالتوازي مع تعزيز الروابط مع نقابة أصحاب العمل (MEDEF). وظهرت في كل البلدان الأوروبية تقريباً، قوى سياسية تدعي أنها تمثل يميناً جديداً: القومية والشعبوية والهوياتية وكراهية الأجانب، وفي حين صوّرت معظم وسائل الإعلام هذه الحركات على أنها رد فعل خبيث ضد النيوليبرالية، وتدّعي أحزاب اليمين المتطرف إنها ضد المؤسسات النيوليبرالية، لكن الوقائع تثبت الجذور المُشتركة لليمين التقليدي واليمين المتطرف، لليمين الليبرالي واليمين النيوليبرالي.

غالبًا ما يتم تعريف النيوليبرالية على أنها شكل من أشكال أصولية السوق، أو على أنها إيمان بمجموعة من الأفكار المهيمنة: كل شيء في هذا العالم له ثمن، والحدود عفا عليها الزمن، ويجب أن يحل الاقتصاد العالمي محل الدول القومية، والحياة البشرية قابلة للاختزال في الدورة الإقتصادية والمالية وفي كسب المال، وإنفاقه، والاقتراض، حتى يحين الموت.

كما يزعم قادة اليمين المتطرف أنهم يدافعون عن الشعب والسيادة الوطنية والجذور الثقافية، لكنهم في الواقع يشكلون سلالات متحولة من الليبرالية الجديدة، مستفيدين من تراجع الأحزاب اليمينية التقليدية. إن الأحزاب النيوليبرالية في بريطانيا والولايات المتحدة والنمسا أو غيرها لم تعمل قط على مكافحة العولمة الاقتصادية أو تمويل رأس المال أو إنهاء التجارة العالمية، بل قامت بخصخصة القطاع العام والخدمات العامة، وخفضت الضرائب على الأغنياء، ورفعت سن التقاعد، بينما تتزايد البطالة بين الشباب…

إن الليبراليين الجدد الذين اجتمعوا حول جمعية مونت بيليرين* التي أسسها فريدريش هايك (1899 – 1992) والذي استخدم مصطلح النيوليبرالية كوصف ذاتي في الخمسينيات من القرن الماضي، فكروا في كيفية إعادة التفكير في الدولة لتقييد الديمقراطية دون القضاء عليها وكيف يمكن استخدام المؤسسات فوق الوطنية لحماية المنافسة والتجارة، فالنيوليبرالية هي مشروع لإعادة هيكلة الدولة لإنقاذ الرأسمالية، وَرَفْضِ مبدأ المساواة والعدالة الاقتصادية وأي شكل من أشكال التضامن خصوصًا إذا كان التصامن يمتد إلى ما وراء الحدود الوطنية. إنهم ينظرون إلى الرأسمالية على أنها أمر لا مفر منه ويحكمون على المواطنين من خلال الإنتاجية والكفاءة ( راجع مسألة الإنتقاء الطبيعي والبقاء للأقوى و”الأَصْلَح)

*جمعية مونت بيليرين هي مؤسسة فكرية أمريكية أوروبية تأسست سنة 1947 وتتكون من اقتصاديين ومثقفين وحقوقيين وفلاسفة وصحفيين، لإنقاذ اقتصاد السوق بعد الحرب العالمية الثانية، إلى جانب المؤسسات الأخرى كصندوق النقد والبنك العالمي وغيرهما.

 

دور النيوليبرالية الأمريكية في دعم اليمين المتطرف بأوروبا

كلف الليبراليون الجدد في الولايات المتحدة -الذين يحكمون العالم الرأسمالي وجناحه المسلح حلف شمال الأطلسي- «ستيف بانون»، مستشار الأمن القومي السابق لحكومة دونالد ترامب، بمساعدة اليمين الأوروبي المتطرف على تطوير برنامجه وتحسين مجال الإتصال والإعلام، وإعداد اليمين المتطرف للوصول إلى السّلطة عبر الإنتخابات الدّورِيّة، وأدّى ستيف بانون هذا الدّور بإتقان، حيث مكنته الولايات المتحدة من المال والفضاء الإعلامي، وأنشأ ستيف بانون ( أيلول/سبتمبر 2017) الموقع الإخباري اليميني المتطرف “بريتبارت” وأجرى الموقع مقابلة مع بياتريكس فون ستورش، النائبة وزعيمة حزب البديل من أجل ألمانيا ( اليميني المتطرف) وهي أيضًا عضو في جمعية هايك، وأجرى موقع بريتبارت مقابلة مع باربرا كولم، زعيمة حزب الحرية النمساوي (أقصى اليمين)، ورئيسة معهد هايك في فيينا، وعضو جمعية مونت بيليرين، وجزء من لجنة الخبراء التي سعت إلى إنشاء مناطق حرة خاصة في هندوراس خارج سيطرة الدولة.

أعلن ستيف بانون خلال إحدى مُداخلاته إلى جانب مارين لوبان زعيمة مؤتمر حزب الجبهة الوطنية الفرنسية سنة 2018، إنه يُدين “المؤسسة” ( Establishment ) و”أنصار العولمة”، لكنه ركّز خطابه حول مؤلف فريدريك هايك “استعارة الطريق إلى العبودية”، وقال: دعهم يصفونكم بالعنصريين، الكارهين للأجانب، واعْتَبِرُوا هذه التّهمة وسام شرف فوق صدوركم. »

في زيوريخ، استشهد ستيف بانون أيضاً بفريدريك حايك، وكان في استقباله هناك روجر كوبل، الناشر الصحفي وعضو اتحاد الوسط الديمقراطي (حزب يميني متطرف في سويسرا، يُشارك في الحكومة الإتحادية بمناصب رفيعة) وجمعية فريدريش هايك التي تنشر صحيفة نازية… كما تحدث مع أليس فايدل، المستشارة السابقة لبنك غولدمان ساكس، وزعيمة حزب اليمين المتطرف الألماني “البديل من أجل ألمانيا –AfD” والتقى النائب بيتر بوشرينغر رئيس لجنة الميزانية في البرلمان الاتحادي الألماني، وزعيم حزب اليمين المتطرف الألماني وعضو جمعية هايك، مثل أليس فايدل .

لا ينتمي اليمين الكلاسيكي واليمين المتطرف إلى تيارات متضادة، ولا يتصادمان في الجوهر، بل في الشكل. إنه المظهر العام للنزاع الذي قسم الطبقات الحاكمة منذ فترة طويلة، حول الوسائل اللازمة للحفاظ على السوق الحرة. كان العديد من الليبراليين الجدد يخشون أن تؤدي الديمقراطية بطبيعتها إلى الانحياز نحو الاشتراكية، وشككوا في حدود “التوافق بين الرأسمالية والديمقراطية”.

يشكل الدفاع عن “الثقافة الغربية” وكراهية الأجانب والمشاعر المعادية للمهاجرين قاسمًا مشتركًا لليبراليين الجدد، وفي العام 1978، كتب فريدريك هايك، الذي حصل على الجنسية البريطانية كمهاجر من النمسا الفاشية، سلسلة من المقالات الافتتاحية تدعم دعوة مارغريت تاتشر إلى “إنهاء الهجرة” قبل أن يتم انتخابها رئيسة للوزراء، وكان هايك يعتقد أن نفس القوانين يجب أن تنطبق على جميع الكائنات، لكنه تغير منذ عام 1970، حيث اعتبر أن الثقافة المشتركة أو الهوية الجماعية ضرورية لكي يعمل السوق بشكل صحيح. إنها نتيجة الجمع بين قيم هايك المحافظة القديمة وعلم الأحياء الاجتماعي الذي يؤكد أن السلوك البشري يمكن فهمه بنفس المنطق التطوري الذي ينطبق على الحيوانات، وستنتج منها هايك “إن الضغط الناجم عن الاختيار يلغي الخصائص الأقل فائدة بينما تتضاعف الخصائص الأكثر فائدة… ” ومنذ عقد الثمانينيات، بدأت أحزاب اليمين التقليدي في تطوير نظريات “التراث الأخلاقي، أي الغرب المسيحي والحضارة الحديثة”، ما يُشكّل نوعًا من العودة إلى الأفكار الاستعمارية في القرن التاسع عشر والأفكار الفاشية في ثلاثينيات القرن العشرين، لأن هذه النظريات تدّعي: “سيتعيّن على المجتمعات الأقل تطورًا ثقافيًا بذل الكثير من الجهد لمحاولة اللحاق بالغرب”، دون ضمان النجاح، بحسب فريدريش هايك (خطاب في مؤسسة التراث 1984)

منح جورج بوش الأب، سنة 1991، في عام 1991، وسام الحرية الرئاسي لفريدريك هايك، ووصفه بأنه “صاحب رؤية ثاقبة” وادّعى بوش “تم التحقق من صحة أفكاره في العالم، وأمام المَلأ”، ولكن بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، حَدَثَ انقسام جديد أدى إلى تقسيم العشيرة النيوليبرالية بين “أنصار العولمة”، مؤيدي المؤسسات فوق الوطنية مثل الاتحاد الأوروبي، أو منظمة التجارة العالمية أو قانون الاستثمار الدولي، وأولئك الذين يدافعون عن “السيادة الوطنية” من أجل تحقيق مصالحهم، وترسيخ النيوليبرالية بشكل أفضل، مثل حزب المحافظين البريطاني الذي دعا إلى «بريكست»، أي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بمساعدة «مجموعة بروج» (  Bruges) التي قادت المعركة الإعلامية لصالح «بريكست».

اتفق كلا التيارين على تطبيق “العلاج بالصدمة” على أوروبا الشرقية لدمجها في المعسكر الرأسمالي النيوليبرالي، وكانت جمهورية التشيك (بقيادة فاتسلاف هافيل)، وبولندا، وأوكرانيا وغيرها بمثابة مختبرات لتطبيق المفاهيم الثقافية أو العرقية والإقتصادية لليبرالية الجديدة، وكان اليمين المتطرف – ضمن هذه التجارب – مجرد فرع واحد من فروع الليبرالية الجديدة، بقيادة أيديولوجيين تحرريين وكارهين للأجانب يناضلون من أجل توسيع الرأسمالية، وضد حقوق العمال. إنهم يطورون ويدافعون عن عقيدة تقوم على “العرق” و”الثقافة الغربية” و”الاختلافات الثقافية والعرقية” لتعزيز تنمية السوق، ويمثل برنامج اليمين المتطرف استمرارية لليبرالية الجديدة وليس قطيعة.

 

اليمين المتطرف في فرنسا

نشر فيكتور شابيرت، السكرتير الصحفي الحالي لجوردان بارديلا (رئيس حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف)، مقالا في صحيفة هونغتون بوست في كانون الأول/ديسمبر 2015: “منذ عام 2012، […] تحتكر الجبهة الوطنية بشكل متزايد التصويت لليائسين من مواطنينا. […] اليوم يمكننا القول أن هذه الجمهورية الاجتماعية والموحدة في خطر […]لن يتمكن اليمين المتطرف من مساعدة المزارعين للحصول على تقاعد لائق أو يتيح لهم وللجميع الوصول إلى الخدمات العامة […] إن المجتمع المدني […] لا يريد هذا اليمين المتطرف. »، وبعد سنوات قليلة في مجال الصحافة أصبح هذا الشاب مُعاونًا لرئيس أهم حزب لليمين المتطرف بفرنسا، ويُبرّر ذلك ( بانتهازية ) “منَحتْنِي قيادة اليمين المتطرف فُرْصةً للإرتقاء في درجات السّلّم الإجتماعي فاقتنصتُ هذه الفُرصة “!!!

 

استغلال الشبكة الإستعمارية الفرنسية في إفريقيا

التقت “مارين لوبان” التي ورثت عن أبيها أهم حزب لليمين المتطرف، بالرئيس التشادي إدريس ديبي في آذار/مارس 2017، وكانت آنذاك تبحث عن طُرُق تمويل حملتها الإنتخابية ( التشريعية والرئاسية، سنة 2017) والتقت لوبان الإبنة بالقوات الفرنسية المُرابطة بتشاد، والتقت زوجة الرئيس في الجمعية الوطنية، وزارت أحد المستشفيات، قبل أن تلتقي بالعسكريين الفرنسيين المشاركين في عملية برخان، وكانت الزيارات الرسمية التي قامت بها زعيمة الجبهة الوطنية إلى أفريقيا نادرة، الإرتباط الوثيق بين اليمين المتطرف الفرنسي والمستعمرات الفرنسية في إفريقيا، ولليمين المتطرف أصدقاء في حكومات إفريقيا الغربية، خصوصًا في تشاد وساحل العاج والغابو، رغم الهجوم المنتظم للحزب اليميني المتطرف تجاه المهاجرين والمسلمين في فرنسا، الذين يأتي الكثير منهم من القارة الأفريقية.

تاريخيا، عارض اليمين المتطرف الفرنسي عملية إنهاء الاستعمار، وخاصة في الجزائر، حيث كان جان ماري لوبان ضابط يمارس التعذيب، ويستمر اليمين المتطرف في إعلان مطالبه القومية العنصرية، المُدْرَجَة تحت بند “الأفضَلِية الوطنية” ( في دولة امبريالية) ويدعو إلى مراقبة الحدود وعودة السيادة النقدية ( حذفها من برنامجه سنة 2024)، والتمييز العرقي، ولا غرابة في هذه الشعارات لأن الجبهة الوطنية (التي كانت تُعرف آنذاك بحزب التجمع) تنحدر من اليمين المتطرف الفرنسي في ثلاثينيات القرن العشرين، والحركات الاستعمارية المسلحة أو الميليشيات التي تحارب الأنظمة التقدمية بإفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، ويشارك اليمين المتطرف الفرنسي في حروب استعمارية، في خدمة الرأسمالية الفرنسية، في جنوب أفريقيا خلال حقبة الفصل العنصري، وفي أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ودعم قادة اليمين المتطرف عملاء الإمبريالية الفرنسية في السلطة في الكونغو وساحل العاج وإفريقيا الوسطى والغابون وغينيا الاستوائية…

 

رئاسة إيمانويل ماكرون – تمهيد الطّريق لليمين المتطرف

طبق إيمانويل ماكرون، الذي يمثل جناحًا من الرأسمالية الفرنسية، جزءا من برنامج اليمين المتطرف ( كما فعل “مانويل فالس” قبله وكذلك نيكولا ساركوزي…) وهو يفرض منذ سنة 2017 الإجراءات التي لم يتمكن نيكولا ساركوزي من فرضها. إنها سياسة معادية للمجتمع يتم فرضها بأساليب غير ديمقراطية: الاستخدام التعسفي لما يسمى بإجراء 49 – 3 الذي يمرر القوانين دون مناقشة برلمانية، بواسطة والمراسيم، والعنف، والقوانين المناقضة الحريات، وقوانين الهجرة، وتسهيل الفصل من العمل، وتغيير قوانين العمل النقابي والجمعيات، فضلا عن ممارسة العنف الشديد ضد المتظاهرين، ومنع عدد قياسي من الإعتصامات والمظاهرات، وممارسة العنف في مستعمرات جزر بحر الكاريبي (غوادلوب وغويانا) وفي أرخبيل كاناكي…. يُعتَبَرُ إيمانويل ماكرون رمزًا لطرف من الرأسمالية يريد إخضاع العُمال بالقوة ( الجيش والشرطة) واستخدام القوة (ولا شيء غير القوة) لإخضاع العمال للإستغلال وإخضاع الفُقراء (السترات الصفراء) والنقابات والمجتمع المدني، وتدهورت خلال فترة حكمه ظروف العمل والمعيشة للعمال والطبقات الشعبية، بشكل قياسي، ويتطور هذا التدهور جنبا إلى جنب مع اتساع فجوة الدخل بين الأغنياء والفقراء… تُشكل هذه الإجراءات العنيفة جزءًا من برنامج اليمين المتطرف، وكشفت الحملة الانتخابية – قصيرة المدة – أن المعسكر اليميني («المعتدل» أو «المتطرف») لا يهتم بظروف العمل أو السكن أو النقل أو الحصول على الرعاية أو «التعليم»، ويمارس هذا المعسكر الرجعي المزايدة على الهجرة (لتقسيم معسكر العمال) وعلى “انعدام الأمن”… لكن البديل الإنتخابي ضعيف، ف”الجبهة الشعبية الجديدة” التي تعتبر نقيض اليمين، تعطي تعهدات “بالمسؤولية” تجاه المؤسسات، أي تعهدات بصيانة ثروة الأغنياء والشركات وأرباب العمل، ويُعتبر برنامج الجبهة الشعبية الجديدة أقل طموحاً من البرنامج الكينزي (إحياء النمو من خلال الاستهلاك المحلي).

تعكس نسبة الامتناع عن التصويت – التي ظلت مرتفعة منذ نحو عشرين عاما – عدم قدرة المرشحين على تمثيل العمال والشباب والفقراء أو الاهتمام بهم، ولا تستجيب أي من القوائم لهواجس الناخبين وأملهم في تحسين أوضاعهم.

أعلنت نقابة ومنظمات أرباب العمل في فرنسا “ميديف” عن برنامج واضح، يتضمن مجموعة من التدابير لتصفية المكاسب الاجتماعية وخصخصة الخدمات العامة وخفض الأجور وتدهور ظروف العمل وزيادة الأرباح الرأسمالية، ونظّمت جلسة الاستماع للمرشحين أمام مكتب الرئيس…

لقد طبق إيمانويل ماكرون هذا البرنامج وأعلن عن الإجراءات التالية: هجمات جديدة ضد الأجور والمعاشات التقاعدية وضد الضمان الاجتماعي والتأمين على البطالة والصحة والحد الأدنى للدخل والتعليم والقطاع العام والحريات النقابية والسياسة، واستفادت الشركات والأثرياء من أكثر من 80 مليار يورو في هيئة خفض الضرائب، أو حوافز وإعفاءات ضريبية، وخفض مساهمات الشركات وأرباب العمل في مؤسسات الحماية الغجتماعية والصحية والتّأمين على البطالة والتقاعد، لكن اتحادهم (MEDEF) يطالب بمبلغ إضافي قدره 40 مليار يورو سنويا، دون أي مقابل أو ضمان، بينما بلغت أرباح شركات كاك 40 (أكبر الشركات الأربعين المدرجة في بورصة باريس) 140 مليار يورو بحسب منظمة أوكسفام سنة 2023، ولا يتم إعادة استثمار الأرباح ولكن يتم توزيع 89% منها على أصحاب الأسهم.

 

تحالف طبيعي

يخدم البرنامج الاقتصادي لحزب اليمين المتطرف مصالح رأس المال وأرباب العمل والطبقات الحاكمة، وهو برنامج مُسْتَوْحَى من  منشورات صندوق النقد الدولي: التقشف وخفض الإنفاق الحكومي وتخفيض الضرائب على الشركات بمقدار 40 مليار يورو، وهو نفس المبلغ الذي تطالب به نقابة أرباب العمل، ويقترح البرنامج الاقتصادي لليمين المتطرف أيضًا تخفيض ضرائب الإنتاج، وإلغاء الضريبة العقارية على الشركات، وإعفاء أصحاب العمل من مساهماتهم في رسوم الرواتب التي تقل عن ثلاثة أضعاف الحد الأدنى للأجور، ويؤدي تطبيق هذه الإجراءات إلى موت نظام الحماية الإجتماعية التي اكتسبه العاملون خلال انتفاضاتهم وإضراباتهم التي أدّت إلى حكم الجبهة الشعبية سنة 1936، ويهدف اليمين “المعتدل” كما “المتطرف” إلى تصفية هذا الإرث وهذه المُكتسبات.

إن فرنسا ليست الدولة الأوروبية الأولى التي يحكم فيها اليمين الكلاسيكي واليمين المتطرف معا، ففي سويسرا، لا يزال اليمين المتطرف منذ عدة سنوات يحكم ويحتل مناصب سيادية هامة في السلطة، كما تمت تجربة بناء ائتلافات حكومية وبرلمانية بين اليمين “التقليدي” واليمين المتطرف في إيطاليا وهولندا والسويد وكرواتيا وبولندا وغيرها…

يعاب على البرنامج “اليساري” للجبهة الشعبية الجديدة عدم انتقاد طريقة سير الاتحاد الأوروبي الذي يُعتَبَرُ اتحاد دول رأسمالية وليس اتحاد شعوب، كما لا يحتوي البرنامج أي انتقاد لحلف شمال الأطلسي الذي ينتهج سياسة عدوانية في أوروبا وآسيا، ويتطابق برنامج الجبهة الشعبية الجديدة مع برنامج اليمين فيما يتعلق بأوكرانيا ويدافع بوضوح عن إرسال الأسلحة، ولا يوجه أي انتقاد أو ذكر لدَوْر حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة، والأسوأ من ذلك وَصْف العملية الفدائية للمقاومة الفلسطينية ( ست تنظيمات وليست حماس لوحدها) في السابع تشرين الأول/أكتوبر 2023 ب”الهجوم الإرهابي”، كما تنازلت الجبهة الشعبية الجديدة عن ذكر “النضال ضد رأس المال الكبير”، ولا تتحدث عن مصالح البروليتاريا والفقراء، والعمال غير المستقرين، وفاقدي المأوى وذوي المساكن غير الصّحّيّة، ولكن ليس للعمال والعاطلين والفقراء منظمة سياسية تمثلهم وتدافع عنهم وعن  والشباب وسكان الأحياء العمالية والمهاجرين وأبنائهم والمستغَلِّين والمضطَهَدين…

إن المعركة ضد اليمين المتطرف هي معركة لتحسين الرواتب ومعاشات التقاعد وتطوير سياسة اقتصادية واجتماعية تخدم غالبية السكان وليس لزيادة ثروات المصارف والشركات متعددة الجنسيات.

 

 

التحالفات المالية والإعلامية لليمين المتطرف

يسعى زعماء اليمين المتطرف الفرنسي إلى إقامة تحالفات سياسية ودعم مالي وتعزيز مصالح الشركات المتعددة الجنسيات ذات الأصل الفرنسي في أفريقيا، وخلال الحملة الانتخابية لعام 2017، اعترف قادة الجبهة الوطنية علناً بأنهم استفادوا من التمويل، على شكل قرض بقيمة 8 ملايين يورو من تشاد، ومَوَّل رجال الأعمال الفرنسيون الذين لهم مصالح في أفريقيا الحملات الانتخابية لليمين المتطرف، وشاركت في هذا التمويل مجموعة شركة تيليسيل المتخصصة في خدمات الاتصالات في أفريقيا (وخاصة في جمهورية أفريقيا الوسطى)، وكذلك شركة نور كابيتال ومقرها في دولة الإمارات، فضلا عن التبرعات أو القروض من الشركات التي تستغل الذهب في مالي، أو الماس في الكونغو، أو النفط في نيجيريا.

فنسنت بولوريه ( Vincent Bolloré ) هو أحد المليارديرات الذين يدعمون اليمين المتطرف، ويأتي جزء كبير من ثروته من أنشطته في أفريقيا حيث طور أعماله باستخدام الشبكات والأساليب الاستعمارية لـ “Françafrique“، ولذلك، تمكّنَ بفضل أفريقيا والأفارقة، من بناء إمبراطورية إعلامية في فرنسا لفرض الأطروحات العنصرية والمعادية للإسلام وللأفارقة لليمين المتطرف الذي ينشر أيديولوجيته الفاشية والعنصرية في وسائل إعلام هذا الملياردير الذي ورث ثروة عائلته التي أصبحت غنية في المستعمرات الفرنسية، وفي الثمانينيات، قام بتنويع استثماراته في أفريقيا (السجائر والأخشاب والنقل البحري وتوزيع المنتجات النفطية والموانئ، إلخ)، وفي بداية القرن الحادي والعشرين بدأ الاستثمار في قطاع الإعلام والاتصال، فأصبح يمتلك إمبراطورية إعلامية حيث يسيطر على العديد من القنوات التلفزيونية في فرنسا، بما في ذلك مجموعة Canal+ وقناة CNews الإخبارية التي تبث على مدار 24 ساعة دعاية اليمين المتطرف والنيوليبرالية، ويمتلك بولوريه محطات إذاعية والعديد من وسائل الإعلام المطبوعة، واشترى مجموعة “لاغاردير” الإعلامية ومحطاتها الإذاعية والصحف التابعة لها، كما اشترى مجموعة النشر “Hachette” (وتضم فايارد وكالمان ليفي وأرماند كولن وغيرها…)، ويُشير إسم بولوريه أيضًا إلى شركة عملاقة في مجال الاتصالات والترفيه (فيفندي) وكذلك الإعلانات والإشهار (هافاس) وتمتلك هذه الإمبراطورية الإعلامية معهد استطلاعات CSA، وتشترك وسائل الإعلام التي يملكها في الترويج للأفكار والمنظمات اليمينية المتطرفة ورموزها (إريك زمور ومارين لوبان)، وتتخصص قناة CNews التلفزيونية في نشر الأفكار اليمينية المتطرفة على مدار الساعة، ما مَكّن من خلق رأي عام مساند لليمين المتطرف…

نجحت مجموعة بولوريه، سنة 2022، بفضل الدعم السياسي للحكومات الفرنسية (اليمين واليسار)، في السيطرة على 16 محطة للحاويات ونحو عشرين ميناء جافا وخدمات السكك الحديدية والجمارك في أفريقيا، باستخدام أبشع الأساليب، من الفساد إلى تمويل الميليشيات ومجموعات المرتزقة للسيطرة على المزارع وشبكات التلفزيون المدفوعة (عبر الأقمار الصناعية) والاتصالات وما إلى ذلك، وهو يحاول (أيار/مايو 2024) شراء المجموعة الإعلامية الكبيرة «MultiChoice»، ومقرها جنوب أفريقيا، والتي تمتلك عدة وسائل إعلام مؤثرة.

ما الذي يجعل مليارديرًا مثل بولوريه يدعم اليمين المتطرف بدل دعم اليمين الليبرالي التقليدي؟

يُؤكّد “ميلتون فريدمان” ( 1912 – 2006) بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، وهو أحد مُنَظِّرِي النيوليبرالية، في كتابه ( Why Government – 1993 ) “إن الديمقراطية الليبرالية التمثيلية ليست نقيض الدكتاتورية ولكنها إحدى طرائقها الممكنة، ومن الممكن، حسب قوله، الجمع بين نظام اقتصاد السوق ونظام سياسي دكتاتوري، كما يمكن أيضا التوفيق بين الدكتاتورية ودولة القانون والديكتاتورية والعقلانية. إن الدكتاتورية تتوافق تماماً مع الانفتاح الاقتصادي والعولمة، ومع الانتخابات التعددية والعدالة الدستورية، ومع السلام العالمي والتفوق العلمي. »

يؤكد كارل شميت (الفيلسوف والمناضل النازي 1888 – 1985) أن خصائص الديمقراطية وخصائص الديكتاتورية هي نفسها تقريبًا. “فالدكتاتورية هي بكل بساطة المبدأ الأساسي للدولة”

تثبت هذه التصريحات المكتوبة من منظري الليبرالية الجديدة أن الدولة الدستورية الفرنسية الحالية، وتاريخها ومستقبلها القريب، لا تختلف كثيرًا في جوهرها عن الدكتاتوريات المعاصرة… (حيث لم يعد من الضروري)  فرض الدكتاتورية عن طريق الانقلاب العسكري فقط، بل أصبح الانقلاب الدستوري أو القضائي يحل محل الأسلوب التقليدي للانقلاب العسكري للإستيلاء على السلطة، وليصبح القانون الأداة المفضلة للأنظمة الاستبدادية حيث يستمر احترام الدستور، على الأقل شكلاً، واليوم، تنظم غالبية الديكتاتوريات، بما في ذلك الأنظمة العسكرية، بانتظام انتخابات متعددة الأحزاب.

 

خاتمة

يُمثل اليمين المتطرف أَحَدَ خيارات الرأسمالية لاستمرار، بل لتكثيف، الإستغلال ولبث التّفرقة بين العاملين والفُقراء لكي لا يتحدوا في مواجهة رأس المال، ويمكن الجزم إن السياسات التي انتهجتها الحكومات السابقة ( اليمين التقليدي وأحزاب الديمقراطية الإجتماعية، في أوروبا عمومًا، وخصوصًا في ألمانيا وفي فرنسا شَكّلت مُقدّمات لفَوْز أحزاب اليمين المتطرف في انتخابات محلية أو وطنية أو أوروبية، وقد تُشكّل الحملة الإنتخابية الحالية في فرنسا فَصْلا أو مشهدًا من مسرحية الدّيمقراطية التي تُحرّك خيوطها وسائل الإعلام ومؤسسات استطلاع الرّأي التي تُوَجِّهُ الجمهور، لكنها مُؤشِّرٌ على توزيع موازين القوى في بلدٍ مَا وفي زَمَنٍ ما، وقد تؤدّي الإنتخابات إلى تحسين ظروف العمل والعيش أو تفاقمها، لكنها لا تحل المسائل الجوهرية مثل القضاء على الإستغلال والإضطهاد، وتوزيع الثروة الوطنية بشكل عادل وتوفير الخدمات للجميع، كالتعليم والرعاية الصحية والمسكن والنقل والترفيه وما إلى ذلك…

يُعْتَبَرُ بلوغ اليمين المتطرف هذه الدّرجة من “الشّعبية” – مهما كانت نتيجة الإنتخابات – انتصارًا إيديولوجيًّا للفاشية وهزيمة – أرجو أن تكون مُؤقّتة – للطبقة العاملة والفئات الكادحة والنّساء والفُقراء والملايين من أبناء المهاجرين.

يتم تحفيز صعود اليمين المتطرف في أوروبا، وخاصة في فرنسا، من خلال عقود من الليبرالية الاقتصادية والانهيار الاجتماعي والسياسات والتصريحات العنصرية والمعادية للأجانب، ما يجعل ملايين المواطنين والمقيمين أمام تهديد وشيك وكارثي.

ومن ناحية أخرى، فإن المنظومة الإيديولوجية لجزء كبير من الأحزاب والقادة السياسيين الفرنسيين ــ بما في ذلك اليسار ــ مشبعة بالعنصرية والإرث الإستعماري، وتشكل هذه الأيديولوجيات القاسم المشترك بين معظم تلك القوى المُمَثَّلَة في مجلس النواب، وتتجسد في القوانين التي تثير وتؤكد عدم المساواة في الحقوق وتَشْرِيع عنف الشرطة والعنصرية التي يعاني منها بشكل يومي ملايين الأشخاص الذين يتعرضون للتمييز في الفضاء العام والمؤسسات العمومية، وليس لديهم – بحسب التجارب السابقة – سبب موضوعي للأمل في تحسين ظروف معيشتهم بعد هذ الإنتخابات التي قد تُؤَدِّي إلى فوز أغلبية ” ديمقراطية اجتماعية” بالسلطة، ومع ذلك، يجب اعتبار اليمين المتطرف هو العدو المباشر للعمال والفقراء ونقابات العمال والموظفين والشعوب المستعمَرة (جزر الأنتيل ولاريونيون وكاناكي إلخ) أو المضطَهَدة، فالتطرف اليميني ينتج أطروحات عنصرية وفقا لقناعته ب”صراع الحضارات” كما يدعم اليمين المتطرف الكيان الصهيوني بأشكال تفوق دعم اليمين والديمقراطية الإجتماعية…

إن النضال ضد اليمين المتطرف – وهو سليل مباشر للنيوليبرالية الاقتصادية والاستعمار – يجب أن يتم التعبير عنه، ويجب أن يتم شنه في صناديق الاقتراع، ولكن أيضًا في أماكن العمل والمنازل والشوارع وفي جميع مساحات النضال، وتشكل هذه التعبئة أساس معارضة اليمين المتطرف وأساس الرقابة الشعبية لتصرفات اليسار الديمقراطي الاجتماعي الذي يمكنه تنفيذ برامج اليمين.

التعليقات مغلقة.