الموقف من فلسطين معيار الدّيمقراطية / الطاهر المعز

527

الطاهر المعز ( تونس ) – السبت 13/4/2024 م …  

تمكّنت الحملات الإعلامية التضْلِيلِيّة في العديد من الدّول، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وهولندا والنمسا وغيرها من تشكيل ٍرأي عام يقبل التّضييقات على العُمّال الأجانب وتضييق نطاق حرية الرأي والتعبير وتجريم الحركات المطلبية والنضال النقابي والسياسي والإجتماعي المُنحاز إلى الفُقراء، فضلا عن التضييق على الحرية الأكاديمية وحرية التعبير والحريات السياسية الديمقراطية، وتَجَلّى الأمر في قُبُول الرأي العام الإبادة الجماعية التي يُمارسها الجيش الصهيوني بدعم من دول أمريكا الشمالية وأوروبا وتواطؤ الأنظمة العربية…

ترفض دول أمريكا الشمالية وأوروبا والدّول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي استخدام صيغة الفصل العنصري أو الإبادة الجماعية، أم مقاطعة الكيان الصهيوني، بل ترفض أي نقد لمؤسسات أو ممارسات الكيان الصهيوني، في انتهاك واضح لكل المعايير الأكاديمية ولمعايير الحرية السياسية وحرية التعبير، وفيما يلي عَيّنات من هذه الإنتهاكات.

ألمانيا، على خُطى النّازية

دعم الإبادة الجماعية

سبق للبرلمان الألماني (بوندستاغ) إصدار قانون يَعْتَبِرُ مقاطعة المؤسسات الصهيونية “الإسرائيلية” بمثابة معاداة السامية، وتشبيهها بالمقاطعة التاريخية ضد اليهود الألمان التي قادها النّازِيُّون في ثلاثينيات القرن العشرين، وبلغ الأمر، منذ العدوان الصهيوني الأخير على الشعب الفلسطيني في غزة، حدّ إلغاء جامعة كولونيا دعوة الفيلسوفة والمناضلة النّسوية الأمريكية نانسي فريزر لشغل منصب أستاذية ألبرتوس ماغنوس بداية من شهر أيار/مايو 2024،  بسبب توقيعها، خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2023، على بيان بعنوان “الفلسفة من أجل فلسطين”، وتتمثل الدّعوة ( المُلْغاة بواسطة رسالة إلكترونية ) في زيارة لعدة أيام وإلقاء محاضرات ضمن برنامج للتبادل المفتوح، وكان البرنامج يتضمن محاضرات عن موضوع آخر كتاب نشرته نانسي فريزر حول “الوجوه الثلاثة للعمل في المجتمع الرأسمالي”، وهو موضوع لا علاقة له مباشرة بفلسطين، ويُمثل موقف جامعة كولونيا – والجامعات والمؤسسات العلمية والثقافية الألمانية والأوروبية – انتهاكًا لقيم الحرية الأكاديمية وحرية الرأي وحرية التعبير والمناقشة المفتوحة في أوساط المجتمع وفي الفضاء العمومي، فيما يلتزم المثقفون والباحثون الأكاديميون الصّمت تجاه اغتيال الجيش الصهيوني للأطباء والصحافيين والمُدَرّسين والأطفال وقصف المدارس ودور العبادة، من بينها الكنائس التاريخية والمستشفيات…

تُعتَبَرُ الولايات المتحدة وألمانيا أهم موردين للدعم والأسلحة للكيان الصهيوني خلال الأشهر الستة للعدوان، وباسم مكافحة معاداة السّامية تدعم الحكومة والمؤسسات والأحزاب والمنظمات الألمانية الكيان الصهيوني والإيديولوجية الصهيونية التي لا تختلف في جوهرها عن النازية، وأدّى هذا المناخ السياسي والإعلامي السّائد إلى ارتفاع تأثير اليمين المتطرف لدى الرأي العام وزيادة الممارسات والتصريحات العدوانية والإجرامية ضد الأجانب أو ذوي الأُصُول الأجنبية، ولما قَدّمت جنوب أفريقيا طلبها في كانون الأول/ديسمبر 2023 سعيا لإصدار حكم قضائي يُدِين ارتكاب الكيان الصهيوني أعمال إبادة جماعية في قطاع غزة، سارعت الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وحلفاء الكيان الصهيوني إلى تكثيف شحنات الأسلحة والدعم المالي، وكانت ألمانيا رأس حربة هذا الدّعم حيث كانت ألمانيا مَصْدر ثُلُث مشتريات الأسلحة الصهيونية سنة 2023 بقيمة مُعْلَنَة قدرها 326 مليون دولار، ما جعل حكومة نيكاراغوا  تتهم ألمانيا رسميا لدى محكمة العدل الدّولية بالتّواطؤ في تنفيذ الإبادة الجماعية، وقدّمت حكومة نيكاراغوا تقريرًا من 43 صفحة إلى المحكمة لتقديم الأدلة على مسؤولية ألمانيا – التي لها علاقات متميزة مع الكيان الصهيوني – عن “الانتهاكات الجسيمة لقواعد القانون الدولي بتشجيع الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، وإنكار حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني”، وبالتوازي مع إرسال الأسلحة للجيش الصهيوني، قطعت الولايات المتحدة وأوروبا وحلفاؤهما في العالم تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (أنروا) التي توفر الدعم الأساسي للسكان المدنيين…  

افتتحت محكمة العدل الدولية جلسات الاستماع الأولية يوم الثامن من نيسان/ابريل 2024 وأعلنت ممثلة ألمانيا بكل بساطة: “ترفض ألمانيا تماما هذه الاتهامات… لم ننتهك أبدًا اتفاقية الإبادة الجماعية ولا القانون الإنساني سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وألمانيا  ملتزمة بدعم القانون الدولي“.

مبررات الدّعوة للمقاطعة الأكاديمية

الجامعات الصهيونية جزء أساسي من نظام الفصل العنصري

يدعي معارضو المقاطعة الأكاديمية أن الجامعات في فلسطين المحتلة هي ملاذات للبحث الحر، وفي الواقع، فإن الجامعات ومراكز البحث وبرامج علوم الآثار والحفريات جزء لا يتجزأ من نظام الإحتلال الإستيطاني وإقصاء الشعب الفلسطيني من وطنه ومن المنح الدراسية والجامعية والمَيْز.

دمر الجيش الصهيوني كل الجامعات ومؤسسات التعليم الفلسطينية والمستشفيات والمختبرات الطّبّيّة والهندسية ومؤسسات التدريب والمكتبات والمتاحف والآثار التاريخية، ومنها واحدة من أقدم كنائس العالم، وتُشكل الحرب على التعليم والعِلم والمعرفة والتاريخ (الآثار) عنصراً أساسياً في الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين التي بدأت قبل أكثر من خمس وسبعين، بينما يتم الاحتفاء بالجامعات ومؤسسات البحث الصهيونية في “الغرب الإمبريالي” واعتبرت جامعة كولومبيا الأمريكية “إن مدينة وجامعة تل أبيب نموذج للإنفتاح والإبتكار والديناميكية” وصنفت منظمة فريدوم هاوس الأمريكية الجامعات الصهيونية ك”معاقل للتعددية والديمقراطية، ومراكز للمعارضة وهي مفتوحة لجميع الطلاب… ولذا وجب توسيع نطاق الشراكة والتَّوْأَمَة معها”، وصنفتها معظم المؤسسات الأوروبية كنموذج للتّمَيُّز العلمي وللحرية الأكاديمية والتعددية الثقافية وللإلتزام بقضية السلام.

أما الأكاديميون والمُثقّفون الفلسطينيون الذين يعرفون هذه المؤسسات الأكاديمية الصهيونية عن كثب، فقد شككوا في هذا الإجماع “الغربي” المُنْحاز، وأطلقوا سنة 2004، “الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل” (PACBI) ودعوا العلماء الدوليين إلى “مقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية المتواطئة منذ عقود مع نظام القمع والمَيْز ضد الفلسطينيين… ” ولعبت مؤسسات التعليم العالي الصهيونية دورًا رئيسيًا في تخطيط وتنفيذ وتبرير سياسات الاحتلال والفصل العنصري، ولذا فإن المقاطعة الأكاديمية ليست مجرد وسيلة لتحقيق غاية، بل هي استهداف استراتيجي للأكاديمية الصهيونية باعتبارها أحد ركائز هذا النظام القمعي، وفق الوثيقة التّأسيسية للحملة (  PACBI ) التي كانت مُحفّزًا لمنظمات المجتمع المدني الفلسطيني – بما في ذلك النقابات العمالية، وجمعيات حقوق اللاجئين والمنظمات النسائية واللجان الشعبية الشعبية وشبكات المنظمات غير الحكومية – لإطلاق حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات  (BDS) سنة 2005، وقارنت هذه المجموعات مبادرتها بحملة مقاطعة جنوب إفريقيا زمن الفصل العنصري، وهي مقارنة خاطئة لكنها قد تُحرّك ضمائر الباحثين والأكاديميين في “الغرب” كوسيلة لممارسة الضغط على الكيان الصهيوني “لتطبيق القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة”، وهنا يكمن الخطأ لأن قرارات الأمم المتحدة منحت الشرعية للمُحتل وقسّمت فلسطين بين أهلها والمُسْتعمِرِين القادمين من مائة دولة، وتُطالب الحملة “بالمساواة الكاملة” بين أفراد الشعب الواقع تحت الإحتلال والمُسْتوطنين، ما يتعارض مع المطلب الثالث المتمثل في “احترام وتعزيز حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة”…

تَبَنّتْ بعض الجمعيات الأكاديمية في أمريكا الشمالية – جمعية الأنثروبولوجيا الأمريكية وجمعية الدراسات الأمريكية وجمعية دراسات الشرق الأوسط وجمعية دراسات الأمريكيين الأصليين والسكان الأصليين – وكذلك اتحادات أعضاء هيئة التدريس وطلاب الدراسات العليا، وفي أوروبا، صوت اتحاد المعلمين الأيرلندي والجمعية البريطانية لدراسات الشرق الأوسط والاتحاد الوطني للطلاب في المملكة المتحدة، وجمعيات ونقابات أخرى لصالح تأييد المقاطعة التي تدعمها ائتلافات واسعة وتؤيدها عمليات التصويت على القرارات التي تمت مناقشتها باستفاضة، تكتسب المزيد من الزخم في جميع أنحاء العالم.

ردّت الحكومات الصهيونية المتعاقبة والمنظمات الصهيونية الدولية على توسع حركة المقاطعة برفع الدعاوى القضائية وممارسة الضغط والتشريعات وحملات التشويه والتّرْهِيب وشيطنة حركة المقاطعة وتجريمها، وعلى مر السنين تَوسَّعَ النقاش والجدل حول المقاطعة الأكاديمية في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا وجنوب أفريقيا، فيما عارضها بشدّة الأكاديميون الصهاينة في فلسطين المحتلة من مختلف ألوان الطيف السياسي الصهيوني، وخارجها وأطلقوا (مع حكومتهم) حملات مضادة منسقة جيدًا لأي مبادرة لدعم المقاطعة، وهي حملات مدعومة بالتمويل والدعاية والدّعم الإعلامي الصهيوني و”الغربي”، بذريعة إن الجامعات (كمؤسسات) والباحثين والمُدرّسين غير مسؤولين ( كأفراد) عن ما قد يتعرض له الفلسطينيون من “الظّلم المُحتَمَل”، وتُصنّف بعض الأوساط هؤلاء الأكاديميين ضمن “التقدميين” الذين يجادل بعضهم بأنهم يدعمون الحقوق الفلسطينية لكنهم يعارضون المقاطعة الأكاديمية “لأن الجامعات الإسرائيلية في طليعة النضال من أجل الديمقراطية والمساواة في الحقوق”، وفق تصريح عالم الأنثروبولوجيا “باروخ كيمرلينغ” أواخر سنة 2023 أمام أعضاء جمعية الأنثروبولوجيا الأمريكية، وهو من المحسوبين في صفوف “التقدّميين” الذين لا يختلفون عن سلطات دولتهم عندما يتعلق الأمر بالشأن الفلسطيني أو بالمقاطعة الأكاديمية،

تأسست الدولة الصهيونية من خلال تدمير القُرى والأحياء والطرد الجماعي للفلسطينيين، بهدف إقامة أغلبية يهودية كأساس للدولة اليهودية، وكانت الأوساط الأكاديمية متورطة منذ البداية – وقبل تأسيس الدّولة الإستعمنارية – في هذا المشروع الاستعماري الاستيطاني المتمثل في الإزالة والاستبدال، وقامت الحركة الصهيونية، منذ سنة 1918، أي قبل ثلاثة عقود من قبل تأسيس الدّولة، بتأسيس ثلاث جامعات، بالتوازي مع تكثيف عملية الإستيطان، بحماية بريطانيا، كان الهدف منها بوضوح خدمة الأهداف الإقليمية للحركة في فلسطين، والتي تتلخص، وفق ما تذكره الدّعاية الصهيونية عند افتتاح الجامعة العبرية بالقدس سنة 1918 في تشكيل هوية وأمة يهودية-صهيونية جماعية جديدة” ثم تم إنشاء معهد التخنيون ( التكنولوجيا) في حيفا ومعهد وايزمان في رحوفوت لنفس الأهداف، ولتعزيز التطور العلمي والتكنولوجي للدولة المزمع تأسيسها باعتبارها دولة يهودية في فلسطين التاريخية، وبالفعل “تم تجنيد هذه المؤسسات بشكل مباشر قبل عقود، وخصوصًا منذ سنة 1947 لدعم عمليات الإرهاب والسلب العنيفة اللازمة للتوسع الإقليمي الصهيوني، وساعدت الجامعات في استمرار الطرد الجماعي للفلسطينيين لإقامة دولة إسرائيل”، وفق الوثائق التي أوردتها مجموعة المؤرخين الصهاينة المعروفين باسم “المؤرخين الجدد”، وأنشأت الميليشيا الصهيونية ” الهاغاناه” فيلقًا علميًا، فتح قواعد في الجامعات الثلاثة للبحث وتحسين القدرات العسكرية، وقام أعضاء هيئة التدريس والطلاب بتطوير وتصنيع الأسلحة، حيث تم وضع جامعاتهم ومعداتهم وخبراتهم في خدمة الميليشيات الصهيونية أثناء طرد الفلسطينيين من أراضيهم، منذ 1947، ودعمت الجامعات وهيئات التدريس والبحث عمليات الاستبدال الديموغرافي ( التهويد ) وساهمت في تحويل الجامعات إلى مواقع استيطانية استراتيجية لتطويق الفلسطينين، من خلال التوسع الاستيطاني اليهودي، من الجليل إلى النقب ومن حيفا إلى الضفة الغربية، وساهمت كافة التخصصات الأكاديمية بدون استثناء بإنتاج المعرفة التي تستخدمها الدولة الصهيونية للإستيلاء على الأرض وتهجير الفلسطينيين، ومن بين هذه الإختصاصات: علم الآثار والدراسات القانونية ودراسات الشرق الأوسط، ومراكز البحث التي طورت صناعة الأسلحة والتطبيقات العسكرية المباشرة ( مثل معهد وايزمان والتخنيون )، والبرامج الأكاديمية المصممة خصيصًا لتدريب الجنود وقوات الأمن على تعزيز عمليات المراقبة والعُنف المُؤسّساتي والقمع والإعتقال والتعذيب، وتحالفت هيئات البحث التّدريس مع أجهزة الدّولة الأخرى في تصميم حملات مضايقة وإسكات أي مُعارض، وخاصة من الفلسطينيين “الإسرائيليين” ونظمت عملية تضييق مجال الحوار والمناقشة واستمرت الجامعات بتقييد التحاقهم بالتعليم وبتقليص الوجود الفلسطيني في الجامعات. أما مؤسسات التعليم الفلسطينية فهي خاضعة للحكم العسكري فضلا عن القيود البيروقراطية التي تعزلها وتعرقلها، وعمليات الإغلاق والمداهمات العسكرية المتكررة، واختطاف واحتجاز وتعذيب أعضاء هيئة التدريس والطلاب، وفي قطاع غزة، كان الحصار طيلة أكثر من سبعة عشر عاماً قبل العدوان والقصف الجوي المُستتر منذ السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023 الذي دَمَّرَ كل الجامعات الفلسطينية في قطاع غزة، ولم تطالب أي إدارة جامعية صهيونية حكومتها بوقف قصف الجامعات الفلسطينية والتدمير المتعمد لمنظومة التعليم الفلسطيني، لأن الجامعات الصهيونية متواطئة وتُنتج دعاية الدولة للدفاع عن جرائم الحرب، وتقوم  بتدريب الجنود وتطوير الأسلحة وتمنح مزايا خاصة ومنحًا دراسية وحتى اعتمادات دراسية لجنود الاحتياط العائدين من قطاع غزة، وهي تدعم، بشكل عام الإستعمار الإستيطاني والإنتهاكات المستمرة لحقوق الشعب الفلسطيني، ما يُبرّر تفعيل المقاطعة الأكاديمية… 

بريطانيا

تم التحقيق خلال ثلاثة أشهر مع عدة مئات من الأشخاص في بريطانيا أو تم تهديدهم بالفصل من العمل بسبب تعبيرهم عن آراء مؤيدة للفلسطينيين الذين يتعرّضون للعدوان، منذ السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023، ويعد هذا أكبر هجوم على حرية التعبير منذ عقود، وخصوصًا في الجامعات التي تحولت إلى ساحة المعركة الرئيسية، حيث نشطت المنظمات الصهيونية، بدعم من الحكومة ومن إدارة الجامعات للتّشهير بالأساتذة والطّلبة والعديد من العاملين الذين يتمّ التّحقيق معهم وتهديدهم بالطّرد بتهمة “سوء السلوك” المتمثل في المطالبة بمقاطعة المؤسسات الأكاديمية الصهيونية ودعم الشعب الفلسطيني، في حين نَسَخَت معظم وسائل الإعلام – كما في جميع أنحاء العالم – الحجج الصهيونية المؤيدة للعمل العسكري، مثل “الدّفاع عن النفس” وخلال شهرَيْن – في الفترة ما بين 9 تشرين الأول/اكتوبر و14 كانون الأول/ديسمبر 2023 –  فاق عدد الإخطار بالتحقيقات الثلاثمائة إضافة إلى إنذارات شفوية لحوالي 136عامل وأكاديمي وباحث من المناهضين للإستعمار في جامعات إنغلترا، بسبب التعبير عن الدعم للفلسطينيين، وتجاهلت الجمعيات الليبرالية التي كانت تدّعي الدّفاع عن حرية التعبير هذا الأمر، بل طاولت حملات التّشهير والتهديد بالْعَزْل فئات أخرى، مثل المحامين والصحفيين والعاملين في شركات التكنولوجيا والمسؤولين الرياضيين، فيما عبرت قيادة حزب العُمّال عن دعمها غير المشروط للجيش الصهيوني…   

في الولايات المتحدة

استهدفت موجة عارمة، من القمع الحكومي والخاص، الأصوات المؤيدة للفلسطينيين ومن منتقدي العدوان الصهيوني الذين يواجهون تهديدات بالملاحقة القضائية الحكومية ووضع قوائم سوداء أو الفصل من العمل، ما يُذَكِّرُ بمناخ الفترة “المكارثية”، بعد الحرب العالمية الثانية، حتى نهاية عقد الخمسينيات من القرن العشرين، وأصبحت أي عبارة مُؤَيّدة للفلسطينيين تُصنَّفُ ضمن “التعصب والعُنصُرية والتحريض على العنف ومُعاداة السّامية…” وفي بداية شهر آذار/مارس 2024، تعاونت رابطة مكافحة التشهير (ADL) وهي من أكبر المنظمات الصهيونية، مع مركز لويس د. برانديز لحقوق الإنسان بموجب القانون لإرسال تحذير إلى أكثر من مائتي كلية وجامعة، تطالبها بحَظْر نشاط منظمة طلاب من أجل العدالة في فلسطين (SJP)  ، وطالبت بفتح تحقيقات للتدقيق بشأن تمويل هذه المنظمة الطلابية “والانتهاكات المحتملة لقواعد السلوك المدرسية وقوانين الولايات والقوانين الفيدرالية… وما إذا كانت تدعم الإرهابيين ماديًا”، ويحصل ذلك ضمن موجة متصاعدة من القمع السياسي والضغط الحكومي الذي يستهدف الأصوات المنتقدة للكيان الصهيوني والمؤيدة للفلسطينيين بالولايات المتحدة، ووجّهت إدارة بايدن وزارة الأمن الداخلي ووزارة القضاء “للعمل مع سلطات إنفاذ القانون داخل الجامعات لتتبع خطاب الكراهية عبر الإنترنت…” وارتفع حجم حملات القمع والتهديدات بالملاحقة القضائية، والحظر الذي تفرضه الدولة، والمراقبة الفيدرالية، والضغوط السياسية على الخطاب المؤيد للفلسطينيين في الولايات المتحدة، مع اعتماد المنظمات الصهيونية على سلطة الدولة لاستهداف وتثبيط حرية التعبير، وبضغط من الشركات الكبرى المُدْرَجَة في “وول ستريت” التي تبرعت بالمال وأمرت الكليات والجامعات بممارسة الضغط ونشر قوائم الطلاب “المخالفين” وحث المديرين التنفيذيين ومكاتب الإستشارات والمحاماة  على عدم توظيف الباحثين والمُدرّسين والقانونيين الذين عبروا عن نقد الكيان الصهيوني، وتم استجواب المُرشحين للوظائف في جامعات كولومبيا وهارفارد وولاية أركنساس، حول آرائهم بشأن ما يحصل في فلسطين، وشهّرت العديد من المواقع الصهيونية بالأشخاص الذين وقعوا على البيانات، مُعرّضين سلامتهم الجسدية للخطر من خلال إدراج أسمائهم الكاملة وصورهم ومسقط رأسهم، وإدراجهم ضمن “داعمي الإرهاب”، وطالبت بعض الولايات الأمريكية المقاولين المشاركين في أشغال حكومية بالتوقيع على “تعهد بعدم مقاطعة إسرائيل”، ليتم التشابك بين الرقابة المناهضة للفلسطينيين والسياسات المناهضة للعمال إلى اتهام النقابات التي نظّمت إضرابات “بدعم الإرهاب الفلسطيني”  

في مجال الإعلام، حَظَرت إدارة الصحف ووسائل التعبير الأخرى التّعليق على الحصار الصهيوني وعلى تجويع الفلسطينيين حتى الموت، وأوقفت العديد من المحطات العاملين من أُصُول عربية، واستقال العديد من المحررين الآخرين احتجاجًا أو تضامناً مع زملائهم، وطاول الأمر النّواب (الذين أدّوا قَسَم الولاء للولايات المتحدة الأمريكية) والذين اتهمتهم وسائل الإعلام ب”تأجيج نيران الكراهية والانقسام” لأنهم اتهموا الحكومة الأمريكية بـ “المساعدة النشطة في الإبادة الجماعية”، كما حذفت مِنَصّات التواصل “الإجتماعي” العديد من الحسابات بتهمة ارتكاب انتهاكات وَهْمِيّة مثل “التحريض على العنف” و “معاداة السامية”…

إنها المكارثية التي عادت إلى الولايات المتحدة وتمثلت مظاهرها في تهديد من يخالف الموقف الرسمي (أو الموقف السّائد) وإنشاء “قوائم سوداء” وإلغاء التوظيف والطرد من العمل، فضلا عن القمع الحكومي ومحاولات تجريم حرية التعبير ونَشْرِ مناخ من الترهيب والإتهامات الباطلة وتحريف التصريحات والآراء، وتجري حملة القمع من خلال مجموعة من القنوات الحكومية والشركات الخاصة، وملاحقة كل من ينتمي أو يؤيد حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على الكيان الصهيوني، رغم محدودية أهداف الحملة، ومطاردة كل من ينتقد بعض جوانب سياسات الكيان الصهيوني. أما من يرفع شعار تحرير فلسطين من البحر إلى النّهر فيُعتبر إرهابيا وعُنصُريا ومعاديا للسامية وهلم جرًّا…  انتقاد انتهاكات حقوق الإنسان المختلفة التي ترتكبها الحكومة الإسرائيلية الآن أو لفت الانتباه إليها هو في حد ذاته تحريض على العنف العنصري

التعليقات مغلقة.