جُذُور الحرب الثقافية الباردة – الجزء الثاني / الطاهر المعز

340

الطاهر المعز ( تونس ) – الجمعة 15/3/2024 م …  

كيف أصبح الباحثون الفرنسيون الذين يبتغون الشهرة والإعتراف الدولي مُضطرّين للنشر باللغة الإنغليزية، فيما تجري مُداولات مجلس إدارة شركات فرنسية المنشأ مثل رينو أو توتال باللغة الإنغليزية، وأصبحت مظاهر الحياة شبيهة بالحياة الأمريكية، ومداخل المُدُن تعج بأكشاك الهامبرغر والكوكاكولا ومراكز التسوق التي تبث موسيقى أمريكية هابطة، تمامًا مثل المدن الأمريكية… بينما تعمل الدولة الفرنسية على فَرْض اللغة والثقافة والحضارة الفرنسية على مُستعمَراتها السابقة وأنشأت مؤسسة الفرنكفونية كأداة للهيمنة الشاملة، ولكي تبقى اللغة الفرنسية سائدة بمعظم مستعمراتها السابقة، واللغة هي ثقافة وحضارة وإعلام وإيديولوجيا…

تعود أُصُول الهيمنة “الثقافية” أو “الإيديولوجية” الامريكية إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، لما كانت أوروبا مُدَمَّرَة، وكانت الطائرات الأمريكية سببًا في جزء هام من هذا التّدمير، فضلا عن نهب الجيش الأمريكي الذّهب والأموال المودعة في المصارف الأوروبية، وخرجت أمريكا – التي لم تجرِي الحرب على أراضيها – قوية وقادرة على الهيمنة على أوروبا الغربية، لكن توسّع حيز الإشتراكية من ستالينغراد إلى برلين جعل الولايات المتحدة تُخطّط لهيمنة مُتعدّدة الأوْجَه، منها العسكري بواسطة القواعد الضخمة ومنها الإقتصادي بواسطة “برنامج التّعافي الأوروبي” أو ما يُسمّى خطّة مارشال، ومنها الإيديولوجي بواسطة نشر أو فَرْض الثقافة الرأسمالية الليبرالية على الطريقة الأمريكية، وجورج مارشال هو رئيس الأركان الأسبقللجيش الأمريكي ووزير الخارجية في إدارة الرئيس ترومان، الذي أطلق المشروع رسميًا في خطاب ألقاه في جامعة هارفارد يوم الخامس من حزيران/يونيو 1947، وتكفّلت الآلة الضّخمة للدّعاية الأمريكية بتقديم “خطة مارشال” بمثابة هدية مجانية للحُلفاء الأوروبيين المنهكين من ست سنوات من الحرب، لمساعدتهم على العودة إلى الرخاء، وإلى الديمقراطية، كما كانت “مساعدات” خطة مارشال تهدف إلى غزو السوق الأوروبية لمنتجات التصدير الأمريكية ورأس المال الاستثماري، فضلا عن الأغراض السياسية ومنها منع التأميم ومكافحة الإشتراكية والنفوذ السوفييتي

شَكَّلَت خطة مارشال حلقة من مسار تطور تاريخي طويل المدى يخدم توسع الإمبريالية الأمريكية الذي بدأ خلال القرن التاسع عشر في القارة الأمريكية وفي آسيا غزو هاواي والفلبين وكوبا وبورتوريكو وجزر المحيط الهادئ، ومَكّن الإمبريالية الأمريكية من توسيع  أنشطتها المربحة في منطقة البحر الكاريبي، والمحيط الهادئ، والشرق الأقصى، والوصول إلى الموارد والأسواق في تلك المناطق النائية، بالإضافة إلى السوق المحلية الضخمة، سبباً في تحويل الولايات المتحدة إلى واحدة من أعظم القوى الصناعية في العالم، وقادرة على تحدي القوى الإستعمارية الأوروبية، مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا، وشكّلت المُشاركة المُتأخرة للولايات المتحدة ( سنة 1917) في الحرب العالمية الأولى (1914-1918) إنقاذًا لبريطانيا من الهزيمة، خوفًا من عجزها على سداد المبالغ الضخمة التي أقرضتها من المصارف الأمريكية لشراء الإنتاج والسلاح الأمريكي، وأدّت الحرب العالمية الأولى إلى لجوء أوروبا التي خربتها الحرب إلى السلع والمنتجات الأمريكية، وسَحبت بريطانيا معظم استثماراتها من أمريكا الجنوبية، وعموما أصبحت أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى، وخصوصًا بعد الحرب العالمية الثانية، سوقا كبيرة لمنتجات ومخزونات المصانع الأمريكية التي طبّقت “الفُردية” المتمثلة في نظام الإنتاج الضخم الذي ابتكره هنري فورد في مصانع السيارات، والذي تجسد في انخفاض تكاليف الإنتاج بسبب حجم عملها، قد مكن هذا من اختراق المنافسين الأوروبيين، اقتصاديا والسيطرة عليهم سياسيا، وخاصة بريطانيا التي اقترضت مبالغ مالية ضخمة من المصارف الأمريكية واستخدامها لشراء المعدات والوقود من الشركات الأمريكية الكبرى – بعد الإنهيار السريع لجيش وحكومة فرنسا، منذ 1940 – وأدْرجت الولايات المتحدة هذه “المساعدة” لبريطانيا ضمن مخطط أصبح يعرف باسم “الإعارة والتأجير” الذي يتضمّن، بالإضافة إلى سداد القروض مع الفوائد، فَتْح اقتصاد بريطانيا ومستعمراتها أمام استثمارات وإنتاج الولايات المتحدة، ما حَوّل بريطانيا التي كانت تُسمّى “امبراطورية عُظْمَى” إلى “شريك أصغر” للولايات المتحدة، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، بفضل قروض الإعارة والتأجير التي كانت بمثابة إعلان نهاية الإمبراطورية البريطانية…  

أصبحت ألمانيا “رأس الجسر” الأوروبي للإمبريالية الأمريكية، من خلال إعادة تسليحها (بعد الحرب العالمية الأولى) ومن خلال الأرباح الضخمة التي حققتها المصارف الأمريكية والشركات مثل “فورد” و”ستاندرد أويل” التي زَوّدت ألمانيا بالكثير من المعدات – بما في ذلك الشاحنات والدبابات ومحركات الطائرات والمدافع الرشاشة – بالإضافة إلى الوقود، في ظل النظام النازي الذي طَوّر الإقتصاد الرأسمالي في ألمانيا، وفق العديد من المؤرخين، ومنهم آلان س. ميلوارد، الخبير البريطاني في التاريخ الاقتصادي لألمانيا النازية التي أثبتت “كفاءتها” في مجال تطبيقات الإقتصاد الرأسمالي…  

كان مُخطّط توسيع دائرة الهيمنة على العالم هو المُحفز لدخول الولايات المتحدة الحربَيْن العالمِيّتَيْن الأولى والثانية، وظهَر هذاالدّافع بشكل جَلِي خلال مؤتمر مدينة بريتون وودز( ولاية نيو هامبشاير)، في تموز/يوليو 1944، قبل نهاية الحرب، بمشاركة أربع وأربعين دولة، وبالأخص الدول التي أدّت الحرب إلى إضعاف وضعها الإقتصادي، واغتنمت الولايات المتحدة التي لم تتضرر – بل استفادت من الحَرْبَيْن – الفرصة لِفَرْض النظام الاقتصادي العالمي الجديد القائم على التجارة الحرة،.وعلى هيمنة الدّولار الذي أصبح العملة الاحتياطية الدولية، وصمّمت الولايات المتحدة وأشرفت على إنشاء آليات “النظام الإقتصادي العالمي الجديد”، وأهَمّها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والمنظمات الدولية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة.

بالنسبة لفرنسا، اعتبرت الولايات المتحدة رسميًا، في ظل إدارة الرئيس روزفلت، إن النظام الذي تعاون مع ألمانيا النازية وساعدها على احتلال البلاد ( نظام يقوده فليب بيتان) يُمثّلُ السّلْطة الشرعية لفرنسا، واستمرت في منحه هذه “الشّرعية” حتى بعد دخول الولايات المتحدة الحرب، حيث رفضت إدارة الرئيس روزفلت الاعتراف بحكومة شارل ديغول “الفرنسية الحرة” المنفية في بريطانيا، ولم تنقطع العلاقات بين واشنطن وحكومة فليب بيتان (حكومة فيشي ) إلا بعد نزول القوات الأمريكية والبريطانية في شمال أفريقيا واحتلال المستعمرات الفرنسية هناك في أواخر سنة 1942، وأصبحت الإمبريالية الأمريكية تحكم المستعمرات الفرنسية في شمال إفريقيا، ولما تأكّدت الولايات المتحدة من هزيمة ألمانيا، بداية من شهر كانون الثاني/يناير 1943 ( هزيمة ألمانيا في معركة ستالينغراد) رتبت لمرحلة ما بعد الحرب وإدماج موظفي الحكومة العميلة لألمانيا في الإدارة الرّسمية الفرنسية، خدمةً للمصالح الإستراتيجية الأمريكية، وَلمَنْع فصائل مُقاومة الإحتلال النازي، بقيادة الشيوعيين، من الوصول إلى السلطة وتنفيذ برنامجهم المثمثل في إقرار التّاميم والإصلاحات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية، وعيّنت الولايات المتحدة أعضاء الحكومة الفرنسية المؤقتة برئاسة “دارلان” التي وقّعت، يوم 25 أيلول/سبتمبر 1943، على اتفاقية الإعارة والتأجير (الشبيهة باتفاقية أمريكا وبريطانيا) مع الولايات المتحدة، بشروط مماثلة لاتفاقية الإعارة والتأجير مع بريطانيا والتي فتحت الباب للشركات والمصارف الأمريكية لتهيمن على أسواق وموارد فرنسا ومستعمراتها، ولم تعترف الولايات المتحدة بالحكومة الفرنسية المؤقتة التي يرأسها شارل ديغول سوى بعد بعد عمليات الإنزال في إقليم “نورماندي” وتحرير باريس (تشرين الأول/اكتوبر 1944)، وكان ديغول مقبولاً لدى حكومة الولايات المتحدة لأنه كان شخصية محافظة، وكان عازماً على عدم المضي قدماً في عمليات تأميم المصارف والشركات وغير ذلك من الإصلاحات الاجتماعية الاقتصادية الجذرية التي خطط لها قادة المقاومة من الشيوعيين…

لما خربت الطائرات الأمريكية ألمانيا، لم تقصف المصانع الفرعية العديدة للشركات الأمريكية في ألمانيا النازية التي حققت أرباحًا هائلة تم إعادة استثمار معظمها في ألمانيا نفسها، ولم تتعرض سوى لأضرار قليلة زمن الحرب، ولتوضيح الصّورة، ارتفعت القيمة الإجمالية للاستثمارات الأمريكية في ألمانيا النازية، والتي شملت ما لا يقل عن 553 شركة، إلى 450 مليون دولار بحلول وقت إعلان ألمانيا الحرب على الولايات المتحدة في كانون الأول/ديسمبر 1941، وعند نهاية الحرب كانت الاستثمارات الأمريكية في ألمانيا سليمة وأكثر ربحية من أي وقت مضى، ولذا فرضت الولايات المتحدة على الدول الأوروبية إسقاط ديون ألمانيا وإسقاط مبالغ التعويضات عن الحرْبَيْن الأولى والثانية، لكي تحافظ المصارف والشركات الأمريكية على مستوى أرباحها، كما وجب منع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية المناهضة للرأسمالية ليس فقط في ألمانيا، بل في جميع البلدان الأوروبية الأخرى، وبالأخص في فرنسا، التي خربت الطائرات الأمريكية والألمانية مصانعها واقتصادها وكانت مضطرة – خصوصًا بعد اتفاقية الإعارة والتأجير – على اللجوء إلى الاستثمارات ( لإعادة الإعمار) والسلع الأميركية بأسعار مرتفعة، بما فيها الوقود والإمدادات الغذائية والزراعية والصناعية التي يتم سدادها بالدّولار، فضلا عن الشروط السياسية ضمن الحرب الأمريكية “الباردة” ضد الاتحاد السوفييتي الذي كان أكبر مُساهم في تحرير أوروبا من النازية والفاشية، وفي الجانب الثقافي والإيديولوجي كان على فرنسا أن تفتح أبوابها أمام إنتاجات هوليود، وإلحاق الضرر بالإنتاج الثقافي والسينمائي الفرنسي، وبذلك كانت “المساعدات” الأميركية تعني  الخضوع الأوروبي للولايات المتحدة.

في نهاية الحرب العالمية الثانية، كان الشيوعيون يتمتعون بسمعة طيبة بفضل دورهم المهيمن في مقاومة الإحتلال الألماني، وكذلك بفضل المكانة التي اكتسبها الإتحاد السوفييتي باعتباره المنتصر على ألمانيا النازية ومُحَرّر عشرات الآلاف من الأَسْرى من المُحتشدات ، وكان للولايات المتحدة دور كبير في نشر الثقافة المُضادّة للإشتراكية (والمناهضة للإتحاد السوفييتي) ويُشكل الجانب الثقافي جزءًا من حرب شاملة كانت “خطة مارشال” تُشكل جانبها الإقتصادي وبوابة نحو توسيع النفوذ الإقتصادي والسياسي الأمريكي عبر المحيط الأطلسي، وتحويل الدول الأوروبية بما فيها الإمبراطوريات الإستعمارية البريطانية والفرنسية إلى شريك أصغر للولايات المتحدة.

بذل الدبلوماسيون ورجال الأعمال الأمريكيون جهودًا مشتركة وكبيرة، خلال الحرب، لكي تُسفر الحرب عن تَضَخّم القوة الاقتصادية الأمريكية لكي تصبح الأكْبَر والأقْوَى في العالم، بعد تمديد سياسة “الباب المفتوح” و”التجارة الحرة” إلى آسيا والعالم، ونجحت السّلُطات الأمريكية  في ذلك بسبب التخطيط المُحْكم طويل المَدى، وبسبب ضُعْف الصّف المُقابل، المناهض للرأسمالية والإمبريالية…  

في هذا الإطار يأتي تركيز نشاط الإستخبارات الأمريكية ضمن برامج “الحرب الباردة الثقافية” على فرنسا، فضلا عن مدرسة فرانكفورت، ومدرسة النّمسا للإقتصاد ورمْزُها فريدريش حايك، ومدرسة شيكاغو ورَمْزُها ميلتون فريدمان، واستخدمت الإستخباراتُ الأمريكيةُ رُمُوزَ الحركة الفكرية والأدبية والثقافية في فرنسا لبث النّظريات الإيديولوجية الرّجعية…

لمزيد التّفاصيل بشأن مُخطّطات الإمبريالية الأمريكية في أوروبا، وبالخصوص في فرنسا، خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، يُرجى مراجعة كتاب المؤرخة والباحثة الفرنسية آني لاكروا ريز، بعنوان:  أصول خطة مارشال: أسطورة المساعدة الأمريكية ، الصادر عن دار النّشر أرمان كولان، مالاكوف، 2023.

الليبرالية الجديدة – مدرسة فيينا ومدرسة شيكاغو

يمكن ذِكْرُ ثلاثة من كبار المُنظِّرين والمُفكّرِين الإقتصاديّين الأوروبيين: كارل ماركس (1818-1883)، جون ماينارد كينز (1883-1946) وفريدريش فون هايك (1899-1992) إضافة إلى الأمريكي من أصل مَجَرِي ميلتون فريدمان ( 1912 – 2006) وأحْدَثَ كل منهم، بطريقته الخاصة، ثورة في الفكر الاقتصادي وفي النّظرة إلى العالم.

يعتبر كارل ماركس (1818-1883) وفريدريك إنغلس ( 1820 – 1895)، مؤسسي النظرية الشيوعية، ويشكل الفكر الثوري لكارل ماركس لحظة حاسمة في تاريخ الفلسفة، حيث أسند إليها مهمة تغيير العالم، وليس فقط وصْفُهُ، وبَلْوَر مفهومه لتطور المجتمعات من خلال الطريقة التي ينتج بها الناس وسائل عيشهم وثرواتهم ومن خلال الصراعات الطبقية، واعتبر إن الرأسمالية كطريقة إنتاج تخلق علاقات اجتماعية تؤدِّي إلى إسقاطها والإطاحة بها لأن رأس المال عنيف بطبعه، ويخلق نقيضه بسبب الإستغلال الفاحش واحتكار الأرباح التي يخلقها العاملون. 

اشتهر جون ماينارد كينز (1883-1946) بالبحث عن حلول من داخل الرأسمالية وقوانينها لأشهر أزمة في تاريخ الرأسمالية – أزمة 1929 –  وبالبحث عن الطريقة التي تُمَكّن من حل المشاكل الاقتصادية للرأسمالية واستبعاد شبح الثورة الإشتراكية كتلك التي انطلقت في روسيا سنة 1917… كان كينز معارضًا شرسًا لفكر ماركس الذي دعا – وعمل ضمن الإشتراكية الدّولية – للإطاحة بالرأسمالية، ولذلك ابتكر كينز الليبرالي، طريقةً للحفاظ على اقتصاد السوق، وجعله أكثر كفاءة وعدالة، من خلال تعديل بعض نظريات وأُسس الاقتصاد الكلي والسياسة الاقتصادية للدّولة وجعل الدولة تَتَدخّل في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، خلافًا للنظريات الإقتصادية الرأسمالية الكلاسيكية التي تعتمد مبدأ ترك “اليد الخفية للسوق” تُنظّم الإقتصاد، دون تدخّل الدّولة…

ربما يكون فريدريش فون هايك (1899-1992) أحد أكثر الاقتصاديين تأثيراً في جيله، فهو يُدافع في كتابه “الطريق إلى العبودية”، المنشور سنة 1944، عن اقتصاد السوق ويحذر من المخاطر التي تشكلها الإدارة الجماعية – أو الدّولة – على الحريات، ولذلك كان من أوائل المعارضين لكينز، الذي انتقد عمله بشدة من كلية لندن للاقتصاد، وكانت كلية لندن في ذلك الوقت منافسة لكامبريدج (كان هايك مواطنًا بريطانيًا)، وكان مؤيدًا لليبرالية راديكالية للغاية، ويدعو إلى إلغاء مؤسسات الرقابة المركزية، بما في ذلك المصارف المركزية، معتبرًا إن الإقتصاديين لا يجب أن يهتموا بموضوع العدالة الإجتماعية، لأن البحث عن العدالة الإجتماعية يؤدي إلى نشوء مجتمع اشتراكي متخفِّي وراء شعارات “التخفيف من الفقر” و “تحقيق العدالة” وما إلى ذلك، وحصل فريدريش هايك، سنة 1974، على ما اصطُلِح على تسميتها “جائزة نوبل للإقتصاد” وفي الواقع  ليست هناك جائزة نوبل للإقتصاد وإنما هي جائزة المصرف المركزي السويدي تُمنح لِمُنظِّرِي الرأسمالية الليبرالية ومُبْتَكِرِي الحُلُول لأزماتها، ومنحت لفريدريش هايك تكريمًا “لعمله الرائد في نظرية المال والتقلبات الاقتصادية ولتحليله للترابط بين الظواهر الاقتصادية والاجتماعية والمؤسسية”…

يُعتبر ميلتون فريدمان ( 1912 – 2006) أحد أهم المنظّرين النيوليبراليين الأمريكيين والعالميين، وحصل بدوره على جائزة المصرف المركزي السويدي سنة 1976 ( المُسمّاة اعتباطًا “جائزة نوبل للإقتصاد)، وهو أحد أهم مُنَظِّرِي “النظرية النقدية” ( من النُّقُود)، ومن أبرز الأكاديميين المحسوبين على “مدرسة شيكاغو” في الاقتصاد، وكان ميلتون فريدمان مستشارًا للرئيس الأمريكي رونالد ريغان وللجنرال أوغوستو بينوشيه الذي قاد الإنقلاب ضد حكومة سلفادور أليندي المنتخبة ديمقراطيا في تشيلي، كما كان مُعارضًا بشدّة لما كتبه “كينز” بشأن ضرورة تدخّل الدّولة لحل الأزمات، لأن فريدمان يُعارض القطاع العام والسياسات العمومية لأنه يعتبرها مناهضة لليبرالية وللسوق الحُرّة، وكان ينشر الفكر النيوليبرالي في برنامج تلفزيوني يُذاع في عدة دول، وأسّس “النّظرية النقدية” على مُعارضة تحفيز الاقتصاد من خلال رفع حجم الكتلة النقدية، لأنها تؤدي فقط إلى ارتفاع مستوى الأسعار وارتفاع نسبة التضخم، وتُسمّى النظرية النقدية كذلك “النظرية الكِمِّيّة” التي تُخْفِي الدّعوة إلى الضغط على العاملين لزيادة الإنتاج، دون زيادة الرواتب ودون زيادة الإستثمار في البنية التحتية والتجهيزات، ويدعو أصحاب النظرية النقدية إلى خفض الكتلة النقدية ورفع أسعار الفائدة (الذي يؤدّي إلى رفع تكاليف اقتراض الأفراد والأُسَر والفلاحين والحِرفِيّين والشركات الصغيرة ) وهو من الدّاعين إلى “استقلالية” المصارف المركزية التي فرضها صندوق النقد الدّولي على مجمل حكومات الدّول التي لجأت إلى الإقتراض، وتتلخص “استقلالية” المصرف المركزي في التصرف في موارد البلاد، وخصوصًا احتياطي العملات الأجنبية، مع حَظْر لجوء الحكومة لهذه الأموال لتمويل برامجها وللإستثمار في قطاعات منتجة او لتنفيذ البرامج الإجتماعية، ويعتبر ميلتون فريدمان إن دور الدّولة ينحصر في اقتراح القوانين والتشريعات (على نواب البرلمان) وردع من يخالف تلك القوانين، مع حَظْر تدخّل الدّولة في سير الأسواق وفي تحديد أو مراقبة الأسعار مثلا، ويدعو إلى عدم تدخّل الدّولة في تحديد الرواتب أو فَرْض حد أدنى للأجور، ويدعو كذلك إلى عدم تدخّل الدّولة في تحديد أسعار صرف العملات…

أصبحت هذه القواعد أساسًا لسياسات بريطانيا خلال فترة حكم مارغريت تاتشر، ومن جاء بعدها، من حزب المحافظين أو حزب العُمّال، وكذلك في الولايات المتحدة منذ رئاسة رونالد ريغن، وتم تطبيقها في تشيلي خلال فترة الحكم العسكري، من 1973 إلى 1990، والفترة التي تلت الحكم العسكري، وأصبحت كذلك من القواعد التي يفرضها صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية…    

من النظريات الليبرالية الكلاسيكية إلى النيوليبرالية:

تم تجاوز النظريات الليبرالية الكلاسيكية أو الكلاسيكية الجديدة وابتكار الليبرالية الجديدة ( نيوليبرالية) التي تم تطبيقها في بريطانيا من قِبَل حكومة مارغريت تاتشر ( 1925 – 2013) ودام حكمها من 1979 إلى 1990، وفي الولايات المتحدة خلال فترة رئاسة رونالد ريغن ( 1911 – 2004 ) وكان رئيسًا من سنة 1981 إلى 1989، وأدّى تطبيق “النيوليبرالية” إلى تدمير الطبقة العاملة والنّقابات وتصدير الصناعات ذات القيمة الزائدة الضعيفة والمُلَوّثة والتي تتطلب عمالة كثيفة إلى البلدان الفقيرة، وتم خلال هذه الفترة تقليص دور الدولة في الاقتصاد، وتخفيض الضرائب خاصة على الأغنياء والشركات الإحتكارية، وفتح القطاع العام والقطاعات الإستراتيجية كالطاقة وخدمات الكهرباء والماء والصحة أمام “المنافسة الحرة”، بذريعة التنظيم الذّاتي للسوق، وخفض الإنفاق الاجتماعي وإلغاء دعم أسعار السلع الأساسية والمرافق والخدمات التي يستفيد منها الفُقراء الذين تضرّروا من “السوق الحرة”…  

اشتهر فريدريش فون هايك ( مدرسة النمسا) وميلتون فريدمان ومدرسة شيكاغو بالدفاع عن هذه النظريات، كل بطريقته، وتم تطبيقها في بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، قبل تعميمها من قِبَل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي

مدرسة شيكاغو

تشترك مدرسة النمسا ومدرسة شيكاغو في امتداح التجارة الحرة وتختلفان في بعض القضايا، حيث تعتبر مدرسة النمسا ( فريدريش هايك) إن خلق النقود دون أن يُقابلها إنتاج، يُؤدّي إلى اضطراب الإقتصاد (التضخم والبطالة والديون)، وتقترح مدرسة النمسا إيجاد مدّخرات مُعَيّرة بحجم مُعَيّن من الذّهب أو استخدام الذّهب كجزء من الإحتياطي، فيما يفترض أصحاب “نظرية النَّقْد” ( ميلتون فريدمان) أن تكون زيادة الإنتاج مَرْفُوقة بزيادة إنتاج النقود، لاستخدامها لشراء الآلات ودفع الرواتب…

حظي المركز الفكري المُسمّى “مدرسة شيكاغو” ( وهو مجموعة من الجامعات ومؤسسات البحث الأكاديمي التي ترمز إلى الفكر الاقتصادي النيوليبرالي الأمريكي) بدعم السلطات الأمريكية والإعلام الأمريكي المُهَيْمن، ليُصبح أداة السياسات الإمبريالية للولايات المتحدة التي تفرض، بواسطة المؤسسات الدّولية كصندوق النقد والبنك العالمي ومنظمة التجارة وغيرها، التجارة الحرة – إذا كانت في مصلحة الولايات المتحدة، وليس في مصلحة الصين – وإلغاء القيود المالية وغير ذلك، ونال مُنظِّروا هذه المدرسة جوائز عديدة (منها جائز المصرف المركزي السويدي – نوبل للإقتصاد) لا تُناسب حجمها الحقيقي ولا مساهمتها الفعلية في تطوير نظريات الإقتصاد السياسي، وتمكّنت الولايات المتحدة من فَرْض النيوليبرالية وفرض هيمنة الدّولار ومصالح الشركات العابرة للقارات ذات المَنْشَأ الأمريكي، وإذا ما حاولت سلطات تشيلي تأميم النحاس أو حاولت سلطات بوليفيا تأميم الليثيوم، فإن الإستخبارات الأمريكية جاهزة لتنظيم انقلاب، والجيش الأمريكي جاهز لاحتلال البلدان التي تتجنّب التعامل بالدّولار، ولا تتبنى هذا المنطق الاقتصادي النيوليبرالي.

كانت ولا تزال جامعة شيكاغو أهم معاقل المدرسة النيوليبرالية، وكان فريدريش هايك مُدَرِّسًا بها من سنة 1950 إلى 1961، فيما قضى ميلتون فريدمان حياته المهنية بهذه الجامعة واستخدم الجامعة ( التي تدعمها السلطة والإعلام الأمريكِيّيْن) للترويج – بداية من سنة 1970 – لنظيته النّقدية (من النُّقود) الذي ذكرناها سابقًا، وكان ميلتون فريدمان مُمثِّلاً للتيارات الأمريكية الأشد رجعية، في مجالات السياسة والإقتصاد، وكان منذ سنة 1964، مستشارًا للعديد من زعماء الحزب الجمهوري، ومن بينهم الرئيسان ريتشارد نيكسون ورونالد ريغان، كما كان مستشارًا للجنرال أوغوستو بينوشيه بعد الإطاحة بحكومة سلفادور الليندي، وأيد فريدمان القمع وحث على اتخاذ إجراءات سياسية واقتصادية معادية لأغلبية المجتمع، ولا يختلف في هذا الصّدد مع فريدريش حايك الذي أعلن إنه يُفَضِّلُ أسلوب الحكم القمعي والدّكتاتوري للجنرال أوغوستو بينوشيه، وشكّلت تشيلي منذ انقلاب 11 أيلول/سبتمبر 1973 مختبرًا لتنفيذ المشروع النيوليبرالي في دولة متوسطة الدّخل، بطريقة عنيفة ووحشية، ليتم تعميم مشروع الليبرالية الجديدة على البلدان الإمبريالية، كبريطانيا والولايات المتحدة، باستخدام نفس المَرْجَعيات الإيديولوجية المُسمّاة “الثورة المُضادّة النيوليبرالية”، مع اختلاف أسلوب الحكم…  

تستهدف العقيدة النيوليبرالية تقويض قانون العمل الذي يحمي الوظائف الثابتة والحد من نفوذ النقابات (عبر خلق العراقيل لتأسيس النقابات ولتنظيم الإضرابات) ويحاول النيوليبراليون وضع حدّ لنظام الحماية الإجتماعية والخدمات العامة، بذريعة إنها عقبة أمام حرية عمل السّوق، ولكن السلطات النيوليبرالية دعمت ( ماليا وسياسيا) تركيز النفوذ لدى الشركات الإحتكارية خصوصًا في القطاعات الإستراتيجية وإقرار الحمائية تجاه منافسيها من خلال تقديم الحوافز المالية للشركات المُصَدِّرَة وتعزيز الحواجز الجمركية والآليات التي تحد من التجارة الحرة، وترافقت هذه الإجراءات مع زيادة الإنفاق العسكري وخفض الإنفاق الإجتماعي، وزيادة الوظائف الهشة وبدوام جزئي وبرواتب منخفضة، وتعميق الفجوة الطبقية بين الأثرياء والفقراء، وكذلك بين حصة رأس المال والعمل، وارتفاع عدد ونسبة الفُقراء والمساجين الذين يتم تشغيلهم في الولايات المتحدة بشكل إجباري وشبه مجاني  

بعد خمسين سنة، أعاد تقرير البنك العالمي بعنوان “عالم العمل في اقتصاد بلا حدود” (سنة 1995) ما كتبه فريدريش فون هايك سنة 1944 ( خلال الحرب العالمية الثانية) في كتابه “الطريق إلى العبودية” من ذَمّ النقابات التي تطالب بخلق وظائف وباستقرار الأسعار والأُجُور، باعتبارها “دفاعا عن أصحاب الوظائف الآمنة، على حساب العاطلين عن العمل والعاملين بالإقتصاد الموازي والمُسْتَعْبَدِين والمظلومين…” وبطبيعة الحال لا يطرح البنك العالمي سؤال “لماذا ارتفع عدد المُعطّلين عن العمل والعاملين بالإقتصاد الموازي” ولا يطرح حلولا ليحصل الجميع على دخل لائق وعلى رعاية صحية جيدة ومسكن لائق وما إلى ذلك من مقومات الحياة “الطبيعية”، لأن وظيفة البنك العالمي وصندوق النقد الدّولي تتمثل في الدّفاع عن النيوليبرالية ونتائجها، بما في ذلك في البلدان الفقيرة،  

وساهم البنك العالمي في القمة العالمية للتنمية الاجتماعية، التي نظمتها الأمم المتحدة في “كوبنهاغن” في آذار/مارس 1995 بوثيقة تضمنت ” بالنسبة للدول النامية فإن الحد الأدنى للأجور والتأمين ضد البطالة وتشريعات تعويضات نهاية الخدمة والأمن الوظيفي لا تفيد العمال في الريف والقطاع غير الرسمي الذين يشكلون الجزء الأكبر من الفقراء في البلدان النامية“، وبالتالي وجب على السلطات وأرباب العمل رفض المطالب النقابية وتطبيق اليبرالية الجديدة التي تعتبر “إن أنظمة الضمان الاجتماعي تمنع الممارسة الكاملة لحرية العمل، وذلك أساسا من خلال قوانين العمل وإعادة توزيع الدخل… إن الضوابط على الأجور، مثلها في ذلك كمثل الضوابط على الأسعار، تؤدي إلى تشوهات خطيرة وغير متوقعة…  يبدو أن نموذج الرئيس التنفيذي الاستبدادي هو الحل الوحيد الذي يضمن حسن سير العمل في الشركة…” وفق  أحد رموز النيوليبرالية  “آلان غرينسبان” رئيس الإحتياطي الإتحادي الأمريكي من 1987 إلى 2006 ( ولد سنة 1926 ولا يزال حيا  )

 

الهيمنة الثقافية – الدّولة خَصْم وحَكَم

لقد حلت الدولة البرجوازية محل السلطة الإقطاعية في أوروبا، مهد الرأسمالية، وتم بناء المؤسسات السياسية والإدارية (البرلمان، الجيش، الشرطة، الإدارة الإقليمية) “لضمان حسن سير العمل في المجتمع”، وفقا لسلطات الدولة التي وَفَّرت الشروط لتبرير القمع الشديد ضد أي شكل من أشكال الاحتجاج أو المساءلة للقائمين على هذه السّلطات والمؤسسات، ويتم هذا القمع باسم أمن الدولة أو المصلحة العُليا المشتركة للمواطنين وللمجتمع وللدّولة.

وتحاول السلطات السياسية تبرير القمع من خلال الإشارة إلى التهديدات (الافتراضية في كثير من الأحيان) للأمن أو “لأسباب تتعلق باأمن لدولة”. ما هو “أمن الدولة”؟ وكيف يمكن تبرير الوسائل التي تستخدمها الدّولة لإلغاء القُيُود التي يفرضها الدّستور أو ما يُسمّى سيادة القانون؟

جهاز الدولة هو تنظيم سياسي وإداري يشرف على مصائر المجموعات والأفراد المقيمين في إقليم معين، بواسطة مجموعة من القواعد التي تحاول الدولة فرضها على جميع المواطنين الذين يعيشون في هذا الإقليم، باسم “المصلحة العليا للدّولة” وهو مفهوم أثاره عبد الله بن المُقفّع ( 724 – 759 ) في كتاب “كليلة ودمنة” وأثاره ابن خلدون ( 1332 – 1406 )  في كتاب “المُقدّمة” قبل أن يعيد مايافيللي مكيافيلي (فلورنسا 1469 – 1527) صياغته في كتابه المعنون «الأمير»، وكثيراً ما يستخدم هذا المفهوم ( الذي تم اختزاله في مقولة “الغاية تُبرّر الوسيلة) لتبرير التدابير الاستثنائية التي تنتهك القيم الديمقراطية، باسم المصالح العليا للدولة أو الأمن القومي أو “المصلحة العامة”، وتتمثل هذه التّدابير الإستثنائية في إلغاء بعض أحكام الدستور والقوانين، لتبرير المراقبة الجماعية، وتقييد الحريات الجماعية والفردية، واستخدام القوة العسكرية داخل الحدود ( بدل الدّفاع عن الحدود) أو لمهاجمة دولة أخرى، باسم “الحرب ضد الإرهاب” أو باسم الدفاع عن الأمن القومي، وهو ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية، منذ نشأتها إلى الآن، ليصبح “الأمن القومي” أو “المصلحة العليا للدولة” ذريعة لحرمان المواطنين من حقوقهم الأساسية، ولتبرير اللجوء إلى القوانين الاستثنائية والتعسف، مما يحد من أو يلغي دور المؤسسات الديمقراطية، ويحد أو يلغي سيطرة المواطن والمجموعات على سلطة الدولة، وما مصلحة الدّولة أو مصلحة المجتمع سوى ذريعة لتبرير إساءة استخدام السلطة وانتهاك حقوق الإنسان، مما يقلل من ثقة المواطنين ويغذي الخوف، بدل الثقة والإحترام.

إن الدولة ليست محايدة أو غير متحيزة، وهي ليست في خدمة المصلحة العامة، كما يدعي المثاليون، أو المثقفون العضويون للبرجوازية، بل تمثل الدولة مصالح الطبقة المهيمنة وتعمل على تعزيز أو حماية مصالحها الاقتصادية، ومن خلال قمع أي احتجاج أو تمرد شعبي أو عمالي أو فلاحي، والدولة هي مجموعة من الأجهزة (الشرطة والقضاء والبرلمان ومنظومة التعليم والإعلام، إلخ) التي تمارس الرقابة الاجتماعية، وتحافظ على النظام لضمان استمرارية سلطة الطبقات المهيمنة، ووفقا لأنطونيو غرامشي ( 1891 – 1937 )، فإن الطبقة المهيمنة لا تكتفي بالهيمنة الإقتصادية والسياسية، بل تسعى أيضًا إلى الحفاظ على هيمنتها الشاملة على كافة دواليب المجتمع من خلال التأثير والسيطرة على المؤسسات الثقافية والسياسية، ولا تقتصر الطبقة الحاكمة على البرجوازية الرأسمالية، بل تشمل أيضا عناصر من الطبقة الوسطى والمثقفين، بحسب أنطونيو غرامشي الذي يُؤكد أن الطبقة الحاكمة تحافظ على سلطتها من خلال خلق توافق ثقافي داخل المجتمع، ومن خلال تشكيل الأفكار والقيم والمعتقدات المقبولة لدى الجميع، ويتم ذلك من خلال الهيمنة الثقافية، أي التأثير الثقافي والأيديولوجي الذي تمارسه الطبقة المهيمنة على الطبقات التابعة… تستخدم الطبقة المهيمنة المؤسسات والممارسات الثقافية، مثل التعليم والإعلام والدين، لتعزيز أيديولوجيتها ومصالحها، وهكذا يمكن لوسائل الإعلام أن تقدم نظرة متحيزة للواقع، بهدف محاباة مصالح الطبقة المهيمنة، في حين يمكن للتعليم أن يعلم القيم التي تعزز مكانة الطبقة المهيمنة في المجتمع، لأن هدف الطبقة الحاكمة، بحسب غرامشي، هو الحفاظ على سلطتها ومنع نمو وعي الطبقات المُسْتَغَلّة والمُضْطَهَدَة بواقع وآليات الاستغلال ومَنْع إيمانها بضرورة الثورة وبإمكانية الإنتصار، وتتمكن الطبقات السائدة من السيطرة ومن استمرار الهيمنة من خلال خلق إجماع ثقافي يجعل الطبقات التابعة تقبل النظام الاجتماعي القائم باعتباره طبيعيًا وعادلاً، واهذه الأسباب وجب بناء هيمنة ثقافية وإيديولوجية مضادة، أي تطوير رؤية جديدة للعالم وثقافة جديدة تدعو إلى التشكيك في النظام القائم ومحاربة الطبقة المهيمنة.

نُشرت عدة نصوص لأنطونيو غرامشي، المؤسس المشارك ومنظر الحزب الشيوعي الإيطالي، بعد وفاته (1937) في “دفاتر السجن

تم شرح مفهوم الهيمنة في “كُرّاسات” غرامشي في فقرة “تحليل المواقف- علاقات القوى”، حيث يُعَرّف الهيمنة على أنها عملية قيادة ثقافية وأخلاقية وفكرية تمارسها مجموعة اجتماعية على الآخرين، وهي ليست مجرد هيمنة، ولكنها شكل من أشكال التوجيه التوافقي الذي يسمح للطبقة بقيادة الآخرين إلى مشروع مشترك. هذه هي القيادة التي يجب على الطبقة العاملة أن تمارسها على الطبقات والشّرائح والفِئات الأخرى المتحالفة معها، مثل الفلاحين، لفرض تصور جديد للعالم و”حس سليم” جديد، من شأنه أن يكمل ويعزز الهيمنة أو الإكراه عند الضرورة ضد الطبقات المهيمنة في النظام القديم.

الهيمنة وحرب المواقع

كما طور غرامشي مفهوم “حرب المواقع” بدلاً من “حرب المناورة”، حيث تشير حرب المواقع إلى الصراع الثقافي والأيديولوجي الذي يسبق ويمهد الطريق لمزيد من التغييرات الثورية المباشرة… يؤكد غرامشي في “الدفاتر” على أن هذا الصراع لا يحل محل الحاجة إلى المواجهة المباشرة، بل يكملها. وهو يرى أن أي تغيير ثوري مهم ينطوي حتما على المواجهة. ومن ثم فهو ليس “انتقالا سلميا إلى الاشتراكية“.

إن بناء الهيمنة الثقافية والأخلاقية أمر بالغ الأهمية، ولكنه لا يمكن أن يحل محل الحاجة إلى النضال المباشر ضد هياكل السلطة الرأسمالية، لأن البرجوازية لن تتخلى سلميا عن امتيازاتها بالوسائل البرلمانية فحسب، ولذا فلا يمكن التغلب على المجتمع الرأسمالي سوى باستخدام الوسائل الثورية المُتنوعة.

  إن حرب المناصب هي التحضير لمرحلة حتمية وحاسمة من الثورة الاجتماعية. كان تطوير سياسة غزو الهيمنة الثقافية والأخلاقية للطبقات العاملة بالنسبة لغرامشي مرحلة ضرورية – خاصة في الغرب – لتمهيد الطريق للثورة، لكنها لم تُلْغِ بأي حال من الأحوال الحاجة إلى المواجهة.

يتطلب بناء الاشتراكية تطوير الهيمنة و”الإصلاح الفكري والأخلاقي” الأساسي وتوفير أساس متين للعملية المعقدة لبناء الاشتراكية.

استخدم الحزب الشيوعي الإيطالي، منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وخاصة منذ العام 1970، قراءات أو تأويلات تيار “ما بعد الحداثة” لأطروحات غرامشي، لتبرير سياسة الوفاق الطبقي المعروفة باسم “التسوية التاريخية”، غير إن العديد من المُثقّفين والباحثين المشهورين، من تيارات عدة، مثل نوربرتو بوبيو (من تيار الديمقراطية الإجتماعية) أكّدوا بأن غرامشي لم يقترح أبدًا سياسة التواطؤ أو التّحالف مع البرجوازية، ومَثّلت كتابات وأطروحات غرامشي تطويرا للنظرية الإشتراكية العلمية في الوضع الملموس للمجتمع الإيطالي في ذلك الوقت، أي إيطاليا في ظل الفاشية.المرجع: أنطونيو غرامشي. “السياسة والدولة الحديثة” –  إصدارات شبه الجزيرة.

تأثير الهيمنة الإيديولوجية الإمبريالية على مواقف المُفكرين الأوروبيين  – بعض انطباعات إدوارد سعيد عن أهل الفكر في فرنسا

دَوَّنَ إدوارد سعيد ( 1935 – 2003 ) بعض انطباعاته بعد لقاء بعض مشاهير الأدب والفكر والفلسفة في فرنسا، منتصف كانون الثاني/يناير سنة 1979 (بعد توقيع اتفايات كمب ديفيد بين النظام المصري والكيان الصهيوني)، بدعوة من جان بول دي بوفوار، باعتبارهما المُشرفين على مجلة “الأزمنة الحديثة”، بهدف “المُشاركة في لقاء لتبادل الأفكار حول موضوع السلام في الشرق الأوسط”، ووَثّقَ إدوارد سعيد ملاحظاته ضمن مقال نشرته صحيفة الأهرام المصرية (نيسان/ابريل 2000)، وترجمتها إلى الفرنسية الصحيفة الشهرية ”لوموند ديبلوماتيك” أيلول/سبتمبر 2000

تناولت كتابات إدوارد سعيد العلاقة بين المعرفة والسلطة، أو توظيف الثقافة لتكريس الهيمنة السياسية، وهو موضوع كتابه الأهم بعنوان “الاستشراق”، ويُحلّل المؤلف وسائل المستشرقين لتبرير “الأساس العلمي للهيمنة الإمبريالية على الشرق الأدنى”.

كتب “جان بول سارتر” مقدّمة كتاب فرانتز فانون “المعذبون في الأرض” وكان موقف سارتر من استقلال الجزائر مُتميّزًا، أَوْضَحَ مناهضته للإستعمار، واهتمامه بنضالات وبمصير الشعوب المضطهَدة، غير إن موقفه من القضية الفلسطينية كان سيئًا ومنحازا للكيان الصهيوني، ويعتقد إدوارد سعيد إن دور سيمون دي بوفوار والكاتب الخاص لجان بول سارتر (بيير فيكتور، واسمه الحقيقي بيني ليفي، وهو صهيوني ملتزم ) حاسم في صَهْيَنَة سارتر، غير إن ملخص وقائع الندوة الصادر في مجلة الأزمنة الحديثة، امتدح أنور السادات، العربي الطيب، حسب توصيف خلاصة الندوة، وخُصّصت الندوة لموضوع “التعايش بين الإسرائيليين والعرب”، مع استبعاد الحديث عن الشعب الفلسطيني وظروف استعمار وطنه…

تمسك سارتر بموقفه الصهيوني ورفض اعتبار الفلسطينيين ضحايا الحركة الإستعمارية الإستيطانية الصهيونية، واعتَبَرَ إدوارد سعيد إن وقائع هذه الندوة كانت بمثابة مرآة تعكس “استلاب الفلاسفة الفرنسيين الجدد بخصوص تصورهم عن الصراع في الشرق الأوسط، واعتبار دعم الفلسطينيين عنوانا للراديكالية الإيديولوجية، ومعاداة السامية…”

سجّل إدوارد سعيد خيبته من الموقف الإستشراقي السّلبي الذي مثلته سيمون دي بوفوار بخصوص العرب والإسلام والشّرق، وهي النّظْرَة التي رسّخَها الإستعمار في الخيال الجماعي الأوروبي ك”شرق ذكوري وعنيف”، وسجّل إحباطه من أحاديثه مع جان بول سارتر، وخصوصًا من لقائه مع ميشيل فوكو الذي كان مُتَحيِّزًا بشكل أعمى للصهيونية، ويرفض مجرّد الحديث “بخصوص موضوع الشرق الأوسط” مع إدوارد سعيد، لا لشيء سوى إن إدوارد سعيد من أصل فلسطيني، ولو إنه يُعتَبَرُ باحثًا أمريكيا، وما موقف فوكو من القضية الفلسطينية سوى نموذج لرأي عدد كبير من المثقفين الفرنسيين، مقابل بعض “الإستثناءات” التي تضم المؤرخ بيير فيدال ناكي وجيل دولوز وجان جينيه…

يُمثّل ميشيل فوكو (1926 – 1984) ذلك الرّجعي أو الفَوْضَوِي اليَمِيني الذي يُغلّف مواقفه بالدّفاع عن التنوع وبنقد “السّلطة” بشكل مُبْهَم، لأنه لا يقصد السلطة السياسية والإقتصادية أو سلطة رأس المال، وإنما “السلطة المنتشرة في كافة الهياكل التقليدية” وفق مقابلة نُشرت سنة 1978، واستنتج فوكو ضرورةَ “التّخَلِّي عن النّضال الإيديولوجي”، وأصبح فوكو، بداية من سنة 1975، يُركّز على الذّات والجري وراء المتعة الذاتية، وَتَوَصَّلَ إلى التقارب مع منظري السوق الرأسمالية النيوليبرالية، ومع ميلتون فريدمان، وخلصت وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)  قبل وفاته سنة 1984 إلى أن “اليمين الجديد يمكن أن يشير إلى مجد ميشيل فوكو” الذي بدأ مساره معارضًا لنشر السلطة، وانتهى إلى الليبرالية الجديدة والتقليل من مركزية الدّولة “وتخليص الدولة من تدخلاتها المرهقة وغير الفعالة والمكلفة في حياة الأفراد”، مع رفض اعتبار إن الدّولة تمثل مصالح طبقة أو ائتلاف طبقي، وكانت تلك الأفكار جزءًا من مُساهمة فوكو في عودة ظهور النيوليبرالية في فرنسا خلال ثمانينيات القرن العشرين…

 

رابط المداخلة السمعية البصرية يوم الجمعة 15 آذار/مارس 2024 على الساعة الثامنة والنصف مساء بتوقيت الجزائر وتونس وباريس

https://www.youtube.com/watch?v=-rTTV87YHPE

التعليقات مغلقة.