أفريقيا والإرث الإستعماري، على هامش ما يحدث في السنغال / الطاهر المعز

304

الطاهر المعز ( تونس ) – الثلاثاء 5/3/2024 م …

 يمنع دستور السنغال رئيس الجمهورية من الترشح لولاية ثالثة، لكن الرئيس ماكي سال عرقل، طيلة سنتَيْ 2021 و 2023 2023، ترشيحات معارضيه لانتخابات 2024، وأعلن أخيرا بشكل مفاجئ، يوم الثالث من شباط/فبراير، تأجيل الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها يوم 25 شباط/فبراير 2024، وقدّمت المعارضة طعنًا وتظاهر السكان، قبل أن يتم إلغاء القرار من قبل المجلس الدستوري الذي دعا رئيس الدولة المنتهية ولايته إلى تنظيم الإنتخابات “في أقرب وقت ممكن”.

السياق: أراد الرئيس ماكي سال تغيير الدستور والبقاء في السلطة، مثل العديد من زملائه الأفارقة، وأراد الاستفادة من المداخيل المالية الكبيرة المتوقعة من مكامن الغاز والنفط المكتشفة مؤخرا قبالة السواحل السنغالية الموريتانية، مُعْتَقِدًا إن هذه الإيرادات سوف تُساهم في تمويل موازنة الدولة والحفاظ على الفساد الذي تعاني منه البلاد وأجهزة الدولة، وتمكنه الإيرادات من شراء بعض الشرائح الإجدتماعية، بهدف البقاء في الحُكْم أطْوَلَ مُدّة، وحصل مُخطّط السيد ماكي سال على دَعْم الشركات متعددة الجنسيات والبرجوازية المحلية لاستغلال هذه الثروة وترك بعض الفُتات للسكان المحليين.

تَتَنَزّل الاحتجاجات الشعبية في السنغال في سياق إقليمي من التنافس بىن هيمنة الإمبريالية الفرنسية (التي تدعم ماكي سال) والإمبريالية الأمريكية في هذه المنطقة، فضلا عن منافسة الصين وروسيا، وتُهَيْمِن الإمبريالية الفرنسية من خلال العديد من الأدَوات، ومن بينها الفرنك الأفريقي المرتبط باليورو ( بعد أن كان مرتبطًا بالفرنك الفرنسي، قبل اليورو) وبالمصرف المركزي الفرنسي، كما إن السنغال عضو بالمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا – إيكواس (سيداو بالفرنسية)، وهي منظمة لدول غرب أفريقيا تدافع عن مصالح الإمبريالية، وتتميز السنغال، مثل العديد من البلدان الأخرى لمجموعة إيكواس، بانفجار عدم المساواة والفساد والفقر والبطالة، مما يدفع آلاف الشباب إلى الهجرة غير النظامية إلى أوروبا، رغم المَخاطِر.

تُعَدُّ السنغال إحدى أقدم المستعمرات الفرنسية في أفريقيا، حيث يعود تاريخ استعمار أجزاء منها إلى القرن السابع عشر، واستخدم الجيش الفرنسي السنغال كنقطة انطلاق لاستعمار الدول الأخرى ومَوْقِعًا لِفَرْز ولتجنيد القوات الاستعمارية، كما أتاحت المدارس الفرنسية في السنغال تدريب نخبة من الشباب الذين تعلموا اللغة وتغذوا بالثقافة الفرنسية ( أي الإيديولوجيا الإستعمارية)، وأصبح العديد منهم خَدَمًا مُخْلِصين للإستعمار، مثل ليوبولد سيدار سنغور، المدافع الشرس عن الفرانكفونية وأول رئيس للسنغال “المستقلة” سنة 1960، وهو استقلال منقوص مَكّن الإمبريالية الفرنسية من تنصيب عُملائها وإبرام الإتفاقيات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تسمح باستغلال الموارد وتسمح للجيش الفرنسي باستخدام قواعده في النيجر أو السنغال أو تشاد وغيرها لمحاربة القادة التقدميين في مالي أو الكاميرون أو غينيا أي بلد آخر، وكان الجيش الفرنسي مسؤولا عن أكثر من 40 عدوانًا عسكريا في أفريقيا خلال ستة عُقُود، وتتمثل الهيمنة الإقتصادية في استغلال الشركات الفرنسية لثروات وموانئ هذه البلدان، كما تتم طباعة الفرنك الأفريقي (عملة اثنتي عشرة دولة أفريقية) والتحكم فيها من قبل المصرف المركزي الفرنسي الذي يوجه اقتصاد هذه البلدان التي يحكمها قادة عُملاء لفرنسا، ويتقاسم زعماء ساحل العاج والسنغال والغابون وتشاد وغيرهم صفقات تجارية وعقارية وسياحية مربحة مع المستثمرين الغربيين، وخاصة مع الشركات الفرنسية، في حين يعيش غالبية سكان هذه البلدان في حالة من عدم الاستقرار، بسبب الحروب والنزاعات التي تُثِيرها الشركات العابرة للقارات، وفي حالة فقر، الأمر الذي أثار السخط والمعارضة للسياسة الفرنسية التي تتحكم في مصير شعوب العديد من البلدان…

في هذا الإطار العام، يأتي قرار الرئيس السنغالي ماكي سال بتأجيل الانتخابات الرئاسية التي كان مُقَرّرًا إجراؤها يوم 25 شباط/فبراير 2024 إلى أجل غير مسمى، بعد سجن زعيم المعارضة اليسارية سونكو ( رئيس بلدية زيغنشور) لمنعه من الترشح، كما تم اعتقال وسجن العديد من المُعارضين، بين سنتَيْ 2021 و 2023، كتعبير عن إفلاس النظام في السينغال والبلدان المماثلة التي يخدم قادتها مصالح الإمبريالية الفرنسية، وتَضُمُّ عواصم هذه البلدان ( كالسينغال وساحل العاج ) المباني التجارية والفنادق الفاخرة التي ترتفع في أحياء غننة من المدن الأفريقية، وعلى مسافة قريبة منها توجد أحياء مكتظة بالفُقراء وبالعمال غير النّظاميين والشباب المُعطّلُون عن العمل الذي يُكافحون من أجْل البقاء على قيد الحياة من خلال الأعمال التجارية الصغيرة أو الوظائف “غير الرسمية“.

يُمثّل هذا الوضع المُجحف والتبادل غير المتكافئ بين الدّول الإمبريالية والبلدان الفقيرة جزءًا من الإرث الاستعماري الذي لم يترك سوى عدد قليل جدًا من منصات البنية التحتية ومن الصناعات، وكان القطاع الوحيد الذي طوره المستعمر هو تجارة تصدير المنتجات الطبيعية غير المصنعة، مثل المعادن والنّفط الخام، أو الإنتاج الزراعي كالكاكاو والموز، فضلاً عن الفرنك الإتحاد المالي الإفريقي، وهو أهم إرث استعماري، لا يزال العملة الرَّسْمِية ل 14 دولة أفريقية كانت جزءًا من الإمبراطورية الفرنسية، وهي عملة مطبوعة في باريس، ويسيطر عليها المصرف المركزي الفرنسي بإشراف المصرف المركزي الأوروبي ( بعد أن كان المصرف المركزي الفرنسي يهيمن عليها بصورة حَصْرِيّة، قبل إنشاء العُملة الأوروبية المُوَحّدة)، مما يعني أن أياً من هذه الدول لا تتمتع بسيادتها النقدية والاقتصادية ولا في مجالات التجارة الخارجية والتحويلات المالية الدّولية، ويرتبط اقتصاد هذه الدّول بخيارات الرأسمالية الأوروبية التي يجسدها الاتحاد الأوروبي، والتي تفضل الاستثمارات المضاربة بدلا من الاستثمارات الإنتاجية في السنغال والدول المماثلة، وتصدير الأرباح المحققة إلى المصارف الغربية والملاذات الضريبية، أو شراء العقارات الفاخرة.

بعد مرور ستين عاماً على هذه الاستقلالات الاستعمارية الجديدة، لا تزال البلدان الأفريقية تفتقر إلى الصناعات ــ اللازمة لمعالجة المواد الخام التي تنتجها ــ وتفتقر إلى فرص العمل، كما أدّت خياراتها السياسية والإقتصادية إلى تدمير الزراعة، ما أدى ذلك إلى النزوح من الريف إلى المُدُن، وما عَزّز “الاقتصاد غير الرسمي” ليتمكن الفقراء من البقاء على قيد الحياة، ويحول تطور الإقتصاد الموازي دون حصول العاملين على حق التّأمين والتقاعد ودون تحصيل الضرائب الذي يمكن استخدامها لتمويل الخدمات العامة والتعليم والصحة، واضطر مئات الآلاف من الشباب المؤهلين إلى البحث عن وظائف هشة، ويحلم معظمهم بالهجرة إلى أوروبا أو أمريكا الشمالية، هربًا من الفقر، رغم ارتفاع المبالغ التي يُسدّدونها للمُهَرِّبين، ورغم مخاطر الموت غرقاً.

تعكس اتفاقيات الشراكة، بين البلدان الإمبريالية والبلدان الواقعة تحت الهيمنة، العلاقات أو المُبادلات غير المتكافئة بين “المركز” الأوروبي و”المحيط” الأفريقي، ودمرت هذه الاتفاقيات الزراعة الأُسَرِية والحِرَف اليدوية وصيد الأسماك التقليدي أو الحرفي… كما تسبب هذا الشكل من الاستعمار الجديد في أضرار اقتصادية واجتماعية عميقة من العسير إصلاحها، وتعكس الأزمة السياسية الحالية في غرب أفريقيا، بالإضافة إلى الحرب في الكونغو أو السودان أو غيرها، مأزق الواقع الاستعماري الجديد.

إن الحركة التقدمية مطالبة بإيجاد حلول لتجسيد وتكريس القطيعة مع الإمبريالية والرأسمالية لبدء مرحلة إعادة البناء الاقتصادي والاجتماعي على نطاق القارة الأفريقية، أو قارة آسيا أو أمريكا الجنوبية، وجَسَّدَ مشروع الوحدة الأفريقية حلم زعماء أفريقيا التاريخيين المناهضين للاستعمار، ومن بينهم باتريس لومومبا وكوامي نكروما وجمال عبد الناصر وأحمد سيكو توري… ويحتاج مشروع الوحدة الإفريقية وهذا النوع من المشاريع إلى التحديث لمواكبة التطورات والمُتَغَيِّرات بهدف ضمان السيادة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلدان الأفريقية، لصالح قارة أفريقيا وأهلها، وما ينطبق على إفريقيا ينطبق كذلك على البلدان العربية التي تتمتع بمزايا عديدة، من بينها الإمتداد الجغرافي من المحيط إلى الخليج والحضارة والتاريخ المُشترك واللغة والثقافة والطّموحات الشعبية…  

 

التعليقات مغلقة.