أعمق تحليل لما يجري في لبنان … د. حياة الحويّك عطيّة تكتب: من بلغراد إلى بيروت.. قبضة واحدة وأقنعة تخفي أجندات

776

د. حياة الحويّك عطيّة – الأربعاء 18/12/2019 م …

ماذا يعني أن يكون النشطاء المصريون تلقّوا تدريباتهم في لبنان منذ ما قبل 2011؟ يلقى هذا السؤال أهمية مع اعتراف مسؤولي “كانفاس” بأنهم يعملون على سوريا منذ عام 2003. وعليه، أية صدفة أن يختار الحراك اللبناني شعار “أوتبور” المعروف عالمياً، قبضة اليد، وفي مجسّم أكبر من أيّ آخر رُفِع حتى الآن؟

حراكان يعيدهما إلى الذهن الحراك اللبناني ومآلاته، رغم أن تركيبتهما معكوسة. الأول قاده اليسار ضد اليمين والآخر قاده اليمن النيوليبرالي ضد آخر قلاع اليسار في أوروبا. حراك 1968 في فرنسا وحراك 1989 -2000 في يوغوسلافيا.
الأول خاضته مجموعة مُناضلي اليسار الفرنسي لإحلال برنامجهم الفكري، الثقافي، الاجتماعي، في بلادهم بعد أن بنوا أرضيّة حقيقية واضحة ومُعمَّقة، ساهم فيها كبار مُفكّري العصر الحديث في أوروبا، لكن كوهين بنديت الذي التحق بهم قادماً من ألمانيا ومعه مجموعة اخترقت صفوفهم، التفّوا على مطالبهم وحوَّلوا حراكهم إلى مُجرَّد عملية ضغط لإسقاط الجنرال ديغول بعد عام من تصريحاته الشهيرة ضد “إسرائيل” إثر حرب 1967. وذهب الثوار الحقيقيون إلى حال إحباط عبَّرت عنها إحداهم، جوليا كريستيفا، في رواية ضخمة شهيرة بعنوان “السامورائيون”.
الحراك الثاني قاده طلاب مُنشقّون عن الحزب الشيوعي الصربي في جامعة بلغراد، ضد حُكم سلوبودان ميلوزوفيتش، مُستغلّين تذمّر الناس من الحال الاقتصادية والسياسية في البلد، ليكتمل بالقصف الأطلسي الذي أنهى آخر قاعدة للكتلة الاشتراكية في شرق أوروبا، وقسَّم البلاد إلى فتات، وعاقب الرجل الذي تمرَّد على العولمة النيوليبرالية.
المُشتَرك الوحيد بين التجربتين حصاد التحالف الأميركي الأطلسي اليهودي لنتائجهما.
غير أن الأهم في التجربة الصربية، أن منظمة “أوتبور” التي أطّرت المعارضة، وبرنامج معهد “كانفاس” المنبثق عنها، تحوّلا بإدارة وتمويل أميركيين صهيونيين إلى دليلٍ يقود جميع الحراكات التي تنشأ في الدول التي يرى التحالف المذكور ضرورة التغيير فيها أو مُعاقبتها، بعد أن تكون الإجراءات الداخلية والخارجية قد مارست الخنق الكافي على الناس لدفعهم إلى تأييد أية معارضة، على الأقل في المرحلة الأولى التي تسبق جلاء الأمور.
هذا ما عبَّر عنه تقرير في صحيفة “الجورنالي” الإيطالية بقوله: “التحوّلات التي شهدتها المنطقة العربية منذ 2011 تكشف أنه ليس أسهل على مَن يريد، صناعة ربيعه العربي الخاص، شريطة معرفة الوسائل والحصول على التمويل”، مذكِّراً بكتاب ألفريدو ماكي المُعنوَن “الثورات أس بي أي” حول طريقة عمل منظمات خارجية في المنطقة العربية والشرق الأوسط.
ويلتقي ذلك مع ما قاله، مديرا معهد “كانفاس” التابع لمنظمة “أوتبور” في صربيا، سيرجيو بوبوفيتش وسلوبودان جينوفيتش، من أن منظمتهما تستهدف سوريا منذ عام 2003. هذا الكلام قيل في محاضرةٍ بكليّة كينيدي في جامعة هارفارد الأميركية، بتاريخ 5 تشرين الأول/أكتوبر 2011. ويتقاطع هذا مع ما اعترف به نشطاء حركة “6 إبريل” في مصر من أنهم تلقّوا تدريبات على يد “كانفاس” في كل من صربيا، وأميركا، وتركيا، وبولونيا وعدّة دول أخرى منها لبنان.
هنا نتوقَّف. ماذا يعني أن يكون النُشطاء المصريون تلقَّوا تدريباتهم في لبنان منذ ما قبل 2011؟  يلقى هذا السؤال أهمية مع اعتراف مسؤولي “كانفاس” بأنهم يعملون على سوريا منذ عام 2003. وعليه، أية صدفة أن يختار الحراك اللبناني شعار “أوتبور” المعروف عالمياً، قبضة اليد، وفي مُجسَّم أكبر من أيّ آخر رُفِع حتى الآن؟

أسئلة مفاتيح

أسئلة مفاتيح، تُحيل إلى البحث في نشوء هذه المنظمة والشبكة الكبيرة التي تعمل من ضمنها، إعلامها ومُموّليها، كما تُحيل إلى أساليب عملها وأهدافها، التي هي في الحقيقة أهداف مُشغّليها.
النشأة أطلسية – أميركية، بدأت عام 1986، للتمرّد على نظام ميلوزوفيتش، والتمهيد لعمليات القصف الجوي لحلف شمالي الأطلسي. ومن ثم التحوّل بعد تحقيق الهدف إلى مركز دراسات اللاعنف (CANEVAS)، المُموَّل أميركياً، والناشِط لخدمة الاستراتيجيات الأميركية على مستوى العالم. هدفه النهائي (بعد الشرق الأوسط) روسيا والصين، كما يقول.
التمويل: جورج سويروس، بيتر أكيرمان، الكونغرس الأميركي، وزارة الخارجية الأميركية، البنتاغون، إضافة إلى بعض الأحزاب الغربية وأجهزة المخابرات.
التشبيك: عند البحث تجد أنك أمام شبكة عالمية خطيرة، مركزها أميركي، تتشابك فيها أسماء كثيرة تتفاوت في حجمها منها: “فريدوم هاوس”، الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، صندوق الهبة الوطنية لأجل الديمقراطية (NED)، أكاديمية التغيير، “أوتبور”، “كانفاس”،  “موفمنتس” (Movements )، برنامج جيل جديد المُنبثق عن “موفمنتس”، (Cyberdissidents)، معهد ألبرت أنشتاين، صندوق المجتمع المفتوح، منظمة أديلسون، بناي بريث، الرابطة اليهودية لمُكافحة التشهير، هوكاست، AYM)، MSNBC، MTV، Tard,AT، Acces 360 Media). تضاف إلى هذه الأسماء أسماء مُحرِّكات ومنصَّات الاتصال المعروفة للجمهور أكثر: غوغل، فايسبوك، تويتر ويوتيوب.
وأخيراً المجتمعات المدنية المفتوحة (NGOS) التي تضمّ عشرات آلاف منظّمات المجتمع المدني المُموَّلة من قِبَل هذه المؤسّسات الكُبرى، أو مباشرة من قِبَل الدول وأجهزة استخباراتها أو المنظمات التابعة لأحزابها، والتي يخضع أعضاؤها لدوراتٍ تدريبيةٍ مُبرمَجة ومُنسَّقة من قِبَل هذه المؤسّسات بما فيها “كانفاس”.
الوسائط: في كانون الثاني/ يناير 2008 بدأت “كانفاس” برنامج الدراسات العليا المشترك في كلية العلوم السياسية في جامعة بلغراد تحت عنوان “استراتيجيات وطُرُق التغيير الاجتماعي اللاعُنفي”. ثم انتشرت بين مجموعة متنوِّعة من المؤسَّسات التعليمية في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك في جامعة هارفارد (كلية كينيدي للقانون)، وكلية فليتشر للقانون والدبلوماسية، بوسطن، ماساتشوستس، جونز هوبكنز، جامعة كولومبيا، روتجرز، كلية كولورادو، وجامعة جورج تاون وجامعة كولومبيا.
كما أنها تنشر تعاليمها من خلال مجموعة مُتنوِّعة من الوسائط، بما في ذلك وِرَش العمل (حضرها أكثر من 1000 شخص من 37 دولة)، والكتب وأقراص DVD والدورات التدريبية، التي تعتمد مناهج قابلة للتكيّف بسهولةٍ حسب البلدان.

الاستراتيجيات والتكتيكات المُعتمَدة

أخيراً الاستراتيجيات والتكتيكات المُعتمَدة في الحراكات، وهنا لا بد من الإحالة إلى وثائق كثيرة أهمّها كتاب “دليل الثورات اللاعُنفية” الذي أعدَّه أربعة أشخاص: مديرا “كانفاس” مع إيفان ماروفيتش الباحِث في مركز ألبرت أنشتاين والمُكلَّف بالإشراف على عمليات التدريب، وناشِطة صربية. الكتاب مُترجَم إلى لغات العالم بما فيها العربية والفارسية، وتحليل مضمونه يحتاج إلى مساحاتٍ من الرَصْد والتحليل، نكتفي منها ببعض الإلماحات:
• العفوية أم الإعداد: يبدأ الكتاب بفصل مُطوَّل عن الإعداد، ويقول ماروفيتش في مقالٍ في مجلة “فورين أفيرز”: “غالباً ما يُنظَر إلى الثورات على أنها عفوية.. يبدو الأمر كما لو أن الناس قد خرجوا إلى الشوارع للتوّ، لكنها نتيجة أشهر أو سنوات من الإعداد. تكون مُملِّة للغاية حتى تصل إلى نقطة معينة، حيث يمكنك تنظيم تظاهرات أو إضرابات جماعية، إذا تم التخطيط لها بعناية، ينتهي كل شيء في غضون أسابيع من بدئها”.
• القيادات الخفيّة والظاهرة: في جميع الحراكات، بما فيها الصربي، تبرز أسماء قيادات شابّة وتسوّق لكنها لا تكون في الحقيقة إلاّ أدوات تنفيذية لما تخطّطه وتقرّره القيادات الخفيّة التي تعرف الأهداف النهائية.
• التظاهرات الكبيرة والنسبة الشعبية: يكفي التوصّل لإخراج 10% من سكان بلد مُعيَّن في التظاهرات- يقول الدليل- وعندها يطلق عليهم توصيف “الشعب” ويوحى بأنهم الأغلبية، شرط أن تنظّم التظاهرات الكبيرة في الساحات الرئيسة للبلد المعني، وأن تُغطَّى إعلامياً بكثافة واستمرار وتهويل بحيث يشكّل ذلك غطاء كثيفاً يعمل تحته المُحرّكون الأساسيون على تحقيق الأهداف التي خطّطوا لها.
• أعمدة الحُكم أو ركائز الدولة: وهي مؤسَّسات الدولة والاقتصاد والجيش والسلم الأهلي والنظام البرلماني (إن وجِد) إضافة إلى السمعة الدولية. وهذه كلها يجب هزَّها وصولاً إلى انهيارها. أما أجهزة الأمن والجيش والمراجع الدينية والموظفون فقد كتب عنها بوبوفيتش في مقال نشر في مجلة Sojourners Magazine ما يلي: “من المهم بالنسبة إلى الحركات اللاعُنفية أن تجتذب عناصر دعائم الحُكم  مثل الشرطة أو الجيش”، وهذا ما ترجم بصورة تكرَّرت في جميع الحراكات: طفل أو مُسنّ أو شابة يقدِّمون الزهور لرجال الأمن.
•  تنمية التضامُن مع النُشطاء في حال اعتقالهم. حيث يركِّز جزء مهم من المنهج على كيف يمكن للحركات التي تواجه الاضطهاد أن تتغلَّب على الخوف وتأثيراته الضارّة على معنويات الناس وعلى الحفاظ على مستوى الحماس.
• الشعارات والأغاني ورموز الهوية – وهنا تبقى قبضة “أوتبور” شعاراً عاماً يبرز وحدة الحركة العالمية الأميركية الصهيونية، وتتنوَّع إلى جانبه الشعارات والرموز المحلية التي ركَّز علماء الاتصال الأميركيين منذ بدايات القرن العشرين في مدرسة شيكاغو على فعاليّتها وأطلقوا عليها مُصطَلح “الرموز المؤثّرة”.
• إبراز أسماء وحرقها: حسب المراحل يتم التركيز على أسماء مُعيَّنة وإبرازها، سواء من بين الإعلاميين أو النُشطاء أو المُثقّفين، وبعد ترويجها فترة يتم حرقها بوسيلة أو بأخرى بما فيه كشف أوراقها، وذلك كي لا تستقرّ قيادات تطغى على القيادة الحقيقية الخفيّة.
• التركيز على فئات مُحدًّدة في المجتمع: النساء، الطلاب (جامعيين وثانويين) ذوي الاحتياجات الخاصة، المثليين، الأقليات، المُهمَّشين، المُمتنعين عن الانتخابات أو المهزومين فيها.
• المتعة: Revolution Is Fun هو المبدأ الذي كرَّسه بوبوفيتش ببساطة. وتتمثل المتعة في أمرين: الأول مباشر ويعني توظيف وسائل المتعة من غناء ورقص وأنشطة لهو جَمعي وهوايات وفنون وهَزْل وكاريكاتور الخ… شرط الحفاظ على جو المتعة هذا وعدم السماح باستنفاده كي لا تضعف الجاذبية.

أما الأمر الثاني فهو متعة نفسية أعمق غَوراً في النفس البشرية وتتمثّل في أن تُتاح الفرصة لمسحوقٍ أو مقهورٍ أو لجبان، أو حاقِد (طبقياً أو فئوياً أو حتى شخصيا)ً، أو فاسِد، لكي يشتم ويتطاول على مَن لم يكن يجرؤ أن يتطاول عليهم، وتتعاظم متعته كلما تمكَّن من الصُراخ أكثر ومن استعمال شتائم وألفاظ أكثر فظاظة أو إسفافاً، وتتعاظم أكثر كلما ظهر ذلك على وسائل الإعلام أو على وسائل التواصل الاجتماعي. وهنا تدخل متعة زائِفة أخرى هي وَهْم الشُهرة.
• الإعلام ووسائل التواصل: يُشكِّل الإعلام بشكليه التقليدي والجديد (وسائل التواصل) الرافِعة الأساسية للحراكات “الأوتبورية”، فهو الذي يُهيِّئ الأرضية وهو الذي يُحرِّك ويرسم وجه الحراك. وهو يُذكِّر بمقولة لباتريك شارودو: هناك تظاهرة وهناك تظاهرة مُتلفَزة. الأولى غير موجودة، وعليه يستحق هذا البند، ودوره في الحراك اللبناني مقالاً مستقلاً.
أخيراً يقول خبراء “أوتبور” إن التظاهرات لا تسقط نظاماً أو حًكماً ولكنها إما أن تمهِّد الطريق لإسقاطه بعملٍ عسكري هو في الغالب تدخّل أجنبي، وإما أن تفرض أجندة مُعيَّنة كامِنة وراء الحراك، أجندة لا علاقة لها بالغالبية العُظمى من الناس التي نزلت إلى الشوارع والساحات على أمل تحقيق مطالب مُعيَّنة هي في الغالِب معيشية أو مُتعلّقة بالحريات.
ما يُحيل إلى سؤال: هل كان الحراك في لبنان بهذا المعنى حراكاً من أجل إطلاق يد سعد الحريري لتحقيق أجندة مُعيَّنة، بعيداً عن كل أحلام الذين يصرخون ويرقصون ويفترشون الأرض؟