الدروس المستفادة من جون بولتون / د بثينة شعبان

290

 

 

 

 

د. بثينة شعبان ( سورية ) – الثلاثاء 17/9/2019 م …

كان من الممتع والمفيد جداً متابعة ردود الأفعال على إقالة مستشار الأمن القومي الأميركي بتوجيه من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وعلّ أغنى هذه الردود وأهمهما صدرت عن مسؤولين ومحللين وإعلاميين في الولايات المتحدة نفسها وفي الصحافة الغربية بشكل عام.

فقد كتب بين ويدمان «للسي إن إن» أن أسعار النفط انخفضت بنسبة (2.2) بعد دقائق من الإعلان عن إقالة بولتون وأن شبح الحرب الكارثية في الشرق الأوسط تراجع بشكل ملحوظ. ففي عام 2015 كتب بولتون في النيويورك تايمز «لإيقاف القنبلة الإيرانية اقصفوا إيران»، كما أن ويدمان يؤكد أن بولتون كان متحدثاً دائماً في اللقاءات السنوية لمجاهدي خلق وكان يتقاضى أموالاً منهم مقابل أحاديثه هذه. وأكدت التحليلات والمعلومات المتقاطعة التي كشفت عنها مصادر عدة أن بولتون كان دائماً سعيداً بدق طبول الحرب وغالباً ما يقف متشدداً ضد الجهود الدبلوماسية سواء أكانت مع إيران أم روسيا أو كوريا الشمالية أو أفغانستان، وهو الذي دعا إلى تغيير الأنظمة في السابق سواء في العراق أم ليبيا أو كوريا الشمالية أو فنزويلا. وتقول المصادر إن ترامب كان يمازح زواره قائلاً: «أقدّم لكم جون بولتون العظيم الذي يرغب أن يدمّر بلدانكم». ومن الواضح من كلّ ما كتب أن بولتون يؤمن بالقوة العسكرية سبيلاً لإخضاع الشعوب والبلدان، وآخر ما يمكن أن يفكر به هو تأثير هذه الحروب على حياة الناس الأبرياء بمن فيهم الجنود الأميركيون الذين يُزَجّ بهم لخوض هذه الحروب العبثية. فقد خاضت الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول حروباً لا مبرر لها في أفغانستان والعراق، وقتل في أفغانستان وحدها 2372 من القوات الأميركية منذ أن دخلت هذه القوات أفغانستان عام 2011. وحسب التقديرات فإن الولايات المتحدة قد دفعت 3.6 تريليونات دولار على الحروب في الشرق الأوسط بين عامي 2001-2016، علماً أنه على الولايات المتحدة 22 تريليون دولار من الديون، ويتساءل الأميركيون اليوم ما الذي حصلت عليه أميركا مقابل كل هذا الفقد والدين من الحروب؟

هناك عاملان أساسيان أدّيا إلى هذه النتائج المخجلة فعلاً في التاريخ الأميركي والكارثية على الشعوب والبلدان التي وقعت عليها هذه الحرب: العامل الأول هو أن حروب الولايات المتحدة في الشرق الأوسط يبدأ مفهومها والترويج لها ولضرورتها من الكيان الصهيوني الغاصب مدعوماً بحفنة من المتصهينين في الإدارات الأميركية، ولا تهدف هذه الحروب إلى خدمة أميركا أو الأميركيين بل تهدف إلى تدمير البلدان العربية وتعزيز قوة هذا الكيان وقدرته على الاستيطان والتهجير والقتل وتغيير الوقائع على الأرض بما يخدم أهدافه. وفي هذا الصدد علينا فقط أن نتذكر دور الكيان الرهيب في دق طبول الحرب ضد العراق وتحريضه المستمر على الضربة العسكرية وموقف الكيان من الاتفاق النووي الإيراني مع (5+1) والذي كان رافضاً لهذا الاتفاق، كما أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان شريكاً أساسياً لبولتون في إقناع الإدارة الأميركية بالانسحاب من هذا الاتفاق. ولذلك فإن إقالة بولتون بعد الفشل الذريع لأفكاره ومقترحاته تعتبر أيضاً ضربة مهمة لمصداقية نتنياهو وما يروج له بشأن الجمهورية الإسلامية الإيرانية. العامل الثاني والمهم الذي أدى إلى هذا الفصل المخجل في تاريخ السياسة الأميركية هو أن التقييمات التي يتم تقديمها للإدارة الأميركية عن البلدان التي تستهدفها حروب أميركا هي معلومات وتقييمات في الغالب مضلّلة يقوم بها بعض المرتزقة من الذين خانوا أصلهم وبلادهم من أجل مكاسب ذاتية صغيرة وفتات على موائد واشنطن وتل أبيب. وقد برهنت الحروب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق وليبيا وسورية (من خلال أدوات) والضغوط التي مارستها على إيران وفنزويلا أن هذه التقييمات لا علاقة لها بالواقع وأنها قد أثبتت فشلها الذريع مرة تلو أخرى. فقد أصبح وزير الخارجية الأميركية الأسبق كولن بأول أيقونة المسؤولين المُغرّر بهم أو الذين لا يعرفون أو يدركون ما يقولون في أهمّ منصة أممية بعد تأكيده أن العراق يمتلك أسلحة كيميائية ونووية، وقد أثبت التاريخ والواقع كذب هذه المقولة. وحين بدؤوا بشن الحرب على سورية من خلال أدواتهم الإرهابية كانت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون تحلم بقطف ثمار سياستها الحمقاء حتى قبل أن تغادر منصبها واستمروا في غيّهم حول ما أسموه «النظام» السوري والبلد، وبرهن التاريخ أن كلّ توقعاتهم كاذبة لأنها تعتمد على حفنة من المرتزقة ولأنه لا علم ولا دراية لديهم بواقع الحال في هذه البلدان ولا بتاريخ شعوبها وعراقة وعظمة هذه الشعوب. وحين اقنع بولتون الرئيس ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني تمّ تصوير الأمر وكأنّ إيران مقبلة على كارثة داخلية، وتمّ استخدام التحريض والاستهداف في الداخل الإيراني بأسلوب بشع وفج، وقد كانت نتيجته زيادة اللحمة في المجتمع الإيراني وتماهي جميع الفرقاء مع مصلحة بلادهم ووقوفهم صفاً واحداً كالبنيان المرصوص في وجه من يحاول استهدافهم. وها هو بولتون يُقال بطريقة مهينة على حين ازدادت إيران قوة وحجة وتمسكاً بقضاياها العادلة. ولم تكن التجربة مع فنزويلا مختلفة فقد ساد الوهم أنهم يستطيعون أن يطيحوا بالرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو وتمكنوا من شراء ذمة سفيره في الأمم المتحدة وظنوا أنهم سوف يغيرون النظام خلال أسابيع عدة فقط ليفاجؤوا للمرة الألف أن الشعوب لها كرامتها التي تدافع عنها وأنها ترفض الإملاءات وتنبذ الخونة والمتآمرين عليها. وكذلك حين استهان بولتون بالمحادثات مع كوريا الديمقراطية أعلنت الأخيرة أنه شخص غير مرغوب فيه وأنها لا تريده أن يكون موجوداً في اللقاء بين الرئيسين الأميركي والكوري الديمقراطي. المهم في الأمر والسؤال الأهم هنا هو هل تقود كلّ هذه الأمثلة والتي كانت من العوامل التي أدت إلى إقالة بولتون، إلى مراجعة شاملة لسياسة الولايات المتحدة الشرق الأوسطية؟ وهل يمكن أن يمتلك العقلاء في الإدارة الأميركية الشجاعة كي يضعوا حداً لسياسات الاحتلال والقهر وبيع الأسلحة للكيانات الاستيطانية والدول التي تدعم الإرهاب؟ وهل يتنبه الساسة في كلّ أنحاء العالم إلى أهمية قول كلمة الحق بشأن أي مسؤول مهما علا شأنه؟ لأن كلمة الحق هذه قد تساعد في تخليص البشرية من شخص بحاجة إلى علاج بدلاً من مركز وحراسة ومكانة. وإذا كان العالم اليوم قد تخلّص من أحدهم بإقالة بولتون فلا شك أن هناك الكثيرين منهم والذين يسببون استباحة البلدان ويرتكبون جرائم بحق الناس الأبرياء في مناطق مختلفة من العالم. لا شك أن التململ الدولي، ومن أكثر من طرف، من عقيدة وسياسة بولتون قد ساهمت في إقالته. ولذلك علينا أن نتذكر أن معاناة البشرية لا يسببها فقط حفنة من غير الأسوياء ولكن يساهم في استدامتها مجموعة كبيرة من الجبناء الذين يخشون قول الحقيقة، ولذلك قال الإمام علي رضي اللـه عنه: «الساكت عن الحق شيطان أخرس»، ولذلك أيضاً فإن الكلمة الصادقة الجريئة لها ثواب في الدنيا والآخرة.